انحطاط التحولات
 

محمد ناجي أحمد

تنطبق حكاية جحا وهو يبحث عن شيء فُقِدَ عليه في مكان غير المكان الذي أضاعه فيه، وحين سئل: لماذا لا يبحث في المكان الحقيقي؟ أجاب بأن المكان هناك معتم ـ البحث أسهل في هذا المكان لأن فيه ضوءاً!- تنطبق على أولئك الذين يتعاطون مع الرغبات المناطقية والجهوية والمذهبية والطائفية على أنها أمر واقع يجب الاعتراف بها وبمطالبها السياسية، وما يترتب على ذلك من تغير في التكوين الاجتماعي! وقس الأمر على التطبيع مع الكيان السعودي وعدوانه على اليمن، فالسعودية - بحسب خطابهم - تغيرت، وأصبحت بقدرتها على التأثير إقليمياً ودولياً تقدمية وعروبية! الأمر ليس أكثر من استسهال البحث في الأماكن المضاءة بالإعلام الغربي والخليجي، بدلاً من كلفة البحث والوعي للعتمة وما تحتاجه من جهد في الرؤية والتحليل!
حكاية جحا يوردها جلال أمين، المفكر الاقتصادي والسياسي، في سياق حديثه عن داعش كصناعة أمريكية، وذلك في مقال له بعنوان (التفسيرات المحلية والعالمية للأحداث العربية)، نشر في صحيفة (الشروق)، الأربعاء، 10 فبراير 2016م.. لم توجد حتى اليوم مركزية حقيقية في اليمن، هناك فيدرالية محاصصات، موازين قوى احتكرت السلطة والمال والحرب الأهلية التي تصنعها السعودية في اليمن بالوكالة عن غرب هو ليس طرفا متأملاً ومحايداً، بل الصانع الرئيسي لها...
هناك فرق بين تطلعات الشعوب نحو علاقة تكاملية بين الحرية والعدالة والوحدة، وبين رغبات المتحاصصين باسم الجهات والمذاهب والعرقيات والطوائف... كل صراع سياسي واجتماعي لا يؤدي إلى مواجهة التحديات التي تكبل الإنسان وتتحايل عليه بمعالجة سياسية لا تهم غالبية الناس، تصبح أيديولوجية تزييفية! لم يكن هناك مركز مناطقي، هناك استخدام لخطاب مناطقي في خدمة أسر وأشخاص فقط! صنعاء لم تكن منطقة حاكمة! نعم كان يتم استخدام ولاء أشخاص من منطقة لخدمة مراكز قوى... كان يتم تشجيع مثل هذا التوجه حتى على مستوى الوزراء والوكلاء ومدراء العموم في استثمار انتماءاتهم كعصبية تخفي حقيقة الاحتكار للسلطة والمال، داخل منظومة الحكم التي انتقلت إلى الصراع في ما بينها بعد أن أسقطت خصمها ونقيضها المغاير لبنيتها.
إن خلق أية علاقة تناقضية بين الوطن والإنسان لا يخدم سوى المشروع الشرق أوسطي الجديد في تفتيت المنطقة باسم الحرية والعدالة! الإنسان ليس كائناً مجرداً، إذا جردته من وطنه فأنت تصنع عبوديته باسم الحرية، وتختلق تعارضات بين قيم وثوابت هي متكاملة، فالذين يتحدثون عن الحرية والعدالة يتغافلون بقصدية عن الإشارة إلى الأرض التي عليها تزهر هذه القيم! 
إن شعاراتنا الوطنية والعروبية ليست إنشاء، ولكنها اختزال لآلامنا وآمالنا، ومن صنعت وسائط الإعلام عقولهم يتوهمون أنهم أحرار وهم يجسدون العبودية بسطح خادع وسرابي! أصحاب دعوات التسليم بمطالب الأمر الواقع يتجاهلون وبعضهم يجهل أن هذا الواقع مصنوع وليس نموا عفوياً! صنعتهم (ميديا) نحو هدف يخدم الغرب وكيانه الصهيوني في المنطقة العربية! هناك مرحلة تحول صانعها الغرب قيمياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، وهي تحتاج إلى صمود وتحدٍّ في مواجهتها لا التبشير والسير في ركابها!
لقد نسينا تصويت الكونجرس الأمريكي بغالبية 75 عضواً مقابل 23 عضواً لتقسيم العراق إلى ثلاث دول: كردي، شيعي، سني، ورغم أن القرار ليس بإلزاميته، ولكن بما يكشفه من تفكير واستراتيجية استعمارية كما يقول السيد ياسين بمقالة له بصحيفة (الحياة)، بتاريخ 7 شباط 2016 م، والذي يوجز ويستنتج فيها ما ذكره المفكر الأمريكي أنتوني كوردزمان، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم، بنقاط يبدو أنها ستساعد في رؤية ما يحدث في الوطن العربي منذ 2011م وحتى الآن، معلقاً على خطة تقسيم العراق بالتالي: (وتبدو خطورة هذه الخطة الإمبريالية في أنها المرحلة الأولى من مراحل التفتيت الكامل للوطن العربي. ولو تأملنا الأوضاع البالغة التعقيد في سوريا لأدركنا أن هناك خطة لم يعلن عنها بعد لتقسيم سوريا. وهناك على المدى المتوسط خطط استراتيجية لتفتيت المملكة العربية السعودية، بل إن مصر نفسها، وهي النموذج الأمثل لمجتمع مترابط ومستقر، يتم التآمر أيضاً لتقسيمها سواء على أساس ديني بين المسلمين والأقباط، أو على أساس عرقي من خلال إثارة مشكلات النوبة من حين إلى آخر... معنى ذلك أن خطة إقامة (شرق أوسط جديد) كما رددته من قبل الأوساط السياسية الإسرائيلية وبعض القيادات الأمريكية يتم تنفيذها على مراحل للقضاء النهائي على الهوية القومية العربية. هذا هو التحدي الإمبريالي، فكيف ستكون الاستجابة العربية).

أترك تعليقاً

التعليقات