رئيس التحرير - صلاح الدكاك

ليست علاقات السعودية على ما يرام مع الإمارات، ولا مع الكويت، ولا مع عمان، فلماذا وقع الاختيار على قطر أولاً لتصفية الحسابات معها على هذا النحو من المكاشفة والعلنية؟!.. ما من شك في أن البيت الخليجي الذي كانت للسعودية اليد الطولى فيه، قد انهار قبل حملة مقاطعة وحصار قطر الراهنة بزمن، ولحظة اصطدمت محاولات الرياض تجيير قرار مكوناته لصالحها، بحائط الصد العماني، على أن جلبة وصخب انهياره تبدو اليوم أكثر دوياً، ولعوامل لا صلة لها بلائحة الاتهامات السعودية المعلنة لـ(قطر)، وإنما تتعلق بفقدان مجلس التعاون المرجعية الناظمة لأدوار مكوناته الوظيفية، كنتيجة لفشل نظام الأحادية القطبية في تمرير أبرز مشاريعه الهادفة لفرض الهيمنة المطلقة على العالم، متمثلاً في (الشرق الأوسط الجديد)، وغرق الولايات المتحدة في هاوية الأزمة المالية السحيقة بمتوالية تراكمية كارثية منذ 2004 وحتى اللحظة.
على غرار تصفية الدور الكويتي (1990ـ1991م) الناعم والمنفتح بمناسيب متساوية من الود إزاء فعاليات المشهد العربي المحتربة إبان الحرب الباردة، يجري اليوم تصفية الدور القطري المتكئ على طفرة الغاز مطلع تسعينيات القرن الفائت، والمحترب ـ خلافاً للكويت ـ مع طيف محيطه العربي الرسمي بالعموم، والداعم لما يسمى (ثورات الربيع العربي الإخوانية)، والتي أرادت لها إدارة (باراك أوباما) أن تطال نماذج الحكم في البيت الخليجي ذاته بالتغيير وإن بصورة أقل حدة، الأمر الذي أفزع العائلتين المالكتين الإماراتية والسعودية تحديداً، وهدد السلم المجتمعي الكويتي والعماني بجائحة تطرف محفوزة بلهب (الربيع العربي) المضطرم في مصر وتونس واليمن وسوريا.
عام 2011 مثل العام الذهبي بالنسبة لقطر، وبدا أنها على وشك أن تتحول إلى دولة عظمى بتهاوي الأنظمة الجمهورية في الجوار الخليجي لجهة سيطرة جماعات (الإخوان)، ولم يكن بوسع (الرياض ـ أبوظبي) حينها كبح تيار التداعيات المتعاظمة حتى حين تأكد لها أنها مستهدفة بها عما قريب، ورغم أن نظاميهما اضطلعا بأدوار فجة ومباشرة على مستوى مخطط تقويض الدولة السورية، فإن الخشية كانت تنتابهما إزاء تنامي النفوذ القطري بتنامي نفوذ (الإخوان) واستجلاب أطروحاتهم السياسية إلى عقر البيت الخليجي عبر منابر معلنة إعلامية ودونية في الدوحة التي بدت حينها عاصمة ليس لقطر فحسب، بل ولمصر وتونس واليمن، حيث استتب الحكم للإخوان.
طأطأت السعودية والإمارات للتوجه الأمريكي الداعم إبان إدارة أوباما لجائحة الربيع العربي، غير أن تهاوي عروش الإخوان المحدثة في مصر واليمن، وتراجع نفوذهم الكامل في تونس وليبيا.. ولاحقاً صعود (ترامب) لسدة رئاسة واشنطن؛ كل ذلك كان بمثابة هبات رياح مواتية بالنسبة للسعودية والإمارات لتحويل سخطهما المكتوم إزاء المقامرات القطرية، إلى غضب مسموع ومشفوع بإجراءات عقابية، لا سيما وأن غطاء الحماية الأمريكية سياسياً قد تمزق على يد (ترامب)، وباتت الرغبة لدى هذا الأخير تنحو لطي ملابسات الربيع وعرابه القطري على خلفية سلسلة من الإخفاقات أبرزها صمود الدولة السورية، علاوة على ما تسميه واشنطن (اتساع نفوذ إيران في العراق واليمن)، مع ما يحمله كل ذلك من مؤشرات على أزوف نفاد رصيد الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط.
يتشاطر الثالوث السعودي الإماراتي القطري أنصبة متكافئة في بورصة تمويل ودعم التنظيمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها ومشتقاتها الإخوانية الوهابية بالأساس، غير أن المفارقة أن الرياض ـ أبوظبي تسوغان حصارهما لقطر بعلاقة هذه الأخيرة بالإرهاب!
مفارقة لا يمكن هضمها إلا على اعتبار أن المقصود بالإرهاب في التأويل السعودي الإماراتي، هو إيران التي سارعت قطر بتوثيق صِلاتها بها فور الإذعان الأمريكي لحقها في امتلاك مشروع نووي سلمي، ووقعت معها اتفاقية (دفاع مشترك) لربما تلافياً للحظة مستقبلية تقف خلالها الدوحة وحيدة ومنبوذة في مهب ارتدادات مقامراتها التي استنفدت رصيد علاقاتها الطيبة مع الجميع بلا استثناء.. وإذا جازت هذه المقاربة، فإن مخاوف قطرية من هذا القبيل هي ما دفع الدوحة لفتح قنوات اتصال مع إيران بصورة لا تروق لواشنطن، لا سيما وأن لائحة الاتهامات لقطر تضمنت تهماً بـ(دعم الحشد الشعبي في العراق)، وهو أمر لا يمكن غفرانه أمريكياً.
المؤكد أن قطر لن تعود لسالف دورها قبيل هبة الغضب السعودي ـ الإماراتي المحفوزة بتأشيرة مرور أمريكية، على أن السؤال: هل ستقتصر هذه الهبة على تطويع قطر للإبط السعودي المترهل؟! أم ستتعداها لمحاولة تطويع الكويت وعمان تحديداً لذات الإبط؟! وكم من الوقت يمكن لاصطفاف الإخوة الأعداء السعودي ـ الإماراتي أن يصمد قبل أن يقذف لهب خلافاته البينية ممزقاً قشرة الوفاق الواهنة بين العائلتين المالكتين؟!
بالنسبة لإيران، فإنها ستكتفي بإدانة حصار ومقاطعة قطر، والدعوة للحوار، على أنها لن تذهب أبعد من ذلك إلى الانزلاق في عمل عسكري خارج حدود أمنها القومي، فيما سارعت تركيا أردوغان لسن تشريع يجيز لها تعزيز تواجد قواتها العسكرية في قطر، الأمر الذي يشير إلى أن الانقسامات داخل حظيرة وكلاء واشنطن حصراً موعودة بالمزيد، لصالح انفساح أفق وخيارات المحور المناهض لأمريكا في المنطقة زائداً الصين وروسيا ومنظومة بريكس الصناعية الناهضة.

أترك تعليقاً

التعليقات