رئيس التحرير - صلاح الدكاك

الجمهورية من شاقوص الحريم الملكي
ضفائر تقية حميد الدين تشنق مارد الثورة (الحلقة الثانية) 

على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.
يمَّاه.. يمَّاه .. يمَّاه.. لن أنسى تلك الصرخات التي زفرت من أعماقي، ولن أمحو تلك الحيرة التي ما لها من نفاذ حين تعلقت بالملاءة المسبلة على ذاك الجسد الممدد.. عينان محدقتان ببرود عبر الألم، وحياة انطفأت ببطء ووهن.
أتشبث بأهداب الملاءة وأولول، والأمهات والأخوات يحاولن منعي، فألقيت بنفسي على الأرض نائحة بكلمات حزينة محزنة؛ يا يماه هل تركتني وحيدة؟ يمَّاه.. إني أحبك، لا ترحلي، وكأن الجزع قد ملك صبري وبلائي.
أبكيت كل الحاضرات، أرى دموع الحرقة والعطف والشفقة كأنها جداول تضج، ولامس بكائي وحزني شغاف قلب أبي رحمه الله، فأرسل في طلبي، ووالدتي آنذاك في سريرها قد ودعت الدنيا.
حملتني الطبيبة الروسية التي كانت تتولى علاج أمي، وصعدت بي إلى حجرة والدي الإمام، وهي الحجرة العليا بدار السعادة.
دخلت باكية، ورميت نفسي بين أحضان أبي، فضمني إلى صدره ضمة ما كان أحوجني إليها، ومسح بيديه على رأسي وشعري، وأمضى يرحمه الله وقتاً وهو يواسيني ويلاطفني، ويؤنس وحشة احتضار أمي، حتى إذا ما هدأت نفسي أنزلتني الطبيبة الروسية إلى الغرفة المسجى فيها جثمان والدتي، فإذا بأخواتي وإخواني حولها يقرؤون آيات من القرآن الكريم، وكل من حول الجثمان خاشع لذكر الله، فلا بكاء ولا عويل، وكان آخر ما سمعته: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) [الفجر: 27ـ30].
قبيل الفراق الأخير كنت مع (مؤمنة) الخادمة تلك التي كانت يهودية واعتنقت الإسلام بهداية أمنا حورية زوجة والدي، ومعنا زوجة أخي إبراهيم في حديقة دار السعادة.
وبينما كنت ألعب وأركض بين الورود والرياحين أصعد شجرة وأنزل عن أخرى، وأتدلى على فرع هنا وهناك، تحرسني زوجة أخي، وتلاعبني مؤمنة، فإذا بصورة أمي تهز كياني، أيقظني صراخ والدتي من لهوي، وارتسمت أمام نظري والدتي وهي تضرب بقدميها الأرض بشدة، وتمسك برأسها بقوة، وتدعو الله أن يخفف عنها آلامها، فتركتُ الحديقة وطرت مسرعة إليها، وصعدت السلالم مذعورة إلى غرفتها.
ولشدة ما رأيت: كثيرات متجمعات حولها ما بين باكية وقارئة للقرآن، الحزن قد أرخى أذياله عليهن جميعاً.
أمضيت ليلتي تلك الأخيرة إلى جانب والدتي، وفي الصباح كان جناز عظيم لوالدتي، قيل: كانت جنازة والدتي أكبر وأحفل جنازة خرجت من دار السعادة؛ تقدم الجميع الوالد الإمام يرحمه الله تعالى، وشارك الإخوان والعلماء والفقهاء والأعيان وخلق كثيرون، وصلى عليها الجمع بإمامة الوالد، ووريت والدتي الثرى محزوناً عليها. سلام على الدرب الذي كان من بيتٍ في دار السعادة إلى بيتٍ في دار الخلود.
والدتي يرحمها الله كانت نغماً في حياتي لم يكتمل، وقصة لم تكتب. يُمّاه.. غادرتنا والطريق طويل.
كنت إذَّاك في السابعة من عمري، مما حفر في عقلي وقلبي من آلامها ومُر شكواها، وأنا بين يديها تمشط شعري وتزينني، ربتت بيدها على صدري وظهري، ومسحت بيدها الأخرى على رأسي، وضمتني وقبلتني قبلة كلها دفء وحنان لا أزال أحسه، قالت لزوج أخي القاسم: (لولا ابنتي هذه ما عدت إلى هذه الدار بعد أن خرجت منها مطلقة). وببراءة الطفولة كنت أنظر إلى وجهها فإذا دمعة مرسلة من أعماق عيونها.
نظرات أمي كانت نوافذ روحي، إنها جرس يقرع داخلي، فكانت سبيلي لاستقصاء سيرة حياة أمي في سنواتها السبع، قبل أن تسافر مع سحب الغمام.
والدتي ابنة السيد علي بن محمد غمضان الكبسي، العالم الورع، وجدتي من بيت صبرة، قالوا لي: إن والدتي كانت ذات دين وعقل وملاحة وجمال، من أسرة كريمة، وحين تفتحت على الحياة، وبدت كدمية من مرمر، اكتمل حسنها ووافر أخلاقها، ومتانة دينها في عز صباها ونضرة شبابها، خطبها والدي الإمام يرحمه الله، فأقيمت الأفراح، حيث نحرت الذبائح وعزفت الموسيقى، وبنى بها، وسكنت والدتي في حي شرارة بصنعاء في بيت مطر، وهو منزل صغير أثاثه بسيط، وفيه أنجبت والدتي أختي الأولى، والتي توفيت في عامها الأول، ثم أنجبت أختي الثانية، ولحقت الأخرى بالرفيق الأعلى، وحملت والدتي بي، وفي شهور حملها الأخيرة رأت في ما يراه النائم أن هاتفاً يقول لها: (لو خرجتِ من صنعاء فسوف يعيش الذي في جوفك، فسافري).
فلما حكت لوالدي ما رأته في المنام كان جوابه: (أضغاث أحلام). وأمام إصرارها، وعلو مكانتها، وحظوتها عنده سمح لها والدي الإمام بالسفر إلى مدينة السودة شمال غرب عمران، وبرفقة عمها إسماعيل غمضان، وكنت أناديه بخالي، ومعها قابلة القصر الأم هدية الشرقية، وخادمة والدتي. وما هي إلا أيام حتى وضعت والدتي بي، وسماني والدي (تقية). كان ذلك سنة 1341هـ /1922م، ولم يطل بنا الاستقرار في مدينة السودة حتى طلبنا الإمام إلى صنعاء وإلى دار السعادة بعد ترميمها، كانت دار السعادة في ما سبق مشفى للأتراك، أصلحت وأضيف إليها بعض المباني، جمع فيها الإمام كل الأسرة من إخوان وأخوات وأمهات (زوجات والدي) وكن ثلاثاً، وزوجات إخواني، لكل زوجة غرفة واحدة، ولكل ولد غرفة، ومن يتزوج ينفرد بسكن مستقل، وكان لوالدتي غرفتها الخاصة بها. قيل لي: كانت والدتي محبوبة ومحظية عند والدي، وإنها كانت لطيفة المعشر حتى مع أمهاتنا (ضرائرها)، كنَّ متآخيات ولم يحصل بينهن أي فعل مستنكر.
كان لأبي غرفته الخاصة في الطابق العلوي من دار السعادة، ولما كان والدي ملتزماً بالمساواة الشرعية في المعاملة، فإن لكل زوجة نوبتها؛ فمن كانت نوبتها تصعد إليها، وهكذا دواليك. ومع أن زوجات والدي كن ودودات كأنهن الأخوات، لكن أنى لأهواء الطبيعة البشرية أن ترقى؛ فالضرائر تضنيهن الغيرة، ويشقيهن ألا تنفرد كل واحدة منهن بقلب زوجها، تتجاذبهن الأنوثة التي تعرف رقتها وضعفها ورهافة وجدانها، وبخطة محكمة نفذت إحداهن أو إحدى الخادمات ما كان.
كانت ليلتها نوبة والدتي، وللمصادفة كان والدي الإمام يرحمه الله متعباً، فصعدت إليه بعد العشاء كالعادة، فوجدت باب حجرته موصداً، وعند الباب حذاء حريمي، فعادت نازلة تأدباً، وعاودت الكرة مراراً وعلى مضض، وإذا بالحذاء مكانه، فتعود وترقب ذلك بكثير من القلق والغيظ، بينما والدي يتلوى من شدة المعاناة، ويتأفف استغراباً لتأخرها. ووقع فعلها من الإمام موقعاً أليماً، وهكذا كانت المحنة، واشتد الخلاف وكبر، وصارت الجفوة؛ مما حدا بوالدتي أن تذهب إلى بيت أهلها؛ أي إلى بيت خالي إسماعيل غمضان، وبعد أيام بعث والدي برسالة وفيها فصل الخطاب. وكان لذلك أثر عظيم على والدتي وخالي.

