رئيس التحرير - صلاح الدكاك

الهدوء المفرط للبلد الأكثر دوياً وصخباً على الكوكب، يثير حنيني الشرقي لأبواق السيارات ونداءات الباعة على الأرصفة وجلبة المارة وأبواب ونوافذ البيوت التي تصطفق دالة على أن حياة خلفها.. لا شيء من ذلك على الإطلاق هنا؛ داخل هذه الثلاجة الكونية التي تُصدِّر للعالم أسخن القرارات وأغزرها لهباً واشتعالاً، ثم تنام كطفل أرهقه اللعب، حاضنة كلبها الأثير، لا يؤرق بالها شيء .. أرهن لساني العربي للمترجم/ة، وأضبط الساعة والأحاسيس على فارق توقيتين زمني وحضاري بين أقاصي جنوب الجزيرة العربية وأقاصي شمال الكرة، وأدخل أمريكا من عاصمتها التي يفاخر السود بأنها بنيت على أكتاف أجدادهم المجلوبين من أفريقيا... لا أحد بوسعه اليوم ادعاء الحيازة الحصرية لهذه الماركة العالمية التي أصبحت – بعد بضعة قرون على رحلة كولومبس – تعرف بـ(USA).. أجمل ما في الإنسان وأبشع ما فيه تآزر في صناعة هذه الخلطة الحضارية المعجونة من كل سلالة وعرق ومعتقد، والتي تحصد قدراً متكافئاً من المدائح واللعنات والحب والكراهية والإعجاب والسخط ..
خلف مساحة شاسعة، شِقُّها الإنساني مرسوم بأناقة فائقة، وشِقُّها الطبيعي منثور بوحشية بديعة؛ يغفو التاريخ الأمريكي كأرشيف ضخم لا تقلبه سوى أنامل السياح والباحثين والساسة بنوايا متباينة، غير أنه يبقى تاريخاً سهل الإيقاظ رغم انتقال الصراع إلى مستوى أرقى وأعقد وأكثر سلاسة في اللحظة الراهنة، منه في زمن مخاض النشأة والاستقلال .
لم تعد أمريكا بلد (الهنود الحمر)، ولا بلد (الإنسان الأوروبي الأبيض)، بل بلد المهاجرين من كل لون، وعبر إجراءات سلسة إلى حد ما، بوسع أي كان أن يصبح أمريكياً، كما أن مواقع صناعة القرار مفتوحة لمختلف الشرائح الاجتماعية تحت مظلة الجنسية . تلك هي المعادلة النظرية الأرقى التي تقدم أمريكا نفسها من خلالها اليوم، ويأتي صعود (أوباما) إلى سدة الرئاسة بمثابة البرهان العملي عليها؛ إلا أن محك الواقع يتجاوز هذا التبسيط، فارضاً تعقيداته العابرة للفروق الشكلية بين الملونين إلى جوهر اللعبة الاقتصادية وحقيقة نفوذ القلة الثرية وجماعات المصالح...
الحريات والحقوق لم تكن هبة سهلة قـُـدِّمت على صحاف من ذهب لإنسان الأرض (الجديدة)، بل حصيلة صراع مرير بين مـُـسْـتـَـغِـل ومُـسْـتــَــغَـل، على امتداد أطوار النشأة وحتى اللحظة ...
من المؤكد أن أدوات الصراع قد تهذبت كثيراً. لكن ثمار شجرة الحرية ليست دانية القطوف لكل حامل جنسية، فقط لمجرد أنه يحملها.. يتعلق الأمر بيقظة المواطن واستعداده الدائم للدفاع عنها وتأكيد استحقاقه لها والمراكمة عليها، ففي قاع بحيرة الحياة الأمريكية اليومية التي يلوح سطحها هادئاً ووديعاً، يحتدم تنافس شرس يمكن أن يطال حتى ما ينظر إليه الشارع الأمريكي باعتباره من الثوابت على مستوى الحريات العامة ..
كشرق أوسطي عربي يمني، يوجد الكثير الكثير مما يفغر فاهي انبهاراً، ويثير زوابع دهشة تحت مسامات جلدي المدبوغة بألوان الاستبداد ..
طيلة أسابيع إقامتي هناك استغرقني شغف الاستيقاظ المتكرر لمعاودة الانغماس في حياة متجددة وثرية بكل ما يجعل من النوم إزاءها ضرباً من الموت، ويوفر دائماً حافزاً ملحاً لمغادرة الفراش والتسكع حتى في أنصاف الليالي ..
على النقيض لما هدد به (مارتن لوثر كنج) أنصار الاضطهاد العرقي من (إيقاظ قاسٍ..)، تعرضتُ على الدوام لإيقاظٍ ناعم حنون، ظل ينقر شباك القلب مثل عصفور، ليذكرني بمواعيد نشوة ينبغي ألا تفوت ظامئاً مثلي أنا الذي غادر ما تسمى بلاده نهباً لحرائق لن تخمد على المدى القريب، ومشاعاً لقصف عصابة تاريخية تعاقب إنسانها بجريرة الحلم في الخلاص وحياة آدمية تليق به ..
أتسكع بنشوة حياة أعيشها هنا على هذه الشرفة النائية من العالم، وحسرة حياة بالحد الأدنى يحلم بها إنسان حارتي ولا يطالها ..
كيف بوسعي أن أحشر اليمن في خارطة اهتمام (كريستينا) موظفة الفندق الحسناء المشغولة من رأسها حتى قدميها بمباراة كرة قدم أمريكية حاسمة، تُصَلِّي وتبتهل ليفوز فريق ولايتها فيها ويُجْهِز فأر (ويسكونسن) على كوز الذرة (النبراسكي)، بحسب كاريكاتور بارز في الصحيفة المحلية للولاية!... كيف أخبر (كاترين) نادلة البار بأن خصلات شعرها الأشقر تشبه إلى حد بعيد سنابل (وادي السحول) في ذروة نضوجها، وأن شلال الزرقة في عينيها يشبه في ذروة دفقه (شلال وادي بَنَا)؟!.. كيف أخبرها بذلك دون أن تعتقد بأن في مجازي الغريب انتقاصاً من جمالها وخدشاً لانسياب سحرها الوادع ..
