رئيس التحرير - صلاح الدكاك

لم يكن الباليستي اليمني الذي دك مطار الملك خالد في الرياض، عشية الأحد الفائت، أول صاروخ يقطع مئات الكيلومترات قادماً من اليمن، ليصيب نقاطاً حساسة ونائية من أراضي المملكة السعودية، فلماذا أثار ـ أكثر من أسلافه ـ كل هذا الفزع والصراخ والارتباك والولولة العلنية غير المسبوقة لدى العدو؟!
يمكن تسبيب ردات الفعل المغايرة هذه على الجانب السعودي فنياً بـ(مستوى قوة الصاروخ الأخير [بركان إتش تو]، ودقة وكفاءة إصابته للهدف وتدميره، وقدرته على تنويم نظم الرصد والإنذار والاعتراض المعادية)، واستخبارياً بـ(أرضية ميدانية معلوماتية خصبة مجلوبة سلفاً من بيئة الموقع المستهدف، كما ونجاعة انتقاء الهدف من حيث الأهمية الجيوعسكرية والجيوسياسية له ـ مطار الملك خالد شرق العاصمة السعودية ـ والإسناد الزمني لتنفيذ الضربة)، وإعلامياً بـ(شقلبة دورة التغذية الإخبارية الرسمية المفلترة، وجعل الشارع السعودي أول من يعلم، والسلطات السعودية آخر من يحق له النفي والتكذيب،...)...
كل ما سلف ذو قيمة ـ ولا ريب ـ في تفسير ردات فعل العدو على خلفية (البركان اليمني الأخير وغير الآخر على الرياض)، إلا أن القيمة الرئيسية المتممة للقيم الآنفة المذكورة، هي في غرف السياسة والاتصالات الدبلوماسية، أي خلف الأبواب المواربة التي لا ترشح عنها سوى قصاصات أنباء غير كافية لتطهير الأبعاد الكاملة للمشهد عبر لصقها في إطار تحليلي، يفتقر للغوص اللئيم والنبيه والشيق بحثاً عن القصاصة المفقودة..
(بركان إتش تو)، عشية الأحد الفائت، لم يوقظ رفات الملك خالد من الرميم، ويقضَّ برزخ هجعته المديدة، فحسب، وإنما ركل مؤخرة (محمد سلمان) بقسوة وغلظة بعيداً عن العرش، بعد أن كان قيد بوصات من التتويج والجلوس.
اشترى والده ـ في زيارته لموسكو ـ رصيد النفوذ الروسي في كواليس قرار صنعاء السياسي والعسكري.. كان من العسير على الابن الساعي لحسم أمر الملك والاستحواذ الآمن عليه، أن يدير الظهر لسعير الحرب على اليمن، وينكفئ لإخماد وقيد حزازات الأجنحة المناهضة لتنصيبه داخل العائلة المالكة السعودية..
وقد طمأنه الروس إلى أن بمقدورهم تأمين ظهيره الجنوبي عبر توظيف منسوب حضورهم المؤثر في صنعاء لصالح (تجميد الاشتباك العسكري في اليمن) عند نقطة المراوحة في نطاق المواجهة القائمة براً على جغرافيا جنوب المملكة، ووقف مسار (التصعيد في مواجهة التصعيد) الذي شرعت القيادة الثورية اليمنية فيه رداً على تمادي العدوان في حصار الشعب اليمني وارتكاب المجازر بحق المدنيين، وفي صدارة ذلك وقف الضربات الباليستية الكائنة على المملكة والمرتقبة على الإمارات.
راهن الروس في تحقيق هذا المسعى اللئيم لـ(تجميد الاشتباك من طرف واحد)، على جر (مؤتمر صالح) إلى تبني محددات تسوية مطابقة من حيث الجوهر لمحددات تحالف العدوان، تحت إلحاح حاجته وحاجة رئيسه لغطاء دولي سياسي روسي (محايد) يعيده إلى المشهد باستحقاق إنهاء العدوان وإحلال السلام؛ وبذلك تضمن روسيا وعاءً حزبياً مؤثراً في الداخل اليمني تملأه برؤيتها، فتتحول من موقع وسيط دولي مقبول لدى صنعاء، إلى لاعب آمر لا مناص لصناع القرار الوطني من الإذعان لتحذيراته وتسليمه دفة المواجهة العسكرية، أو الانخراط في اقتتال بيني طرفاه المؤتمر والأنصار، على خلفية التناقض الحاد في تشخيصهما لأبعاد المواجهة وسبل فض الاشتباك مع العدوان وتحالف دوله!
لجأ الروس إلى تغليف مسعاهم السياسي بغلاف (أممي وإجماع دولي على الحل السياسي وضرورة إنهاء الحرب وخارطة طريق ومبادرات سلام وردية) ظلت مجرد دخان كثيف بلا نار، ولم يتسلَّم المفاوض الوطني الثوري مسوَّدة لأي منها، أو يتلقَّ دعوة رسمية إلى حوار مزمع حولها، حد تأكيد محمد عبدالسلام الناطق باسم الأنصار!
كان المغزى من هذا التغليف المشفوع بالود والنوايا الحسنة تجاه اليمن، كسر حالة الصمود الشعبي بخفض سقف الصبر والاستعداد للمواجهة مهما امتدت، لجهة الغرق في التعويل على خلاص سهل ناجز، يتعين على القيادة الثورية القبول بعروضه الودية المخاتلة تلافياً لانفضاض الشارع الموجوع من حولها وفقدانه الثقة في صوابية رؤيتها وقراراتها واتهامه إياها بـ(إدمان الحرب والانتفاع من استمرارها)!
في الأثناء بدا أن مسار (التصعيد في مواجهة التصعيد) قد أخلى المجال للمسار الدبلوماسي الفخ، وانحسر قبل تدشينه مدُّ الهجوم لجهة جزْر الدفاع، وقرر الروس أنهم قد وفِّقوا في تجميد الاشتباك، وبات المناخ مواتياً على الضفة اليمنية ليدير الأمير الطامح إلى الملك ظهره لها آمناً من مفاجآتها غير المحتسبة، فأطلق (مشروع نيوم لتغيير وجه المملكة، وسمح للمرأة بقيادة السيارة، وشرع في التشبيك الجاد والعملي مع الكيان الصهيوني لتغيير وجه لبنان ولجم تداعيات انتصار سوريا والقضاء على حزب الله و...) أفاق في توقيت قاتل على دوي (بركان إتش تو) ينسف كل ترتيباته، ولم تكن مصادفة أن يحدث ذلك عشية إعلان (سعد الحريري) استقالته كرئيس لحكومة لبنان، من مقر إقامته الجبرية في الرياض.
عبرت هذه الصدمة الباغتة عن نفسها في صورة (إغلاق منافذ الجمهورية اليمنية براً وبحراً وجواً من قبل تحالف العدوان)، بما فيها الواقعة تحت سيطرة قوات الاحتلال الإماراتي، الذي استشعر رعباً مضاعفاً من ضربة باليستية قادمة تعقب ضربة الرياض، وفيما انسحب المراقبون الأمميون من ميناءي الحديدة والصليف، استجابة لدعوات التحالف الأمريكي السعودي بإخلاء المنشأتين من كل مظاهر الحركة، كان القائم بالأعمال الروسي لدى اليمن يلتقي الإخواني (حميد الأحمر) في الرياض، بما يعنيه توقيت ومكان ظهوره من انحياز واضح لجهة حزمة (العقاب الجماعي) المتخذة بحق اليمن وشعبه، ليس هذا فحسب، إذ أعلن السفير الروسي لدى اليمن المقيم في الرياض من ذات المكان رفضه للضربة الباليستية اليمنية بوصفها (غير مبررة).
لقد أتلفت هذه الضربة ـ بطبيعة الحال ـ ورقة الحضور الروسي كوسيط محايد، وهو أمر حسن لوضوح الخيارات اليمنية مستقبلاً. 

