إن (حزب الله) هم الغالبون..
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

إن (حزب الله) هم الغالبون..
يمثِّل اللسان الخليجي اليوم ـ وبصورة أكثر سفوراً ومباشرة من ذي قبل ـ ترجماناً مخلصاً لحشرجات المشروع الصهيوأمريكي المحتضر في المنطقة العربية، على أن هذه المشيخات الطافرة من رحم النفط، كانت ولا تزال منذ صفر النشأة كيانات وظيفية ملحقة كحيازات بشركات التنقيب الإنجلوأمريكية، ومقطوعة الصلة ـ بالقصور الذاتي ـ بفضاء الهموم العربية المختلج بأسئلة النهوض والتحرر والنزوع الوطني القومي للاستقلال.
بالنسبة لمجموعة بلدان الجمهوريات العربية التي انبثقت من رحم الكفاح ضد الوصاية المباشرة وغير المباشرة للاستعمار الغربي، فإن التضاد كان ـ بالنتيجة ـ ناظماً حتمياً لطبيعة العلاقة بينها وبين كيانات البترودولار المتسقة من حيث النشأة والدور ووجهة التطور، مع التطلعات الاستعمارية الغربية في أطوارها المتعاقبة وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
هذا التضاد لم يكن يصح بالأمس توصيفه كتضاد (عربي ـ عربي)، مفتوح بلا محددات، وإنما (عروبي تحرري نهضوي يقابله رجعية عربية كمبرادورية)، وهو كذلك اليوم كما بالأمس، بيد أن تلوين ضفة الحركات التحررية المجابهة للهيمنة الامبريالية اليوم، بألوان طائفية، وتجييرها لغير سياقها العربي الموضوعي بوصفها (مداً صفوياً مجوسياً)، من قبل إعلام البترودولار، هو تلوين لا يوارب جوهر الصراع بقدر ما يشوش عليه لدى البعض، كما لا ينجح في دحض المتغيرات الموضوعية الناجمة عنه سلباً لجهة مركز الهيمنة القطبية وأدواته في المنطقة، وإيجاباً لجهة محور الممانعة وحركات التحرر والمقاومة العربية..
إنه تلوين يجد مثيله إبان الحرب الباردة في صورة حملات التكفير المحمومة التي لم تلبث تشنها وسائط الميديا ذاتها طيلة خمسينيات وستينيات القرن الفائت، مستهدفة من خلالها رموز المد التحرري العربي والأممي، وفي مقدِّمتهم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي تناوله خطاب الرجعية العربية دائماً بوصفه ملحداً وإرهابياً عميلاً للاتحاد السوفياتي.. في حين لم تكن عروبته الجلية وتفانيه في خدمة القضايا المركزية للعرب، أموراً تشفع له لدى خصومه من أدوات الامبريالية الذين اعتبروا القومية حينها مدَّاً أيديولوجياً معادياً لـ(الإسلام)، على نحو ما يحدث اليوم من تصنيف حركات الإسلام الثوري التحرري المقاوم للاستكبار والهيمنة الصهيوأمريكية، في خانة مضادة للعروبة، ووصمها بـ(الإرهاب).
أجل.. كانت عروبة عبدالناصر الثورية التحررية معادية لـ(إسلام بترووهابي) متصالح مع الكيان الصهيوني، ومشرعن للهيمنة الأمريكية، كما أن إسلام نصر الله وعبدالملك الحوثي، الثوري التحرري، هو إسلام معادٍ بالفعل لـ(عروبة بترووهابية) متصالحة مع الكيان الصهيوني، ومشرعنة للهيمنة الأمريكية، وفي الحالين فإنه لا التلطِّي خلف الدين في الستينيات ولا خلف العروبة في الراهن، كان بمقدوره تجميل الوجه القبيح لـ(الرجعية العربية وعربان النفط)، فالتمييز بين خطاب ديني عروبي أصيل وآخر زائف، كان ولا يزال يتجلى على محك انحياز مضمون الخطاب عملياً للقضايا العربية والإنسانية العادلة والمركزية، كما وموقف أصحاب هذا الخطاب من الكيان الصهيوني الطارئ والدخيل، لا على محك جودة اليافطة وجزالة السبك اللغوي لدعاوى الدين والعروبة المجافية عملياً لكل المصالح العربية والإسلامية، والمنضبطة موقفاً وموقعاً ومضموناً لإملاءات قوى الهيمنة والاستعمار والاستكبار العالمي.