كيف أغيِّر مجرى (المسيسيبي) بحيث يتقاطع مع غيول (مور وسردد وتبن)، ويصغي لشُبَّابة رعيانها الحزينة كناي الهندي الأخير وهو يوزع ما تبقى من أنفاس على فـَـراشات الجداول الذاوية في مهب دخان الآلة القادمة من وراء البحار؟!
إن إنسان الشارع الأمريكي للأسف يُـعرِّفنا بالنفط لا بالماء، بـ(بن لادن، والفاروق) لا بـ(فيروز والبردوني ومارسيل).. بمخاوفه المبالغ فيها لا بأحلامنا المشروعة خارج حظائر الاستبداد التي تتعاطف معها حكومته وتتعاقد معها شركاته الكبرى.. إنه كائنٌ بعينين مصوَّبتين نحو الداخل، ومن النادر أن يغيـِّـر مجرى بصره إلا عندما يرتطم بشاحنة، أو يتعثر بحزام ناسف؛ وحينها فإنه يُسلِّم عينيه ودماغه للحكومة الفيدرالية لترى وتحلل وتقرر بالنيابة عنه، وترشح له أعداءه وأصدقاءه، في ضوء مصالح مُلَّاك الاحتكارات الكبرى: الحاكم الفعلي وصانع القرار الوحيد في أمريكا بمنأى عن زيف (الفاترينة الديمقراطية) البراقة .
الأسود يليق بالبيت الأبيض

ـ شبح (الشيوعية) لا يزال يحلق على علو منخفض من وسائد الأمريكيين، ويعكر صفو أحلامهم، فصناعة (الفوبيا الأيديولوجية) التي تعهدتها (هوليوود) والنزعة (المكارثية) التي سحبت نفسها على كل شيء في أمريكا، لقرابة 5 عقود من الزمن، ليس من السهل أن تنمحي آثارها بمجرد انهيار (جدار برلين)..
أدرك ـ إلى حد ما ـ أن (دولة الرفاه) نشأت كردة فعل وحائطِ صدٍّ حيال هبات نسائم الاشتراكية السوفياتية و(الماركسية اللينينية) على أمريكا وبلدان الغرب الرأسمالي، وبهدف تخدير وإخماد التناقضات الطبقية في البنى الاجتماعية لتلك البلدان.. فإذا كان بوسعنا الجزم بأن الفضل في نشوء (دولة الرفاه) يرجع ـ بصورة مباشرة ـ للشيوعية، فإن المفارقة أن (الشيوعية) هي المتهمة بتقويض (دولة الرفاه) في الخطاب الثقافي الأمريكي ..
هذا ما استمات المحاضر الأمريكي من أصل لبناني لإثباتـه بغـية تخليص إدارة الرئيس (ريغـن) ورئيسة الوزراء البريطانـية (تـاتـشــر) من شائبة شرٍّ متمثلة في تدشين مرحلة إهدار حقوق ومكتسبات الطبقة الوسطى وقوى الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية ..
فـ(التروتسكيون الأمريكيون -حزب الشاي) المحيطون بـ(رونالد ريغن) ـ في اعتقاد المحاضر المخلص ـ هم من وسوس في صدر هذا الأخير؛ وزيَّـن له سلوك طريق (العولمة النيوليبرالية)؛ الكارثي.. بل إن (التروتسكيين) هم (المحافظون الجُدد) ذاتهم.
في المحصلة، فإن المحاضر في مؤسسة (مريديان) المتعهد الحصري لـ(برنامج الزائر الدولي)؛ إذ بدا مستميتاً في تأكيد (لا منطقه) الفاضح، كان يؤكد ـ بصورة غير مباشرة ـ أن ملائكية صُنَّاع القرار الأمريكي لا تتحقق إلا عبر شيطنة الآخر، وأن الذهنية المنتجة للخطاب الأمريكي الرسمي لم تتعافَ بعد من (فوبيا الشيوعية)، فالقضية لا تتعلق ـ في واقع الحال ـ بزوال الخصم المنظور متمثلاً في الاتحاد السوفياتي؛ بل بالحاجة الماسة لدى النخبة (السيااقتصادية) المسيطرة، إلى تلافي انفجار التناقضات البنيوية الحتمي للرأسمالية في بؤرة عرينها الكوني ..
ربما اختفت الاصطلاحات التحريضية المعادية علناً للشيوعية من الأدبيات السياسية والثقافية والفنية الأمريكية عقب حقبة الحرب الباردة، لكن النيل من مرشح كــ(أوباما) أثناء احتدام المنافسة على الرئاسة، عبر القول بأنه (كان صديقاً لإحدى الشخصيات المدانة بتهمة الانتماء لتيار يساري متطرف)، تبقى دعاية ناجعة يدرك مطلقوها مدى تأثيرها في المزاج الجمعي للرأي العام، وجدواها في خفض شعبية الخصم المنافس، بيد أن الأزمة المالية العميقة التي كادت تعصف بمداميك الحياة الأمريكية إبان انتخابات 2008م، قلَّصت من أثرها على الرأي العام الذي كان مستعداً للسباحة بعكس قناعاته الراسخة، والقبول ببشرة سوداء في البيت الأبيض، حتى وإن كان صاحبها هو (نيكيتا خوروشوف) ذاته، على أمل النجاة من احتمالات الغرق الوشيك ..
كان (الدكتور لاوري) ـ وهو قِس أسود وأحد رفاق (مارتن لوثر كنج)، وناشط في حركة (احتلوا وول ستريت) ـ يغتلي حماسةً وهو يحدثنا عن مدى استجابة الشارع الأمريكي لنداء الحركة على امتداد الولايات الـ50 مع أزوف موعد الزحف المقرر على سوق الأوراق المالية الشهير في (نيويورك)..
