قبيلة فوق العادة
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

يفتقر التحالف السعودي الأمريكي ـ بعد 578 يوماً من عدوانه العسكري على اليمن ـ إلى المساحة الجغرافية التي تتيح له إنفاذ مشروع الأقلمة كأمر واقع بتقطيع أوصال الخارطة السياسية للجمهورية اليمنية بشراً وتراباً، وإعادة إنتاجها على هيئة 6 كانتونات محتقنة طائفياً، تتولى ـ بالإنابة عنه ـ مهمة الإجهاز على بعضها البعض، فتعفيه من حرج وكلفة التدخل العسكري المباشر، وتمنحه لاحقاً خارطة مقشرة مذعنة، زهيدة الثمن ويسيرة الهضم.
هذا ما أراد له تحالف العدوان أن يحدث في اليمن، ولم يحدث، فالانتشار العبقري الفذ للجيش واللجان الشعبية على رقعة الاشتباك العسكري في نطاق الجمهورية، أجهض قدرة التحالف على تأمين مساحة سيطرة مريحة لسلخ الخارطة إلى دولتين شمالاً وجنوباً (وهو سيناريو يناور به ولا يستهدفه حقيقةً)، أو لتمزيقها إلى 6 أقاليم، وهو ما يستهدفه بالفعل ويعجز حتى اللحظة في تحقيقه.
وبالتزامن مع انتشار الجيش واللجان داخلياً على نحو مجهض لأطماع ساطور العدوان التفتيتي، يمسك مقاتلونا الأبطال بزمام المبادرة والهجوم في جبهة ما وراء الحدود، فيبسطون سيطرتهم الفعلية النارية على نطاق جغرافي استراتيجي يتسع ويتنامى بدوران عقارب الساعة في عمق المملكة الجنوبي.
إزاء هذا المأزق المزدوج الذي زج العقل العسكري الثوري اليمني بتحالف قوى العدوان في أتون سعيره، يجد التحالف نفسه في مواجهة مرتدة مع جملة أكاذيبه ووعوده لخلطة عملاء ومرتزقة محليين يتأبط كل عضو فيها ملفاً متخماً بالخيبات إثر فرط العشم، علاوة على أن كل ملف هو بالضد للآخر من حيث وجهة الأطماع، فالموعودون بالأقلمة يقابلهم الموعودون (بفك الارتباط)، والموعودون بفك الارتباط تقابلهم الشرعية، والشرعية تقابلها حاجة (الرياض) المتفاقمة إلى المقايضة برؤوس (الدنابيع هادي، بن دغر، محسن، المقدشي) وبقية القائمة، والتنصل من تبعات مجازرها اليومية الفاضحة بحق اليمنيين، كما أن حاجة (الرياض) هذه هي الأخرى، تقابلها حاجة المدير التنفيذي الأمريكي إلى تثبيت تدهور نفوذه عند الحد الأدنى الممكن عبر تدفيع وكلائه في الشرق الأوسط فواتير هذا النكوص، وعلى رأسهم السعودية.
منذ البدء كان الإجهاز على حركة (أنصار الله) هو الهدف الجوهري الذي يتعين على زعامات العمالة الإقليمية والمحلية تحقيقه، ليتسنى لها تمرير خلطة أجنداتها المحتربة على الأرض، ويجري تمديد اعتمادها كوكيلة لسوق النفوذ الأمريكي الحصري لعقود أخرى مديدة.
غير أن تضارب هذه الأجندات يجعلها غير قابلة للتحقق على الأرض، حتى على افتراض أن زعامات العمالة قد أجهزت على (أنصار الله) بالفعل، وتقف اليوم على أنقاض الحركة..
اعتقد معظم النخب الجنوبية بسذاجة أو بخبث طوية، أن جسم الدولة المركزية الموحد هو العائق الرئيس أمام مسعاهم لاستعادة دولتهم المتوهمة والمتعددة من حيث هوياتها بتعدد ذهنيات الواهمين.
وتأسيساً على هذا الاعتقاد الساذج صفقوا وأسهموا في تقويض بنية الدولة جيشاً وأمناً، جنباً إلى جنب مع قوى الهيمنة الامبريالية قبل العدوان وأثناءه، واليوم وقد انحسر نفوذ الدولة المركزية جنوباً، فإن مطلب فك الارتباط بات مدعاة للسخرية، إذ إن العائق لم يعد قائماً، لكن الذي نشأ على أنقاضه ليس دولة الجنوب، بل عصابات الاحتلال ذات الرؤوس والتوجهات المتعددة والمحتربة..
