محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

في كتابه "سوق الشعارات في اليمن، والذي ألقاه محاضرة استمرت 7 ساعات، ويومي حوار مع الطلبة اليمنيين في "رابطة طلاب اليمن، شمالاً وجنوباً بجمهورية مصر العربية، في 15 مارس 1973م، صاغ الدكتور عبد الرحمن البيضاني رؤيته لما يجري في اليمن شمالاً وجنوباً، في هذا الكتاب، فكان تعبيراً مكتملاً وواعياً للاقتصاد الرأسمالي، والفكر الاقتصادي الغربي، بمعنى أن قطيعة البيضاني وخصومته مع اليسار الثوري ومشروعه الاجتماعي والاقتصادي كانت عن وعي نظري، وممارسة لدور الكومبرادور، أي وكلاء الشركات الغربية، وليس دفاعاً فطرياً عن مصالح إقطاعية أو شبه إقطاعية متوارثة، ولهذا فهو متقدم في موقفه النظري عن الإقطاع وشبه الإقطاع المشيخي والقضاة، وبقية مكونات مؤتمر خمر... 
ولولا أن الرجل لم يكن له في اليمن قوة اجتماعية تسنده، أو طبقة قوية يتكئ عليها، بل كانت الطبقة التي يعبر عنها تتميز بالجبن والانحياز للأقوى، بمعنى ليست مغامرة.. لولا نقطة ضعفه هذه لكان حضوره طاغياً، وربما لهذا السبب تنبه له خصومه ممن هم في اصطفاف اجتماعي معه، بأشد من موقف اليسار منه، أي شعروا فيه القدرة النظرية على التعبير عن موقفهم الاجتماعي والسياسي، وبسبب تطلعه للزعامة عملوا على سرعة التخلص منه. 
وفقاً لما ذكره الدكتور محمد علي الشهاري، في كتابه "اليمن... الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال"، فقد ألقى الفريق حسن العمري خطاباً في مدينة رداع في 20/5/1971م، عاهد الله فيه على السير بالشعب اليمني نحو التقدم والحضارة، متمسكاً بمبادئ الدين الإسلامي، ومتأهباً لإفناء كل مبدأ يأتي من الخارج، ومؤكداً أنه سيظل متمسكاً بالعقيدة اليمنية التي تنسج من التربة اليمنية، وأنه سيوجه السلاح إلى صدر كل مخرب (سوق الشعارات في اليمن، ص37). 
هل يُعَرَّف الإقطاع بمساحة الأرض المملوكة، أم بدرجة الاستغلال للفلاح؟
فبحسب كتاب الدكتور محمد سعيد العطار "التخلف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن –أبعاد الثورة اليمنية –نوفمبر 1965م" (وكان الكتاب بحسب ما أورده البيضاني قد طبع باللغة الفرنسية أواخر عام 1963م)، فإن اليمن "بلد إقطاعي إذا كنا نعني بهذه الكلمة استغلال جماهير الفلاحين التي تخدم الأرض، استغلالاً فاحشاً لا حدود له، وليست وضعيته الإقطاعية هذه "واضحة التقنين" تبعاً لقوانين دستورية، بل هي "وضعية ضمنية"، والفلاح لا يجد أمامه وسيلة عملية سوى الرضوخ للشروط المفروضة عليه" (سوق الشعارات في اليمن، ص157). 
ينطلق الدكتور عبد الرحمن البيضاني من موقف نقيض للطبقات الكادحة، فهو يرى التطور منوطاً بالطلائع الفكرية، لا بالطبقات الكادحة وتحسن ظروف حياتها، "وإنما المهم أن يتطور المجتمع اليمني، ويلتحق بسكان القرن العشرين، ويواصل مسيرته المتطورة إلى القرن الحادي والعشرين وما بعده بغير توقف ولا تراجع. وذلك لا يتوقف على تحسن ظروف حياة الطبقات الكادحة، ولأن الطبقة الكادحة لن تقود عملية التطور، ولا داعي لأن نتملقها ونستثيرها، ونحن نعلم مدى قدرتها على الخلق والإبداع. وإنما الذي يقود التطور هم الطلائع المفكرة المستوعبة لظروف المجتمع، والمتفرغة لقيادته بإخلاص وبغير مزايدة. وأما المتسكعون المهاجرون فإنهم لن يقدموا للوطن أية إضافة تطور ما لم يكفوا عن التسكع، ويبدأ كل منهم في التعرف على أية حرفة أو يتقن أية مهنة ليعود إلى الوطن كعنصر بناء وإنتاج، وليس عنصر تخريب واستهلاك" (سوق الشعارات، ص196-197).