في مسقط رأس الزعيم (مارتن لوثر كنج) بولاية (أتلانتا جورجيا) جنوب شرق العاصمة، وذات الغالبية السوداء، تنشط العديد من المنظمات والحركات التي تعنى بحقوق السود، ويترأس (لاوري) واحدة من أبرز تلك المنظمات التي يجمع معظمها ـ على الأقل ممن قدر لنا لقاؤهم ـ على أن حال السود لم يتغير كثيراً بعد قرابة 5 عقود على واقعة اغتيال (لوثر) مؤسس حركة الحقوق والحريات المدنية التي وحَّدت نضال السود ضد التمييز العنصري ..
يلخص (لاوري) ذو البنية الجسمانية الفارهة؛ المأزق الجوهري للسود بالقول: (لقد وجدنا أنفسنا في بلد رأسمالي بدون رأسمال...)، وهو مأزق طبقي لم تكن إزالة المتاريس القانونية التي تعيق نظرياً اندماج السود في المجتمع الأمريكي، كافية وحدها للخلاص منه على طريق تحقيق التحول المنشود في أوضاع هذه الشريحة التي رسفت لقرون عدة تحت نير الاسترقاق والتمييز العنصري..
يتطلَّب الأمرُ معالجاتٍ جذريةً تطال بنية النظام الرأسمالي نفسه.. ولأن معالجات من هذا القبيل لم تحدث، فقد ظلت أكثرية السود عاجزة بفعل الإعاقة التاريخية عن الانتفاع من مكتسباتها النظرية على مصاف القانون في الرُّقي بأوضاعها ..
واليوم، فإن شركة سيئة الصيت وذات رصيد عنصري ضخم مثل (كوكا كولا) التي تتخذ من ولاية (أتلانتا جورجيا) مقراً لها، لا تزال قادرة على مزاولة التمييز ضد السود باستثمار الهامش العملي الفسيح الذي يتيحه اقتصاد السوق، بمنأى عن اجتراح شائبة مساس بالقوانين ..
فالسود ـ بحسب مصادر حقوقية معنية ـ موظفون وعاملون غير مرغوب فيهم من حيث المبدأ في قطاعات (كوكا كولا)؛ والنسبة التي تُرغَم الشركة على استيعابها منهم يحصلون على نصف رواتب نظرائهم من البيض ممن يتمتعون بذات الكفاءة والمؤهلات..
يحـسُـن تقييم أوضاع هذه الشريحة العريضة بالنظر إلى الأعداد الغفيرة التي تكتظ بها سجون الولايات الفيدرالية منها، والتي تهوي باضطراد إلى حضيض المعدمين، لا بالنفر المعدودين الذين تقذف بهم ضربة حظ إلى صدارة المشهد وذروة مباهج الحياة الأمريكية الباذخة.. في العام 2008 كان نصيب هذه الشريحة المفقرة من السجناء في الولايات المتحدة 250 ألف سجين؛ نسبة كبيرة منهم محكومون بالإعدام؛ بحسب معطيات رسمية ؛ ويحصد (حيُّ هارلم في نيويورك) شهرةً عالمية موازية لـ(الضاحية 13 في باريس بفرنسا) بوصفه (جيتو) للزنوج مغلقاً على الجريمة المنظمة وحياة البؤس، وحضيضاً للمخدرات والإدمان...
إن السود ـ بطبيعة الحال ـ لا يعانون لأسباب تتعلق بلون بشرتهم، بل لأن وسائد الحياة الرأسمالية الوثيرة محشوة بقطن شقاء الطبقات المسحـوقة، ولا تقبل القسمة على أكثر من واحد في المائة من قوام المجتمع الأمريكي البالغ نحو 300 مليون نسمة.
يمكن التسليم بخصوصية تاريخية لأوضاع زنوج أمريكا، تجعل حصتهم من القهر والمعاناة أوفر من سواهم من الشرائح، إلا أن ربط هذه المعاناة حصرياً بلون البشرة، هو مقاربة لئيمة توارب حقيقة الصراع الطبقي، عن طريق تلوينه عرقياً وطائفياً بقصد شـَــرْذَمة نضال الطبقات المستغَلة على اختلاف ألوانها ومنابعها، للحيلولة دون اصطفافها وتلاحمها الطبقي في مواجهة قوى الاستغلال ..
إن 10 دولارات تتملق بها ابتسامة (نادلة بار) حسناء، هي مبلغ يستحق ـ في نظر مكسيكي بائس ـ أن يتأرجح في سبيله من سطح بناية شاهقة ليَجْلُوَ زجاجها مقامراً بحياته.. وفيما تلوح الحدود الأمريكية مشرعة أمام عصابات الجريمة المنظمة التي تتخذ من أراضي المكسيك الجار التعيس ملاذاً، فإن ذات الحدود في الاتجاه النقيض موصدة بإحكام أمام عشرات الآلاف من العمال المكسيكيين الذين يخاطرون بأرواحهم لاختراق الأسيجة المكهربة يومياً، بحثاً عن كفاف العيش في الضفة الأخرى المتخمة منها (.. بلاد العم سام)!
إن (عزيزة مجازين)، وهي مجلة تُعنى بثقافة المرأة المسلمة كما تُعرِّف نفسها، وترأس تحريرها امرأة أمريكية من أصول زنجية، هي أحد التعبيرات المتحدرة عن المقاربة الآنفة التي توارب الصراع الطبقي عبر تلوينه ..
بمحاذاة اختزال معاناة زنوج أمريكا في بشرتهم، تضيف المجلة اختزالاً آخر: (إن المعاناة تطال المسلمين من السود، فقط لأنهم مسلمون).. وهو اختزال لا تتحرج رئيسة التحرير التي تحمل اسم المجلة نفسه، عن التصريح به، وإن بصيغة محورة وبمغزى تلخصه (عزيزة) في (دفع المرأة المسلمة الزنجية لمواكبة ثقافة العصر وتقديم صورة حضارية تدحض الصورة الشائعة عنها كـ[متزمتة])، كما وفضّ الالتباس بين الإسلام والإرهاب... لكن من يعمل على تغذية هذا الالتباس والاستثمار فيه..؟! سؤالٌ لا يروق للكثيرين طرحه لأنه يسلط الضوءَ على أغوار لعبةٍ قذرة؛ ينبغي أن تظل مواربة!
