عن الغبار السعودي/ القطري
 

محمد ناجي أحمد

ليس صحيحاً أن التاريخ إذا كرر نفسه فإنه في الثانية ملهاة، بل هو جغرافيا متحركة، تنتجه الجغرافيا الثابتة.
في كتابه (استراتيجية الاستعمار والتحرير) الصادر عن دار الشروق، ط 1983م، يرى المفكر جمال حمدان أن (التاريخ هو معمل الجغرافي كما قيل، وهو كذلك مخزن الاستراتيجي الذي لا ينضب، وكل منهما يستمد منه خامته، ويجري عليها تجاربه، وبالنسبة للجغرافي بالذات، فإن التاريخ إذا كرر نفسه - وهو قد يفعل - فهذا التكرار هو الجغرافيا: أعني أن الجغرافيا بهذا هي الجذر الجبري للتاريخ، وعملية استقطاب له وتركيز.
أكثر من هذا، ليس التاريخ كما عبر البعض إلاّ جغرافيا متحركة، بينما أن الجغرافيا تاريخ توقف).
لقد تحولت مقولة ماركس إلى مقولة حاجبة أكثر منها كاشفة لحركة التاريخ. فالصياغة الأدبية للعبارة جعلت التلقي ينحو بالدلالة باتجاه مغلوط، وهو أن هناك تراجيديا أصيلة، وهناك ملهاة طارئة بهزليتها على مسار التاريخ الأصيل. ولم يقرن المتلقي بينهما كثنائية للتاريخ، أنتجتهما الجغرافيا، وفق تجاوبها وتفاعلها مع صراع القوى والاستعمار. فالتكرار في حوادث التاريخ من سمات الجغرافيا (موقعاً) و(موضعاً).
ما يحدث في منطقة الخليج يستدعي من التاريخ مقولة بطرس الأكبر (من يسيطر على الخليج يسيطر على العالم). ولأن مشيخات الخليج التي عمل الاستعمار البريطاني على تخليقها، مستخدماً وسائل الخداع والالتفاف، والأداء التمثيلي في سيطرته على الجغرافيا الاستراتيجية في البحر الأحمر والخليج، ولأن هذه المشيخات قد أصبحت في ملكية الولايات المتحدة الأمريكية، واكتفت بريطانيا فيها بدور الوصيف والمشير، فإن ما تبقى من هذا الخليج هو الهضبة الإيرانية. ولأن إيران يصعب السيطرة عليها لعدة أسباب منها أيديولوجي، يعمل على تماسك البنية الداخلية لإيران الخميني، ومنها ضرورة اتفاق الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مع روسيا، إذا أرادوا احتلال إيران أو مقدراتها وثرواتها، كما حدث في بداية القرن العشرين، حين تقاسمتها روسيا وبريطانيا، فأخذت روسيا الشمال، وبريطانيا الجنوب، والوسط ترك منطقة عازلة ومحايدة بينهما.. لكن روسيا ليس من مصلحتها تقسيم إيران، فذلك يمثل اختراقاً لتخومها، وستجد نفسها وقد حوصرت من الشرق الأوسط ومن ألاسكا، مما يعني تشرذمها وسقوطها.
الأرجح من وجهة نظري أن ما يحدث في الخليج ليس سوى تنافس، وليس صراعاً، فالصراع بشكله الحقيقي موجه ضد إيران.
ولكننا سنتوقف عند هذا التنافس ومآلاته. هل يمكن أن يتحول إلى اكتساح عسكري لـ(قطر) تقوده السعودية، أم سيكون حصاراً اقتصادياً يؤدي في النهاية إلى ضمور (قطر) وسقوطها؟
كلا الأمرين من وجهة نظري مستحيلان. أولاً لأن موقع (قطر) كجزيرة للشركات المتعدية الجنسيات، يجعل من محاصرتها مجرد بالونات إعلامية. تدير الولايات المتحدة الأمريكية منطقة الشرق الأوسط العربي، من خلال تغذية الصراع بين القوى المختلفة والمتعددة، حتى يظل الجميع في حالة ضعف واحتياج وجودي لها. وتتقدم لتحصر الغنائم، وهي بمنأى عن الخسارة، وضريبة النزاعات. وفي نفس الوقت تحافظ على توازن الضعف، كي لا تسود قوة على قوة أخرى. وتهيئ الجغرافيا وممكناتها للاستيطان الصهيوني، كونها امتداداً للاستيطان الصليبي، وأعلى مراحل الامبريالية، الذي يجمع بين خصائص الاستعمار والاستغلال.
لهذا نجد الولايات المتحدة الأمريكية تقف مع (قطر)، وليست ضد (السعودية) في آن.
وكذلك الشأن في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، فهي تسير وفقاً لاستراتيجية أمريكا، في جعل كل القوى ضعيفة ومفككة ومنهكة، ولا يتغلب طرف فيها على طرف.
إن ما يؤكد بقاء التباين السعودي/ القطري ضمن الحدود المتحكم بها، هو بناء (قطر) بحيث تصبح موازية في قدراتها لمحيطها الخليجي كقاعدة استعمارية، لها أهميتها الاستراتيجية، في الخطط المعدة للمنطقة.
في هذا السياق يمكن فهم تصريحات المسؤولين القطريين، ومواجهتهم لما يسمى (الحصار) أو (المقاطعة)، بتركيزهم على (التعليم) والاهتمام بجودته. وهذا مبني على أطروحة (لورد إمري) من أن (القوى الناجحة هي تلك التي تملك أعظم أساس صناعي، وأضخم قاعدة تكنولوجية)، وانتهى إلى أنه (لن يهم أن تكون في وسط قارة أو على جزيرة، وإنما أولئك الذين يملكون القوة الصناعية وقوة الاختراع سيمكنهم أن يهزموا كل من عداهم).
فالأهمية بـ(العلم) بـ(التكنولوجيا والصناعة) قد انتقلت من أهمية (الموضع) (السعودية) الذي يتميز بالمساحة والكثافة السكانية والحجم، إلى (قطر) كـ(موقع) بحري عسكري وتجاري متقدم للغرب، يجعلها ليست قادرة على التصدي لأي عدوان مختلق، بل وكقاعدة عسكرية للهجوم على إيران، كما كانت قاعدة الهجوم على العراق واحتلاله عام 2003م.
عند مقارنة (الموقع) التجاري والعسكري لـ(قطر) كجزيرة تساعد الاستعمار البحري على تنفيذ خططه بـ(الموضع) السعودي القاري، بما يمثله من مساحة وقوة بشرية وحجم، فإن الأهمية الاستراتيجية في خطط الاستعمار الأمريكي ستكون لصالح (قطر).
فأمريكا حاضرة في المنطقة، وكل من يخامرهم أوهام انسحاب أمريكا من منطقة الشرق الأوسط، وانكفائها نحو الداخل الأمريكي، عليهم (أن يتخلوا عن هذا الوهم العريض بل المريض. وفي حالة الشرق الأوسط بالذات، وحيث يعني الأمر إسرائيل بالتحديد، فلسوف يظل الخطر الأمريكي قائماً ومقيماً، وإن يكن في تركيبة جديدة)، كما يقول الدكتور جمال حمدان في كتابه سالف الذكر.

أترك تعليقاً

التعليقات