رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا

لم تدخل الثورة في دور تسليم واستلام يؤول بموجبه الإرث المخملي الذي رفلت فيه سلطة الوصاية ورموزها وهواميرها وقططها السمان، إلى الشعب المالك الحقيقي لأصول هذا الإرث ومحدثاته المقتطعة من لحمه وعموده الفقري وكده وكدحه وآلامه وقهره على مدى نصف قرن من الإقطاع الحكومي وإدارة البلد بالإنابة عن مصالح قوى الهيمنة والاستلاب العالمي.
لم تنتزع الثورة ملاعق الذهب من أشداق المتخمين بغير وجه حق، لتعيد تدشينها بالحق أفراناً للمشردين والمفقرين ودراويش أرصفة الوحشة والصقيع والمحرومين والمساكين ومن تقطعت بهم سبل الحياة وأسبابها..
لم تصادر الثورة صروح الخدر المشغولة بالماس واللازورد والكريستال وقصور القوارين ومقاصير شهريارات الترف المكتنزة بالدمقس والديباج ونؤومات الضحى.. لتعيد تدويرها تروساً ومكائن ومصانع وتوربيدات تضخ الضوء في أزقة العتمة والأمل في محاوي اليأس وبيوت الصفيح، وتنسج الدفء على أجساد أطفال العراء من "الحوك" إلى "منبه"، وتنفسح حقول عمل للغالبية العاطلة عن الأمل..
لم ترث الثورة ولم تنتزع ولم تصادر نقيراً من هذا الإرث المخملي الطائل وشركات تفقيس الثروات الهائلة وأبراج الهيلمان العاجية، واستمر شعبنا الشريف طاوياً على بطنه حجر الصبر، وظنت سريرته النقية في الثورة خيراً، وقدرت أن لها أسبابها الحكيمة والمنطقية لأن تحجم عن القيام بكل ذلك ولو مرحلياً..
غير أن الثورة التي زهدت في فراديس وجنان سلطة الوصاية البائدة، ترث اليوم كرابيجها وكلاليبها وكلبشاتها وأقبية وخبرات جلاوزتها في فن الإخفاء والتغييب والاستجواب لغير تهمة والاعتقال لغير جناية وتسيير دوريات العسس وزوار الفجر لاصطياد الفرائس الآدمية خفية عن عيون ذويها وعيون القانون.!
أجل ذلك حدث ويحدث بحق أناس أوقعهم المقدور في شرك الاشتباه فلم يُبَرأوا إن تبينت براءتهم، ولم يدانوا إن توافرت أسباب إدانتهم، وأسوأ من ذلك أن معتقليهم لا يخطرون أهاليهم بأمر اعتقالهم لأيام وأسابيع وأشهر، ولا يحيلونهم بحيثيات دعاوى مدونة رسمية إلى النيابات عملاً بالقانون النافذ، والتزاماً بحقوق يمنحها للمواطن في كل الأحوال سواء كان صالحاً أو طالحاً ومداناً أو بريئاً!
أجل حدث ذلك ويحدث وسيستمر في الحدوث إن استمرت الثورة في إرسال صفوة رجالها وأصدقهم وأخلصهم إلى خطوط النار وخنادق الاشتباك مع تحالف العدوان الكوني، وتركت الجبهة الداخلية مشاعاً لجلاوزة السلطة البائدة وذهنية الفلقة والعصا وبيادات الحرس القديم والمتحولين (ثقافياً) من جلادين للثوار إلى جلادين باسم الثورة، ومن "بلاطجة ومدمني إذلال آدمي" إلى "أولياء لله ورسوله وآل بيته الأطهار" يرفلون مثقلين بـ"الكنى والألقاب الجهادية"، متخففين من قيم الجهاد وزكاء نفس المجاهد كعملة بوجهين نُقِش على أحدهما اسم الله وعلى الآخر اسم الشيطان، فإن انخدع بهم العامة لا تفوت حقيقتهم على أهل العلم، حد تعبير المختار بن عبيد الثقفي!