تتلقى المجلة معونات نقدية من جمعيات خيرية، وتسعى ـ وفق عزيزة ـ لاستقطاب دعم البلدان الخليجية التي ترى فيها مثالاً لمناصرة قضايا (الأقليات) المسلمة.. هكذا فإن الزنوج إذ كانوا في السابق؛ فقط (سوداً)؛ يصبحون مسلمين ومسيحيين، يُعرِّفون وجودهم بمقتضى الانتماء الديني، مبتعدين أكثر فأكثر عن مجرى الصراع وماهية العدالة التي يتحتم النضال في سبيلها وترفع المعاناة عنهم!
لقد بدد رجل أهوج مثل (أليجا محمد)، في خمسينيات القرن الفائت، الكثير من طاقة زنوج أمريكا في صراع عبثي وظَّف خلاله (الإسلام) باعتباره ديناً مناهضاً للبيض على النقيض للمسيحية التي تناصب السود العداء، برأيه؛ الأمر الذي أتاح للنخبة الطبقية المسيطرة إدارة الدُّمى المقتتلة على الجانبين لمصلحة تأبيد الاستغلال؛ فأتباع (أليجا محمد) ـ وكان يتلقى دعماً خليجياً هو الآخر ـ من جهة، تقابلهم عصابات الحزب النازي الأمريكي الـ(كو كلوكس كلان) من جهة أخرى ..
فيما من المؤكد أن اغتيال المناضل الزنجي (مالكولم إكس) والزعيم الملهم (مارتن لوثر كنج)، كان مصلحة لكلا الفريقين وللنخبة المسيطرة بالأحرى، والتي كان الراحلان يمثلان تهديداً جدياً لجوهر هيمنتها القائمة على فرز الطبقات المسحوقة إلى جزر معزولة بتوظيف أحط الأدوات نازيةً وانتهازية .
ربما تلقي الخطوة الأهم التي دشن بها (أوباما) ولايته الأولى، الضوء على واحد من أبرز التناقضات العميقة التي تمثل بديهة لا تلفت نظر الكثيرين في الأداء الرأسمالي.. أعني بتلك الخطوة إدراج 30 مليون مواطن أمريكي ضمن المنتفعين من برنامج التأمين الصحي، وفي ميزان الرأسمالية الأمريكية، فإن هذا يعد انقلاباً ورِدَّةً لم يكن (الجمهوريون) ليستسيغوها في حينه لولا تهديد الأزمة المالية... واليوم فإنهم يحكمــون الخناق على (إدارة أوباما) لقسره على التراجع عنها ..
وبمنأى عن الجدل المحتدم بين الحزبين، فإن الكارثي أن 30 مليون نسمة تداركتهم رحمة (أوباما) حديثاً، كانوا ـ في واقع الحال ـ يعيشون نهباً لأنياب الموت قبل أن تشملهم هذه المكرمة، فالحصول على التأمين الصحي مرهون بالحصول على فرصة عمل، والعمل مرهون بمقدار ما تحتاجه السوق من الأيدي العاملة وفقاً لمبدأ العرض والطلب.. هكذا تأخذ السوق كفايتها وتلفظ فائض قوة العمل المعروضة كالنشارة المتخلفة عن الأخشاب بعد كشطها ..
لقد أنعشت الحكومة الفيدرالية رئات الشركات الكبرى التي كادت تلفظ أنفاسها إبان الأزمة، بأموال دافعي الضرائب الذين يتعين عليهم ـ وهم الغالبية ـ أن يكدحوا كثِيْرانِ الساقية معصوبي العيون، يضخون الكثير من المال نظير القليل من العلف والرعاية، فتحت نَيْرِ الاستغلال لا فرق بين أبيض وأسود ولا مسيحي ومسلم إلا بمقدار ما يفقسه من ريع في حجر النخبة المسيطرة .


زنازين هوليوود

الأمريكيون ـ فقط وحصرياً ـ هم من يتمتعون بحق اتخاذ الإجراءات التي يرونها كفيلة بحماية أمنهم القومي ومصالحهم الحيوية، ويتعين على العالم ـ كل العالم ـ أن يُسَلِّمَ طوعاً أو كرهاً بهذا الحق الحصري، ويذعن دون تذمُّر لشتى الإجراءات المنبثقة عنه، حتى وإن كانت هذه الإجراءات تتضمن المقامرة بأمنه القومي ومصالحه وسيادته، فالعالم ـ بطبيعة الحال ـ هو أمريكا، وأمريكا هي العالم ...
لذات الأسباب التي اجتاح الأمريكيون تحت مظلتها (أفغانستان والعراق)، تم احتجاز حقيبة سفري طيلة يوم وليلة في مطار (فرانكفورت)، بصورة تعسفية فجة، كما و(اختطاف) زميلنا (بسام الذبحاني) الذي لحق بنا على الرحلة التالية إلى (واشنطن)، ليتضح أنه جرى (احتجازه) من قبل سلطات المطار الألماني، لذات الأسباب وتحت المظلة ذاتها.. إنها (إجراءات وقائية تتعلق بالأمن القومي الأمريكي) ليس إلا: احتجاز حقيبة سفر أو استباحة بلد مستقل شعباً وتراباً ..
احتجاز إنسان أو قتل مليون ونصف مليون إنسان عراقي ...
إيواء رموز ومشائخ التكفير والذبح على الهوية، في عواصم (العالم الحر)، ثم تفخيخ الكرة الأرضية براً وجواً وبحراً بـ(المارينز والطائرات الحربية بدون طيار) بذريعة مكافحة الإرهاب ..