مما لاحظه وتنبه له البيضاني في تعليقه على كتاب روجيه جارودي "التحول العظيم للاشتراكية"، هو أن "مجموع الجهاز الاقتصادي والاجتماعي يخضع تدريجياً للتغيير، تحت انتشار العلم في مجال الإنتاج، وتحول القوى الإنتاجية، وهو تغيير يفوق بكثير ما سبقه من تغيرات"، وبالتالي فإن جارودي في كتابه "عرض العلاقات الطبقية لتغيرات جذرية، فنقل الدور القيادي من الطبقة العاملة (البروليتاريا)، وأعطى هذا الدور القيادي إلى طبقة الباحثين والعلماء" (سوق الشعارات، ص204-205)، ولهذا يستعرض البيضاني رد الحزب الشيوعي الفرنسي على جارودي، المنشور في "مجلة الفجر الجديد"، وتخوفهم من كتابه، لـ"أنهم لو أخذوا بهذا المفهوم الجديد لما كانت هناك حاجة لحزب طبقي من النوع اللينيني، لأن الصراع السياسي سيتحول إلى تداول عام للمعلومات" (سوق الشعارات، ص205). ولعل جارودي في كتابه كان متنبئاً بالدور المستقبلي للسيبرناطيقا، فقال: "إن المركزية الديمقراطية تبعاً للنظرية الجدلية لمؤسسيها ماركس ولينين، ينبغي لها اليوم أكثر من أي وقت آخر، أن تفهم مجتمعاتنا المتطورة تطوراً كبيراً.. ليس وفق النموذج الميكانيكي، وإنما وفق النموذج القائم على السيبرناطيقا" (سوق الشعارات، ص209).
يستشهد الدكتور عبد الرحمن البيضاني بجارودي وسارتر وجلال أمين، و"نداء الصين" وعبدالله العروي وطيب تيزيني، وغيرهم، في محاججاته لدحض الماركسية ومنطلقاتها الاجتماعية والاقتصادية، ويبدو لي أن احتفاء الطلاب الناصريين في "الرابطة" مرجعه سعة اطلاع البيضاني مقارنة باطلاعهم كطلاب، وقدرته على مجادلة الماركسيين بهدف دحض أفكارهم فلسفياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو ما كان يعوزه ويحتاجه الشباب الناصري في صدامهم الدائم مع الماركسيين. 
لقد أجاد البيضاني استثمار هذه الثغرة المعرفية لدى الطلبة الناصريين في بداية السبعينيات، والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، فقدم نفسه منظراً لهم، في حين أن جوهر كتابه ينحاز ضد المقهورين، ويصفهم بالعاطلين والمتسكعين... الخ. لكن محدودية المعرفة والاطلاع لدى الشباب الناصري في الرابطة آنذاك، سهلت للبيضاني أن يستثمر "الرابطة" كمنصة إطلاق ضد الماركسيين واليسار بشكل عام، بما في ذلك نقده المبطن للتجربة الناصرية، التي كانت في تحولاتها الاجتماعية والتحررية -بحسب زعمه- أكبر مما يحتمله المجتمع المصري، بل دفع ضريبة ذلك من إمكانية تطوره، لو كان نأى بنفسه عن محيطه العربي، وانحيازه للطبقات الاجتماعية المسحوقة، كما يُفهم من عبارات البيضاني المقتضبة، في كتابه آنف الذكر.
يرى البيضاني أن المشكلة في اليمن ليست مشكلة أغنياء وفقراء، وإنما مشكلة تخلف، وأن الحل بعمل "مخططات تبدأ بتقريب المسافات بين الأغنياء والفقراء، وتنتهي إلى القضاء على الفقر ذاته، وتحويل المسافات بين الأغنياء والفقراء إلى مسافات بين أغنياء وأغنياء، أي تجعل الاختلاف ينحصر في نسبة الثروة" (ص292).

