رئيس التحرير - صلاح الدكاك

قال فلاديمير لينين (المثقفون هم أكثر الناس خيانة، لأنهم أقدر الناس على تبريرها).. وأما الأقل تمدرساً والأقل (ثقافة) والأقل تمدناً والأقل رفاهاً والأقل هذراً وثرثرة وجدلاً وتنظيراً، فهم أعجز الناس في مضمار تلوين الخيانة وتلبيسها وفلسفتها وتسويقها بوصفها انفتاحاً واتساقاً مع إيقاع التطورات البشرية، وانحيازاً خالصاً لروح العصر.
وأما الحزب فإنه فقاسة مثقفين، لذا فإن أمناء عمومه بالعموم وغالبية كوادره محض جارسونات في ميز مشاة البحرية الأمريكية، وخدم وحشم وخصيان في مقاصير حريم النفط الملكية.
وأما القبيلة فإنها عضت على صخرة الشظف بالولادة، ولم تلقم ثدي الثقافة، فاستعصى عليها أن تعرِّف الخيانة بغير الخيانة حين أصغت عميقاً لهجس الفطرة النقية، وتخندقت في تخوم أمها الأرض، تذود الجراد عن سنابلها، والذباب عن جراحها، واللصوص والعيارين عن مخادع فتنتها وشرفها الرفيع.
أجل إنه هو ذاته (هيثم قاسم طاهر) الذي كان الكثيرون من رجال قبائل شمال الشمال في اليمن يقسمون بشواربه، قبل أن تتكشف هذه الشوارب عن قرون استشعار يتصدر صاحبها كتائب الجرذان والصراصير الزاحفة على نخيل الخوخة والمخا وذوباب، متخمة بفضلات مجارير النفط وفضالة موائد الكبسة وما تفلَّتَ من أسنان تحالف العدوان من دسومة وسخام ثريد.
أجل هذا هو ذاته (علي سالم البيض) الذي كان الصبية الرعيان في (حرف سفيان ووائلة) يهزجون باسمه حباً وكرامة واستبشاراً بأزوف خلاص المسحوقين على يديه.. (يا علي سالم البيض تفضَّل عندنا كوب شاهي وحبة شقارة). أجل كانوا هكذا يهزجون له قبل أن يغتسل من وحدويته وأممية مشروعه، بجالون سولار سعودي، فيرتد زقاقياً يرى في أيدي المسحوقين المعروقة الممدودة له من تلقاء الشمال، حبائل تبعث على الريبة والتأفف.. أجل هو (البيض) الذي تسحله اليوم مذيعات (العربية ـ الحدث) من ياقة قميصه، ليدلي بدلوه في مستنقع العدوان على اليمن، ويشاطر دراكيولاته أنخاب دم أطفال (وائلة وحرف سفيان وحيدان والتعزية والحوك والتحيتة).
وأجل هذا هو (ياسين سعيد نعمان) الذي راهن المسحوقون والمهمشون المستضعفون على ضربات مطرقته البرلمانية، مطلع الوحدة، في ولوج زمن المواطنة المتساوية المفروزة على محك معاول البذل ودوران تروس الإنتاج.. هو ذاته الذي يعمل اليوم سمساراً وسيطاً للسعودية والإمارات في سوق القنابل العنقودية البريطانية، ويوضب (الساونا والجاكوزي) للمسخ الهجين (أحمد عسيري) في قصر الضيافة بـ(لندن) كلما اقتضت لعبة القتل أن يزور هذا الأخير عاصمة الضباب.
أن تكون تلميذاً نجيباً في زمن الوصاية، معناه أن تكون بارعاً في الانبطاح وفلسفة الخيانة والانسلاخ من أديم الانتماء للتطلعات الشعبية وتحديات الواقع المحلي وموجباتها، مكتسياً أديماً عصرياً مستعاراً تخلعه عليك سفارات الأوصياء ومنظماتهم وورش العمل الحقوقية والسفريات التي يمولونها من عرق الشعوب.. وكلما امتلأت بعلوم زمن الوصاية وهضمت مقرراته، امتلأت بصوابية الانبطاح والركون والاتكال، واستفرغت ما تبقى من ذاتك الحيوية الفاعلة الطمَّاحة المتوقدة، وكلما ارتقيت مرتبة أكاديمية عليا، ارتكست مرتبة وجودية.
أما ترى كيف تتهدل وجنات الأكاديميين وترتخي أشداقهم وتتدلى ألسنتهم إلى الخارج وتتصالب أعناقهم متقوسة للأسفل، فلا يعود بمقدورهم استشراف المكان من حولهم بقُطر مترين يميناً ويساراً، عوضاً عن أن يمعنوا في السماء البعيدة. تلك أمارات الامتلاء بالوصاية واستفراغ الذات التي يندر أن تصيب الأميين والأقل تعليماً.. تطلَّع في بنية هؤلاء الأخيرين، وستجدها متصالبة للأعلى صعوداً على عود نحيل صلد لا يتقصف، مفضية إلى ذرى وجه بقسمات ناتئة كالصخر، ونابضة كحواصل الطيور، ومفعمة بالدلالات كنقش حميري، وعميقة الأغوار كلجة، ومهيبة وساحرة كغابة.. تلك هي القبيلة اليمنية اليوم وقد لفظت الإقطاع، وأطاحت بالمقرفصين على كاهلها يتاجرون بها كدعوى في سوق الاستبداد السياسي، ويسيجونها كقطيع بلا طموح ولا كينونة.
لقد برهنت لنا تجربة عامين من العدوان و3 أعوام من الثورة، على أن خلف القميص القروي القبيلي المنتَّف دماً غيوراً، وأن خلف غالبية قمصان الحداثة وأربطة أعناق النخبة مواخير وبورديلات ومزادات ارتزاق.
إنه ذات القميص الذي تطلع من نسيجه الرث المهلل بشارة الخلاص.. ويطلع (مصطفى)..
لم يعد ذلك سراً يا سيدي المتنبي عبدالله البردوني، فقلوب اليمنيين الشرفاء الأحرار تعكف اليوم في كل متراس وخندق وجبهة من جبهات الدفاع الوطني، على صياغة كتاب الاستقلال بفوهات البنادق والدم الغيور، لا بالأقلام الناكصة والمداد البارد.

أترك تعليقاً

التعليقات