فتح البوابتين الأمريكية والبريطانية على مصاريعهما أمام (أبو قتادة وعمر عبد الرحمن) لردح من الزمن، وعرقلة حصول (محمود درويش) على تأشيرة دخول للعلاج ..
كيف يمكن لمعادلة الحياة أن تستقيم على ظهر الكوكب، أو أن يصبح العالم حضارياً إزاء هذا الكيل؟!
يقول (ديفيد نيوتن)، وكان سفيراً للولايات المتحدة إبان ثورة سبتمبر 1962م، ونائب سفير في 1974م.. (أستطيع أن أجزم بأننا أوغاد للغاية على مصاف سياستنا الخارجية).
يتحدث (نيوتن) بلغة دافئة عن ذكرياته في (تعز) التي ظلت لسنوات عقب الثورة مقراً للبعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية، وتربطه علاقة مميزة بـ(أحمد عبده سعيد)؛ الشخصية الاجتماعية والسياسية والليبرالي الحالم الذي أسهم في وضع لبنات الحداثة الأولى في (مدينة تعز) كـ(مدرسة محمد علي عثمان والمنشأة السياحية المعروفة بمتنزه المسبح،...). ويتابع (ديفيد) في معرض رده على سؤالي إياه حول طبيعة الدور الأمريكي المبكر في اليمن: (لقد مد الأمريكيون أيديهم للقوى التقليدية، وهم المسؤولون عن تغولها واتساع نفوذها في اليمن.. والنتيجة أن أسرة مثل آل الأحمر يخططون اليوم لابتلاع كل شيء.. النفط والتوكيلات التجارية وأجهزة الدولة.. لقد استولوا على المساحة المخصصة للمدرسة الأمريكية، وحين خاطبْنا الشيخ عبدالله بشأنها ردَّ علينا قائلاً: الكل يفعلون ذلك)!
(أعرفُ جيداً - يقول ديفيد- أن بين عائلتي صالح والأحمر اتفاقاً بألا يتدخل أحدهما في شؤون الآخر. لكنَّ حميد الأحمر يحدوه طموح في أن يصبح رئيساً لليمن)!
ويكشف السفير الأسبق الذي يعمل حالياً خبيراً في مؤسسة (مريديان) إحدى البوابات المُيَسِّرة للبلدان الراغبة في اتصال سريع بالإدارة الأمريكية؛ عن وقوف هذه الأخيرة لجانب خرق اتفاقية وقف إطلاق النار من قِبَل سلطة صنعاء إبان حرب صيف 1994م، لـ(ضمان ألا يتجزأ اليمن ويعود الى وضعه الشطري)!
ولا يخفي (ديفيد نيوتن) الذي يعاود - كحال غالبية الساسة الأمريكان المتقاعدين- مزاولة نشاطه الديبلوماسي من الكواليس؛ أن هَمَّ الإدارة الأمريكية الحالي (أكتوبر 2011م) بالنسبة لليمن هو (إخراجُ صالح من الحكم، والضغط على فرقاء المشهد السياسي من أجل تقديم تنازلات لا غنى عنها لحفظ الاستقرار..)!
ويقول بلهجة المحذر الواثق في سياق مكافحة الإرهاب: (نخشى أن نضطر لملاحقة القاعدة بأنفسنا في ظل ضعف الدولة اليمنية)!
كنا نتهيأ لالتقاط صور تذكارية عقب حديث قصير وكثيف مع ديبلوماسي عتيق تبرعُ ملامحه في إقناعك بأنه يقول كل الحقيقة؛ عندما التفت (نيوتن) صوبي وقال كمن يرغب في تتويج اللقاء بخاتمة دافئة:
(كان أحمد عبده سعيد رجلاً رائعاً ومحباً لبلاده، وقد عمل على تسخير علاقته بنا لصالح نهوضها... حين التقيته لاحقاً لدى عودتي كنائب سفير في صنعاء، فوجئت بأن صحته قد تدهورت كثيراً..)..
لكن هل كان الأمريكيون ساذجين حقاً عندما ساعدوا على تغول نفوذ القوى التقليدية المناهضة للقوى التقدمية الحالمة والطرية العظم حينها؟! أم أن إعاقة كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والنهوض، هي لازمة رئيسة على طريق توطيد سيطرتهم في المنطقة؟!
لا مناص أمام صانعي القرار الأمريكي الإمبرياليين إلا أن يكونوا أوغاداً بالقصور الذاتي، ومن العسير أن نتصورهم يصافحون سوى أكف الرجعية العربية، بمقتضى المشروع، لا بناءً على التخمينات وضربات الحظ !
بيد أنهم ليسوا (أوغاداً على مصاف السياسة الخارجية) وفقاً لعبارة (نيوتن) الآنفة ـ فحسب، بل وعلى مصاف السياسة الداخلية التي تزاول الاحتيال على قيم الحياة الأمريكية ذاتها، وتثابر في محاولة التنصل منها، وتطال تهديداتها حتى (باصات النقل المدرسية) وحقوق المعلمين والمعلمات في عدد من الولايات الفيدرالية ..
إن الغاية الجوهرية لراسم السياسة الخارجية التوسعية الأمريكية، هي ـ في المحصلة ـ تأمين مجال حركة جيواقتصادي واسع، وضمان انتشار سلس لنشاط الاحتكارات الأمريكية المسيطرة على امتداد خارطة العالم، ليس فقط لمراكمة المزيد من الأرباح والرساميل، بل ـ وأيضاً ـ للتفلت من خناق الاستحقاقات الداخلية التي يفرضها نسق تطور تاريخي تراكمي قائم على الصراع الممتد والمسؤول عن الصورة (غير النهائية) للحياة الأمريكية في طورها الراهن.. وهي استحقاقات تُعَقِّد بالضرورة ظروف الكسب السهل الذي تحققه تلك الاحتكارات خارج نطاقها المحلي ..