أليست هذه الأنظمة التي تحتشد اليوم تحت يافطة (العروبة)، لتقرر بـ(الإجماع) تصنيف (حزب الله) كـ(حركة إرهابية)، هي ذات الأنظمة التي احتشدت بالأمس تحت يافطة (الدين) لتصلي شكراً وامتناناً لـ(هزيمة المشروع الناصري في حزيران 67م) على يد الكيان الصهيوني، وهي ذاتها التي أدارت القفا لهذا الكيان إبان اجتياحه (لبنان 82)، وذهبت لـ(تجاهد) في (أفغانستان) جنباً إلى جنب مع (سيلفستر ستالوني والسي آي إيه والموساد)، وهي ذاتها الأنظمة الكمبرادورية التي شرَّعت سيقان الخارطة لتحالف احتلال العراق بقيادة أمريكا وبريطانيا في 2003م، وأفتت بحرمة القتال ضد إسرائيل تحت لواء (حزب الله) في 2006م، وبفضل الجهاد لـ(تحرير سوريا) وأولويته على الجهاد لـ(تحرير فلسطين) في 2011.. وتضرَّع مفتيها إلى أمريكا متوسلاً إياها ضربة عسكرية (لوجه الله) تقصم (ظهر نظام الأسد)، وهللت قنواتها ووسائل إعلامها لسقوط (الموصل) في أيدي (داعش)، وزَكَّت مذابحه بحق عشرات الآلاف من أبناء العراق ومهرجانات السبي التي طالت عشرات الآلاف من نساء العراق، بوصفها (ثورة ضد احتلال إيراني مجوسي)..؟!
إن كل هذا العُهر المحتشد اليوم تحت يافطات الغيرة على (العروبة والإسلام)، والتحالفات (العربية والإسلامية) المنبثقة عنه للعدوان على اليمن، والتلويح بالتدخل العسكري في سوريا ولبنان، وتوصيفه (حزب الله) بالإرهابي.. كل هذا العُهر البتروأعرابي الوهابي المحتشد، ليس إلا عَرَضاً جلياً من أعراض انحسار المشروع الصهيوأمريكي وتداعي منظومة سطوته ونفوذه في المنطقة العربية، الأمر الذي يُلجئ الإدارة الأمريكية إلى منح (بيادقها) تفويضاً كاملاً وجزافياً لخوض غمار صراع فقدت هذه الإدارة أهليتها التاريخية وقدرتها على خوضه بفعل فقدانها المتسارع لمزايا الأحادية القطبية التي لطالما مكَّنتها على مدى العقدين الفائتين من دهس دول وشعوب بأسرها دون حاجة لأن تتملق الشرعة الدولية والمواثيق الأممية، أو تتلكأ بدافع الخشية من ردات الفعل الدولية إزاء مقامرتها، فتدير غزواتها عبر أذرعة كمبرادورية وكيلة كما تفعل في الراهن.
راهنت الإدارة الأمريكية على سقوط (نظام الأسد) في غضون (أيام معدودة)، مطلع العام 2011م، وبعد خمسة أعوام باتت رهانات سقوطه (أضغاث أوهام)، وأسفر الصمود الأسطوري السوري شعباً وجيشاً وقيادة، عن انقلاب جذري في موازين القوى، أطاح بقواعد الاشتباك التي تبلورت في ظل الأحادية القطبية، لصالح (دور روسي مباشر) وبروز (إيران) كقوة نووية تحظى باعتراف دولي لجهة طموحها المعرفي وثقل حضورها (الشرق أوسطي) وتأثيرها في مسرح أحداثه.
 إلى ذلك، فقد أفلتت (اليمن) التي اعتبرتها الإدارة الأمريكية (قاعدة نفوذ وطيدة) وهيأتها في العام 2012 للنهوض بدور مضخة رئيسية تزود طاحونة الفوضى الخلاقة بالطاقات البشرية الضامنة للمضي في مخطط تقويض دول وشعوب المنطقة العربية تمهيداً لانبثاق كيانات وخرائط شرق أوسطية جديدة ممزقة وحافلة بالرخويات عوضاً عن الشعوب.
وبعد اكتمال عام من عدوان تحالف سعودي أمريكي كوني، لا تزال اليمن شعباً وجيشاً ولجاناً وقيادة ثورية ومكونات وطنية، عصية على الابتلاع والكسر، وعلى محاولات الزج بها في حظيرة التبعية والوصاية مجدداً.
تخفق الإدارة الأمريكية في تدوير دولاب المتغيرات (الشرق أوسطية) التي ارتدت على النقيض من توقعاتها المتخمة بشبق القرصنة لتسحق كياناتها الوظيفية.
ربيبتها التاريخية (إسرائيل) تستصرخ نجدة مستحيلة في مهب الصفعات المتتالية التي تنهال عليها من (القصير إلى تل أبيض إلى طهران إلى نوى إلى مرَّان إلى صلاح الدين إلى نجران،...) كمروحة عملاقة بعشرات الأذرع..
إزاء ذلك، تلجأ الإدارة الأمريكية إلى تخويل كياناتها اللائذة بها، تقرير مصيرها عبر الانزلاق في دوامة من ضربات الحظ التي تسددها كيفما اتفق، مستهدفة أشباحاً افتراضيين تتهمهم بالمسؤولية عن فزعها الوجودي وشعورها العميق بأزوف أوان سقوطها الشيك.
إن التطويح البترووهابي بين (اليمن وسوريا ولبنان) مهما بذل من محاولات ليبدو متماسكاً وفاعلاً وإيجابياً في وعيده، يبقى محض تطويح مهترئ استراتيجياً من حيث الرؤية والقدرة على كبح جماح التداعيات المؤشرة على زوال عصر الأحادية القطبية وأفول كياناته الكمبرادورية..
إن فرط الصراخ الخليجي ليس إلا صدى لفرط الألم الصهيوأمريكي... والقادم كفيل بإزاحة الجعجعة عن اللاطحين.. وإن حزب الله هم الغالبون..

أترك تعليقاً

التعليقات