إن استفراغ طاقة العنف الجنوبي الناجمة عن خيبة الأمل في استعادة الدولة المتوهمة، وبشاعة ما آلت إليه أوضاع الجنوب اليوم، هو استفراغ مطلوب بشدة بالنسبة لقوى الاحتلال التي تعيد تدوير طاقة العنف الجنوبي في مواجهة (أنصار الله والمؤتمر الشعبي ـ شمالاً)، باعتبار هذين الأخيرين هما العائق استمراراً لذات الوهم وبذات المنطق، وبذلك تكفل قوى الاحتلال وقوداً جنوبياً رخيصاً لعدوانها على اليمن، وتتلافى ارتداد طاقة العنف هذه في صدر مشروعها التفتيتي الداعشي البشع.
أخفق تحالف العدوان ويخفق في بسط سيطرته على بر تعز وبحرها، كما وعلى الحديدة، وفيما لو أفلح في السيطرة عليهما، فسيضرب ـ وفق مخططاته ـ أكثر من عصفور بحجر واحد: لن يعود هناك مطلب جنوبي ولا جنوب موحد.. ليس هذا أمراً ينبغي أن يفرح له مغفلو الأقلمة، فالذي سينجم عن خطوة كهذه ليس إقليم (الجند) وإقليم (تهامة)، وإنما عزل صنعاء، والتفاوض مع (حركة أنصار الله) على الرضا القسري بما تحت يدها من جغرافيا مقابل التسليم بسلطتها كيد طولى عليه، من قبل (واشنطن ـ لندن) اللتين استهدفتا وتستهدفان دفع (الأنصار) للرضوخ لهذا الفرز منذ البدء، ولو رضخت الحركة لما كان العدوان.
على خلفية العجز العسكري أمام صمود شعبنا واستبسال جيشنا ولجاننا، كان (قرار نقل البنك المركزي)، وقبله كانت (خطة كيري) و(الهدنة المزعومة الراهنة).
حزمة حيل يسعى تحالف العدوان من ورائها لإرضاخ القوى الثورية الوطنية وكسر الصمود الشعبي، على طاولة مشاورات قد تنعقد لاحقاً، ويتوقع العدو أن يحصد من خلالها تنازلاً لجهة (الفدرلة) التي أوعز التحالف لأدواته بالشروع في تدشينها عبر (فدرلة بيانات القوة الوظيفية لأجهزة الدولة في نطاق سيطرة قوى الاحتلال)، بذريعة امتناع (صنعاء عن تمكين عدن من قاعدة البيانات المركزية للجهاز الوظيفي، وتحويل سيولة البنك المالية من العاصمة إليها بعد قرار نقله).
وفقاً لخبير قانوني ومالي يمني، فإن القيادة الثورية والسياسية نجحت في امتصاص الآثار الكارثية المتوقعة إثر نقل البنك المركزي، وعوضاً عن أن يحدث هذا القرار انهياراً كلياً لقيمة العملة المحلية مقابل الصعبة، وبالنتيجة انهياراً للعمل المصرفي وفقدان ثقة المودعين بالبنوك الخاصة وتحويل أرصدتهم من المحلي إلى الدولار، حدث العكس، وتدافع مودعون جدد بمئات الآلاف لفتح حسابات إيداع، عدا عن التبرعات، فانحصرت الآثار المترتبة على قرار النقل في نطاق إداري ضيق لا تتعداه.
لم ينضج إذن المناخ الذي تضطر معه القوى الوطنية لتقديم تنازلات مذلة وجوهرية لجهة ما يهدف إليه العدوان، بعد.. ولن تنضج.. لا فدرلة ولا تشطير ولا انكفاء عن التحرير الكامل لأراضي الجمهورية اليمنية الموحدة كهدف استراتيجي.
وفي جبهة ما وراء الحدود قد تصمت بندقية الجيش واللجان نزولاً عند قبول المجلس السياسي الأعلى بهدنة، لكن بندقية الثأر القبلي ستظل تشعل ليل نجران جيزان عسير، وتضرم النار في العباءات الملكية خارج كل قواعد الاشتباك، عدا الثأر للدم اليمني المسفوك على كل شبر من ترابنا، فالوطن كل الوطن صار هو القبيلة..
ولا عزاء للعملاء والسذج والخونة جنوباً وشمالاً.

أترك تعليقاً

التعليقات