تجسد سلسلة الانتهاكات والخروقات الواسعة لقيم الحياة الأمريكية التي أعقبت أحداث أيلول 2001م، الذهنية الانتهازية لصانع القرار الأمريكي الذي يتقن ـ ليس فقط ـ الانتفاع إلى أبعد حد من حادث عَرَضي كارثي، بل لا يتحرج في صناعة حوادث كارثية تتيح له الانقلاب على ما ينظر إليه باعتباره عوائق على مصاف الحقوق والحريات وثوابت الفضاء العام الأمريكي، بحيث يبدو انقلابه مسوَّغاً في نظر مجتمع مصدوم خائف وناضج نفسياً لامتصاص تداعيات الحدث الكارثي السلبية على واقعه، دون إبداء الكثير من الممانعة، ودون تحفظات ..
لم تكن الإدارة الأمريكية إبان (ولايتي بوش الابن) لتقدم على هتك أدق خصوصيات المواطن الأمريكي والتنصت على مكالماته الهاتفية والنبش في كواليس حساباته الشخصية على شبكة (إنترنت) بتلك القحة والجرأة لو لم يكن هذا المواطن مذعوراً وآيلاً للقبول بشتى صور الاستلاب تحت هول صدمة (أيلول 2001م)...
لقد عازَ وكالةَ الأمن القومي إنشاءُ (مبانٍ بحجم ملعب لجمع البيانات المتحصَّلة من الرقابة على كواليس الحياة الشخصية للمواطنين) بعد تعديلٍ قانوني يتيح التنصُّت والرقابة على حياة الأشخاص أُدخلَ إثر حادثة (برجي مانهاتن)، كما تؤكد (ليزا) رئيسة (مركز الإعلام والديمقراطية) الذي ينشط في مجال مناهضة فكرة (أفضلية الرجل الأبيض؛ والعنف ضد الزوجات والرقابة على الأفراد والتنصت!)...
وبلغت ميزانية الاستخبارات عقب (أيلول 2001) 4 تريليونات دولار...!
لكن الاستثمار في (ذعر المواطن الأمريكي) ـ بطبيعة الحال ـ ليس انعطافة مرحلية طارئة في نهج الإدارة الأمريكية أملته أحداث أيلول (الإرهابية)، بل هو سلوك متأصل في ذهنية هذه الإدارة الممثلة لمصالح الاحتكارات، يتشاطره (الديمقراطيون والجمهوريون) كثابت، ويزاوله صقورها وحمائمها على السواء، بالأقل منذ أربعينيات القرن الفائت.. وتتولى (هوليوود؛ بوصفها ماكينة تفريخ المخاوف وصناعة الفوبيا الأضخم في العالم)، حَشْوَ وسائد المجتمع الأمريكي بالكوابيس والأشباح الكفيلة بالإبقاء على أفراده طرائد عالقة على الدوام في شباك الذعر... ذعر غير خلاَّق ولا يَحْفِزُ خلايا الفاعلية لدى المتلقي إيجاباً لمجابهة عدوٍّ منظور، قدر ما يشل قدرته على المبادرة، ويجعله عجينة مطواعاً في قبضة الإدارة اللئيمة.. فمن (جوستابو النازية وأفران الغاز) إلى (غولاج الشيوعية والخطر النووي الوشيك) إلى (غوانتانامو القاعدة وميتافيزيقيا إرهاب الأصوليات الإسلامية)، يعيش المواطن الأمريكي متنقلاً بين الأقفاص الافتراضية حبيس قضبان الذعر من (آخرٍ بلا ملامح) يضمر له الكراهية لغير سبب واضح، ويستهدف سكينته؛ بينما تواصل حكوماته المتعاقبة أعرقَ وأعظمَ استثماراتها التي لا يطالها الكساد ...
إمبراطورية ماردوخ
يتحدث عدد من المثقفين والناشطين ممن قابلناهم، بنبرة متشكية أقرب إلى نبرة رعايا شرقيين، عن جملة من التهديدات التي تنذر بتقويض الفضاء العام مع تنامي نفوذ المحافظين الجدد وسيطرة الاحتكارات المفطردة على مكتسباته وانحسار هامش التنافس والتمويلات المشبوهة وغير القانونية لحملات مرشحي الكونجرس مقابل الاستحواذ على استثمارات في القطاعات الخدمية العامة وتعديل وتمرير قوانين تقامر بمصلحة الغالبية لجهة (جماعات المصالح الكبرى)!..
فعلى سبيل المثال، تعاني ولاية زراعية صغيرة مثل (ويسكونسن ذات الألفي بحيرة) من معضلة عزوف المستثمرين، ويمثل ـ في السياق نفسه ـ هروب الرساميل المحلية بفعل الاستقطابات الداخلية والخارجية، هاجساً مؤرقاً بالنسبة لغالبية سكانها المشتغلين بالزراعة، وفي 11 فبراير 2011م شهدت الولاية، التي تعتمد في اقتصادها بدرجة ثانية على بنية جامعية مميزة، تظاهرةً احتجاجية هي الأولى في تاريخ الولايات المتحدة من حيث عدد المتظاهرين الذي قدر بعشرات الآلاف.. اكتظت المساحة الفسيحة تحت قبة برلمان الولاية والمخصصة للتظاهر بحسب العرف الأمريكي، بالمحتجين، واحتشد الباقون في حديقة الكونجرس والشوارع المفضية إليه في عاصمة الولاية (ماديسون)..
صُدم المتظاهرون بالتغطية الإعلامية لحدث الاحتجاج، فشبكة (ماردوخ الإعلامية، وعلى رأسها [فوكس نيوز])، وهي الإخطبوط الإعلامي الأكبر في الولايات المتحدة، لم تتورع عن (فبركة) مشاهد عنف ألصقتها بالمتظاهرين، حيث يلوح خلالها عدد منهم شاهرين الأسلحة البيضاء والنارية، ويطلقون الأعيرة، الأمر الذي ينفيه منظمو التظاهرة كلياً ..