***
انتقلت والدتي إلى بيت خالي، وكان خالي كريماً سمحاً جهز لنا جناحاً خاصاً وأثثه بكل ما يلزمنا، وحتى المربية والخادمة، ولما كنت الصغيرة فإني أنا المحفوفة بالرعاية والحب من الجميع، الخال والبنات والأمهات والإخوة والأخوات، وأما والدي فكان يرسل في كل جمعة العربة التي يجرها حصانان، فأذهب إلى دار السعادة ومعي مربيتي، فإذا ما رآني والدي رحب بي وهش وبش، وقبلني وضمني إلى حضنه، وكنت أشعر بالراحة والسعادة على صدر والدي يداعبني ويلاعبني، يسألني عن الوالدة والخال، ويغمرني بما لذ وطاب من الحلوى والهدايا، ومن ثم أطوف مع الأخوات نلعب ونلهو في الحديقة والباحات، وما رآني أخ من إخوتي إلا أقبل عليَّ يحوطني بحنانه ورعايته، وكان والدي حريصاً كل الحرص أن أعود قبيل المساء إلى أمي، وألا أتأخر حتى لا تفزع أمي لأي سبب من الأسباب.
وحين أودِّع  الوالد وأقبل يديه يطبع قبلة على خدي ورأسي، ويوصيني بطاعة أمي، وعدم إحداث ما يسبب غضبها، ويطلب إليَّ أن أبلغها حار سلامه.. وسارت حالتي مع والدتي على هذا المنوال، وحين بلغتُ الخامسة من عمري حدث تغيير على سطح دار خالي، رأيت عمالاً ينصبون خيمة كبيرة، فرشت أرضيتها بالسجاد، وجاؤوا بلوحة وطباشير، ونادتني أمي فرحة مسرورة، يرافقها خالي العظيم إسماعيل، قالت والدتي: غداً ستبدئين الدراسة يا تقية، وسيكون هذا عامك الدراسي الأول.
يتبع العدد القادم

أترك تعليقاً

التعليقات