أفق المناورة القادم
يستهدف العدو من حزمة (تضييق الخناق) المشفوعة بمؤازرة روسية دولية سافرة، تصفير عداد توازن الردع الذي ارتفع بالضربة الباليستية الأخيرة، والزج بالقيادة الثورية في مستنقع إدارة أزمات داخلية عنيفة تفتك بمعايش الشعب، وأمام حملة الضغوط النظرية الأممية والمنظماتية التي تطالب التحالف بالتراجع عن قراراته الأخيرة، لن يكون بوسع القيادة الثورية الرد بحراً على هذه القرصنة، كما سبق أن توعدت، وستضطر لانتظار ما ستسفر عنه تلك الضغوط من نتائج بالتزامن مع مواجهة أعباء مضاعفة داخلية ناجمة عن تلك القرصنة..
إنها ـ بالنسبة للروس ـ فرصة مواتية لمعاودة الاصطياد في العلاقة بين حليفي الوفاق المناهض للعدوان، وتأزيم القوى الثورية في علاقتها بالشارع المثخن والموجوع.. غير أن زمن هذه الأزمة لا ينبغي أن يطول لتمكين العدو والصديق اللدودين من إنجاز مراميهم؛ وهو أمر تبدي القيادة الثورية إلماماً ووعياً عمليين كبيرين بخطورته ووجوب الرد عليه جذرياً، وعدم الغرق في هامش تداعياته..
(الموانئ والمطارات وشركات ومصافي النفط والطاقة وناقلات الوقود البحرية التابعة للعدوان ستكون هدفاً للرد الجذري على تصعيد تحالفه)... من ثنايا هذه المعادلة فلينصت العالم لهدير المتغيرات الجذرية المقبلة في قواعد الاشتباك.

أترك تعليقاً

التعليقات