مثل نظيراتها في (بريطانيا) تقع وسائل الإعلام الأمريكية الواحدة تلو الأخرى، في قبضة (إمبراطورية رجل الأعمال الشهير ماردوخ)، ويصبح (عفريت الميديا الجبار) (جارسوناً) طبقياً حصرياً على طاولات أرباب (اليخوت) الفارهة وملوك الاحتكارات، يقدم (الكافيار) ويجلو الصحون، وتتداعى إحدى أبرز ركائز (الليبرالية والحداثة) في (عالم) لا يزال يُذيِّل اسمه بصفة (الحر)، رغم انحسار القرائن ـ بمثابرة ـ على مصاف الواقع ..!
في خضم هذا الخناق الإعلامي، تحضر (الميديا البديلة وغير التقليدية) بوصفها قارب نجاة بالنسبة للرأي العام في الولايات المتحدة، وتشهد مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية إقبالاً غير مسبوق، بحسب تأكيد نشطاء في ولاية (ويسكونسن(.
يقول الصحفي (مايك ماكاب) من ولاية (ويسكونسن)، ومدير منظمة تنشط في مجال حماية الحريات العامة ومناهضة الفساد: إذا أصبح الكلامُ باهظاً فإن الأثرياء فقط هم من يسيطرون.
ويؤكد (ماكاب) أن هوس السيطرة على وسائط الاتصال بدأ يطال حتى الشبكة العنكبوتية التي تمثل ملاذ الأكثرية الوحيد والمتاح في الراهن.
لا أحد بمقدوره اليوم، وبعد انقضاء أكثر من عامين على تظاهرة (احتلوا وول ستريت)، أن يقف على ملابسات هذه التظاهرة ومآلات الحركة التي دشنتها، إلا باللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية، بينما يلوح اقتفاء أخبارها في وسائل الإعلام التقليدية الأمريكية والغربية، لفرط التعتيم الممنهج، أشبه باقتفاء لفافة (بيتزا) ورقية في مقالب أفران صهر القمامة بولاية (نيويورك)!
إن (أفضل مطهر للجروح هو الشمس) يقول (ماكاب)، ويستدرك: لكن هناك محاولات للانقلاب على قانون إتاحة المعلومات، لاسيما المتعلقة منها بالمجلس التشريعي، بذريعة أنه غير مشمول بالقانون الآنف.
(إننا نواجه أخطاراً تتهدد الديمقراطية.. الفساد يتفشى، وجماعات المصالح تستولي على مؤسسات الديمقراطية بما في ذلك القضاء... السلطة غير مقيدة كما يجب؛ والقوانين المقيدة لها حالياً تتراجع وتضعف؛ والسلطات الثلاث بدأت تصبح سلطة واحدة... باختصار نحن نواجه اليوم ما واجهه الجيل قبل 100 عام من الفساد)!
ويختم: القوانين المكارثية انتهت، إلا أن المزاج المكارثي لايزال قائماً.
(أعتقد أن هذا لم يعد البلد الذي أردت أن أعيش فيه، وينبغي أن نصل الى تسوية لصالح القيم الأمريكية الليبرالية).

من قتل مايكل جاكسون؟!

أعترف بأنني -وبعفوية لئيمة- كنت كيدياً حيال بلدٍ تمثل زيارته حلماً بعيد المنال بالنسبة لأكثرية النخب المثقفة وعامة الناس على امتداد خارطة شرقنا العربي البائس والمضعضع... في الحقيقة لقد حاولت وفشلتُ في أن أكون إلا كيدياً لأسباب تتعلق بسياق مديد ومعقد من الملابسات التي ليست (الأيديولوجيا) أبرزها كما قد يروق لشريحة من القراء المتربصين أن يجزموا...!
على متن الطائرة وفي محطات (الترانزيت)، وطيلة أسبوع من التسكع في شوارع (واشنطن دي سي)، أمضيت الوقت مرتدياً (تي شيرت) أحمر موشوماً بصورة (فلاديمير إليتش أورليانوف- لينين)، وممهوراً بحروف روسية تقول: (سيبقى الحزب ضميرنا الحي)... كنت (سادياً) وملتذاً للغاية بحصاد لا بأس به من نظرات العيون المستهجنة والهازئة والمتأففة.. ولاحقاً لم يتسنَّ لي أن أتأكد مما إذا كانت (الشيوعية) لا تزال كما كان سارياً (التهمة القانونية الوحيدة) التي تُسقط الجنسية الأمريكية عن مكتسبيها ممن تثبت في حقهم!
المؤكد أن (الفصل من العمل) لا يزال سيفاً مسلطاً على رقبة كل عامل يتكهن (وليُّ نعمته) بأن لديه ميولاً يسارية... فقط لمجرد التكهُّن، وفي سياق لصيق، حوكم عدد وفير من مثقفي الولايات المتحدة وعلمائها بتهمة الانتماء لخلايا شيوعية، وفي صدارة هؤلاء (أوبنهايمر)... الرجل الذي حوَّل (تهويمات أينشتاين الورقية) إلى فَناء حتمي بقطر الكرة الأرضية، وفقست على يديه معادلات الانشطار النووي بيضتها الذرية الأولى، وانبثق (فجرها الساطع، من صحراء نيفادا)، مؤذناً بولوج حقبة كونية مصير البشرية فيها مرهون بكبسة زر...
أكاد أسمع شريحة القراء المتربصين يؤكدون: (إنها الأيديولوجيا إذن.. إنه الموت لأمريكا ولا ريب)! بيد أنني مازلت متشبثاً بحقيقة أن (الأيديولوجيات الراديكالية) ليست الحافز الأبرز لتكون كيدياً إزاء الولايات المتحدة، مع إضافة أنها ليست أقل الحوافز أهمية... لعله (شبح الهندي الأخير) الذي يزوبع ككائن أسطوري بامتداد مجرى نهر (بوتوماك)، فيكسر إيقاع دفقه الوادع باختلاج متألم حزين، ويخدش صورة وجهك المنعكسة على صفحة مياهه بقسوة تحثك على اقتفاء الرواية المنسية عن تاريخ المكان في خُطا غزلان المحميات المذعورة ونُواح (اللاما) وأنين السناجب الهاربة على الدوام من أرتال الأحذية غير الآبهة وإنذارات الإخلاء المستمر..