موقف البيضاني من السعودية
من الواضح أن ناصريي "التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري" في هذه السنوات، صار موقفهم من السعودية هو ذات موقف الدكتور عبد الرحمن البيضاني عام 1973م، بل هو موقفه المستتر، وقد عبر عنه في الحقبة الساداتية بكل شفافية! فحين سئل عن سبب تغير موقفه من السعودية، من مهاجمتها عام 1962م، إلى مهادنتها عام 1973م، أجاب: "فواضح من ذكر هذين التاريخين أن هناك 10 سنوات كفارق بين الموقفين...". وبالإجمال كانت إجابة البيضاني التبريرية تتعلل باعتراف السعودية بالنظام الجمهوري عام 1970م، وبتقديمها المساعدات المالية لليمن، مع العلم أن مساعداتها كانت شحيحة للحكومة اليمنية، وأغلب ما تقدمه توزعه لشراء الولاءات المشيخية والتكنوقراطية، وكذلك يتعلل البيضاني بتطور السعودية اقتصادياً وسياسياً، وأنها "تقوم بدور عربي قومي تشهد به القاهرة (يقصد قاهرة السادات) رائدة النضال العربي القومي" (سوق الشعارات في اليمن، ص374). ويدغدغ رغبات اليمنيين بنهوض اقتصادي من خلال الاستثمارات السعودية المؤملة في اليمن، وهو ما لم يحدث، فهي تمنيات شبيهة ببيع الأوهام التي ظل الأمين العام الأسبق للوحدوي الناصري عبد الملك المخلافي، يسوِّقها حين كان وزيراً لخارجية هادي، ممنياً الشعب اليمني بقرب انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، في تزامن مع سياسات سعودية قهرية وتسفير ضد المغتربين اليمنيين الذين يعملون لديها... 
ويعلل البيضاني تغير موقفه من السعودية بضرورة التلاحم ضد الخطر الماركسي في جنوب اليمن، والنفوذ السوفيتي في عدن، "لذلك فإن وقوف السعودية إلى جانب الشطر اليمني الشمالي في مواجهة الخطر الماركسي، إنما هو ضرورة يقتضيها "كرم الدفاع" عن الجار بقدر ما تمليه "غريزة الدفاع" عن النفس"... 
كذلك تردد قيادات "التنظيم الوحدوي" أن مساندتها للسعودية وتحالف العدوان والاحتلال من أجل مواجهة "الخطر الإيراني" في اليمن! فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه موقف عبدالملك المخلافي بموقف الدكتور عبدالرحمن البيضاني من زاوية الارتماء في أحضان الرجعية، مع فارق نوعي في التفكير والفكر يحسب للبيضاني، المعبر عن الكمبرادورية في المنطقة، وهي طبقة تجارية تعمل في الوكالات التجارية الغربية، متجاوزة في وعيها للوعي القروي الذي تمثله قيادات الوحدوي الناصري في أيامنا. 
يقول الدكتور عبد الرحمن البيضاني مبرراً ارتماءه في أحضان السعودية: "لذلك أعترف بصراحة أنني اشتركت في مخاصمة السعودية سنة 1962، دفاعاً عن مصالح وطنية وقومية، وأعترف بصراحة أنني أشترك في سنة 1973م في مصالحة السعودية، دفاعاً عن مصالح وطنية وقومية" (سوق الشعارات، ص380).
باعتقادي أن الموقف الاجتماعي الضبابي للشباب الناصري في "الرابطة" في فهمهم لما سموه "الثورة العربية الاجتماعية"، والذي يفسرونه بـ"المفهوم الإسلامي الاجتماعي"، هو ما جعلهم يتناغمون مع حديث البيضاني عن العدالة الاجتماعية الإسلامية. ولأنه لا يوجد مفهوم واحد في التاريخ الإسلامي للعدالة الاجتماعية، وإنما عدة مفاهيم وتجارب تاريخية، فإن مفهوم الناصريين للعدالة الاجتماعية ظل ملتبساً وغامضاً وغير محدد.
لقد ظل الناصريون يرددون عبارة جمال عبد الناصر "إننا لا ننهمك في النظريات بحثاً عن الواقع، لكننا ننهمك في الواقع بحثاً عن النظريات"، وهي من حيث دلالتها تلخيص ماركسي بامتياز، لكن الناصريين تلاشوا في تفاصيل انهماكهم دون أن يخرجوا من واقعهم الريفي بنظريات! 

أترك تعليقاً

التعليقات