كل مواطن حر شريف أبي النفس في هذا البلد مدينٌ في أمنه واستقراره وسلامة عرضه وماله وكرامته لرجال الرجال في الجيش والأمن والأجهزة الأمنية والداخلية.. ولا ينكر ويجحد فضل هؤلاء البررة الأفذاذ من أبناء هذا التراب، وفي خضم ما يتعرض له البلد من عدوان كوني غير مسبوق.. ولا ينكر ويجحد فضلهم إلا منافق وعدو ومرجف وحاقد موتور، وفي المقابل فإن كل من يمالئ ويتواطأ ويصمت أو يبارك امتهان آدمية المواطن تحت أي مسمى، هو عدو للثورة، ويد داخلية للعدوان، وخنجر في ظهر رجال الرجال من أبناء الجيش واللجان والأمن والداخلية الباذلين أرواحهم رخيصة على مذبح إغلاء كرامة شعبهم وشرف الأرض والعرض..
لقد أطاحت الثورة بمنظومة رموز سلطة الوصاية بجدارة، فاكتسبت تأييداً شعبياً قل نظيره في تاريخ الثورات على مصاف المنطقة العربية والعالم، ويتعين عليها اليوم أن تطيح بمنظومة قيم الوصاية بالجدارة ذاتها، لتكتسب شرعية شعبية لا غنى عنها للمضي بمشروعها التحرري الوطني الأممي قدماً، مشيعة بقلوب الجماهير المكتنزة بالأمل وسواعدها المشمرة للبذل والإنتاج الخلاق. ودون خوض هذا المضمار من التحديات القيمية، فإنها لن تكون قد فعلت شيئاً سوى أن أطاحت بالجلاد وورثت سياطه وظهور ضحاياه..
إن ذلك لا يعني أن الثورة فاقدة للشرعية الشعبية في راهن اللحظة الوطنية التي يعيشها البلد، فالصمود الفذ والأسطوري لشعبنا الشريف في وجه ترسانة العدوان الكوني للعام الخامس على التوالي، لم يكن ليتأتى لها لولا توافرها على تخويل شعبي فاعل ومؤيد وساند ومنضوٍ في المواجهة، غير أن حافز هذا التخويل ومبعثه ليس كون الثورة قد طرحت ثمارها القيمية والمادية المرجوة شعبياً، وإنما يقين شعبنا الشريف من عدالة قضيته وحتمية خوض المعركة دفاعاً عن وجوده المستهدف بالاجتثاث كلياً، كما ووثوقه في قيادة الثورة وصدقيتها الجلية قولاً وعملاً، وفدائية "أنصار الله" كحركة طليعية تتخندق في الأنساق الأولى وخطوط النار الأمامية من المعركة بذلاً وبسالة ورفداً وإيثاراً وتقريباً لأزكى القرابين من الأنفس والأموال والثمرات.
إن معركتنا الراهنة تملي علينا إرجاء تناول بعض القضايا، وعدم العكوف عند بعض الهفوات وجوانب القصور التي يضر تناولها والغرق فيها بسيرورة المعركة الرئيسية، ولا يصب في مصلحتها، على أن غض الطرف عما يمس كرامة وآدمية المواطن الذي يمثل حجر الزاوية في المواجهة ورافعة الثورة المحورية، في المقابل هو عين الإضرار بجوهر القيمة والغاية التي نخوض معركتنا في سبيلها، كما وتفريط جبان ببحار الدماء المسفوحة طيلة 4 أعوام على مذبح مواجهة العدوان الكوني العسكري والاقتصادي والفكري والإعلامي والسياسي، وبالنتيجة تفريط وهدر للوجود الوطني الجمعي المستهدف بالاجتثاث من قبل هذا العدوان خارج الاشتباك المباشر.
إنني وغالبية شعبنا الشريف نتوافر على ثقة مطلقة وغير منقوصة في أن الثورة بقيادتها الفارقة بصيرة وحكمةً وصدقاً وإيثاراً، لن تقف في منتصف الطريق نزولاً عند لزوميات الوفاق السياسي وترضياته المخصومة من رأسمالها الشعبي الاستراتيجي ورافعة شرعيتها الثورية.. وكما بتر سيد الثورة في خطابه الأخير لسان العنصرية والطائفية الناعق زوراً باسم مناهضة العدوان، سيقطع الأيدي الموصولة بذهنية لصوصية تلتذ بسكنى الأقبية والجحور، والانفراد بالطرائد دون وازع من أخلاق أو خشية من رادع قانوني، اطمئناناً إلى جبة "أولياء الله" المسروقة.  

أترك تعليقاً

التعليقات