لا أستطيع أن أكف عن التفكير في أن التراب الذي أتجول عليه تراب مسروق، وأن الحقول والغابات والأحراش التي تلوح من نافذة الطائرة بلا تخوم ينقصها جسد أسمر عارٍ يركض ملتحماً بصهوة جواد لا يثقله سرج ولا تعيق حوافره حدوة، ولا تُخدِّد المهاميز جلده الوحشي الساحر البديع...
أشاهد (روح الهندي الأخير) مصلوبةً خلف جداريات مكتبة (الكونجرس) ولوحاته التي تطل ناتئة باهتة وبلا روح.. أشاهدها خلف معروضات متحف (النيوزيوم) وفي أبهاء متحف (الفضاء)..
كل فرط الأناقة والدقة التي تطالعك باتساع سياقاتها ليس إلا محاولات صفيقة لطمر تاريخ المكان، وعدا مبنى الـ(إف.بي.آي) فإن لون جميع المباني الفيدرالية أبيض، ويسفر عن شهوة مقيتة لمحو ذاكرة القارة السمراء التي أصبحت على أيدي حملات الغزاة (الواسب واليانكي الإنجلوسكسونية البروتستانتية)، تعرف بـ(U.S.A)، ويديرها (بيت أبيض تديره اللوبيات) أو جماعات الضغط المرادف الأخف وطأة لعصابات (المافيا)..
يخيل إليك وأنت تتجول مشيعاً بكل هذا البياض المؤدلج، أن المباني مجاميع من عصابات (الكو كلوكس كلان) الأمريكية النازية التي كان أفرادها يرتدون زياً موحداً هو عبارة عن دشاديش بيضاء سابغة بقلنسوات، ويتخذون من قتل واختطاف السود والتنكيل بهم وإحراق منازلهم بمن فيها، حرفة يومية طوال عقود امتدت لستينيات القرن الفائت...
إن أغاني (الهيب هوب والراب)، ذات المنشأ الزنجي الصرف، ليست -في واقع الحال- إلا تكثيفاً فنياً لإرث قرون التنكيل الذي قاساه السود على أيدي الغزاة الأوروبيين، كما وقالباً يستفرغون من خلاله مخاوفهم التاريخية المتأصلة في صورة حركات ترميزية لتجارب مريرة من قبيل إطلاق الكلاب المدربة على أبناء جلدتهم بهدف العقاب والتسلية كما جرت العادة في المستعمرات الإقطاعية، علاوة على شنقهم على أشجار الطرقات والميادين العامة وسط مشاهد احتفالية يحرص بعض المستعمرين على ألا تفوت أطفالهم متعة حضور طقوسها البشعة.
لقد دفعت قرون القهر المنقطع النظير، بأكثرية السود، لا إلى مقت ذوي البشرة البيضاء فحسب، بل مقت أنفسهم، ويعتقد عدد من اختصاصيي علم نفس الاجتماع أن السيرة الحياتية المضطربة لنجم (الراب) العالمي الأشهر (مايكل جاكسون)، تمثل انعكاساً جلياً لعقدة اضطهاد تحولت إلى عقدة وجود، وتمظهرت لدى (جاكسون) في صورة هوس الشهرة التي أوصلته لنجومية عالمية، ثم سعيه لتغيير جنسه من رجل ببشرة سوداء إلى امرأة ببشرة مائلة للبياض.
إلى ذلك، فإن سيرة (جاكسون) تعد ـ في مجملها- أبرز محاكمة علنية في القرن العشرين لحضارة (اليانكي) التي لم يغفرها له رموزها، فأطلقوا عليه أسماك القرش الفنية وإعلام الشائعات وأنياب النازية الجديدة والناعمة، لتنهشه حتى النفس الأخير...

منظر جانبي
كان رجلاً في الخمسينيات من عمره أسود وشاحباً ورديء الهندام.. تقدم نحونا بخطوات بدت لفجاجتها عدوانية من وهلتها الأولى؛ وراح يدحرج على رؤوسنا مفردات كراهية شتى... خلاصتها - بحسب ترجماننا المصري المرافق، والذي صرفه عنا لاحقاً بغلظة غير معهودة: (ارحلوا من هنا.. ما الذي جاء بكم إلى ديارنا؟!...؛...؛...(..
حدث ذلك في مطار (أتلانتا جورجيا - أكبر مطار في العالم بعد تراجع تصنيف مطار هيثرو في لندن)، وكنا قيد دقائق من مغادرة أراضي الولايات المتحدة بعد زيارة استغرقت قرابة شهر طفنا خلالها - بالإضافة للعاصمة - 5 ولايات من ولايات الجنوب الشرقي... لم أكمل تناول وجبتي السريعة التي استعنت بها على سأم الانتظار... شعرت بالخوف للمرة الأولى.. خوف له مذاقُ محاولةِ تخمين الخطوةِ التالية لورم سرطاني يذرع جسدك بشبق ويلتهمك بصمت ورَوِيَّةٍ؛ هازئاً من عبث محاولات لا تؤكد - في مجملها - سوى حقيقة واحدة: أن المبادرة باتت في يديه ووحده يقرر أين ومتى وكيف يضرب؟!

كُتبت هذه السطور على مرحلتين؛ الأولى عقب عودتي من الولايات المتحدة في أكتوبر 2011م، ولم يتسنَّ لي استكمالها ومن ثم نشرها نظراً لظروف تلك الفترة؛ وقد ختمتها نهاية العام 2013م، لتغدو ما هي عليه الآن، وهنالك الكثير مما لم أتمكن من تضمينه فيها على وعد أن تتضمنه مقالات لاحقة.

أترك تعليقاً

التعليقات

Carley
  • الأربعاء , 25 يـنـاير , 2017 الساعة 8:54:42 AM

At last, soonmee comes up with the "right" answer!