هذه صورة فتى أعرفه
 

عبدالملك سام

عبدالملك سام / #لا_ميديا - 

كنت أقف أمام صورة أحدهم ملصقة على الجدار. قرأت الاسم الذي كتب تحته المكان والتاريخ الذي استشهد فيهما. رحت أطالع وجهه الباسم وهو معتد بزيه العسكري وبندقيته، وفكرت حينها أنه عندما التقط الصورة لم يكن يفكر بشيء سوى التقاطها فقط. هو الشاب الذي تحرك بدافع شعوره بالمسؤولية للدفاع عن الناس البسطاء الذين يعيش معهم. لقد عانوا كثيرا من الفساد والفقر والمرض والجهل. وكان من قبل الثورة يشعر بالقلق، كبقية أقرانه، من المجهول. فجأة تجد نفسك وقد أكملت دراستك التي ما عدت تتذكر منها إلا الشهادة التي حصلت عليها، وتكتشف أنك لا تعرف ماذا تفعل في ظل صعوبات الحياة التي تواجهك، وتشعر فجأة بأنك أصبحت عالة على والدك وبأن وقتك يضيع في التسكع والنوم.
أبوك يطالبك بأن تفعل شيئا هو نفسه لا يعرف ما هو، لأنه اكتشف أيضا أن الحياة أصبحت صعبة والتضخم زاد ليبتلع أيام كان مرتب قدره 500 ريال يغطي جميع احتياجات بيته وأطفاله. هو ينظر بشفقة على أبنائه، لكنه يصر على أن يتقمص دور الأب الصارم ليدفع بهم ليبحثوا عن حل ما.
أطالع ملامحه مرة أخرى. اسمه أحمد. ابتسامته اللطيفة تنم عن طيبة القلب، رغم صعوبة الظروف التي عاشها. في تلك الفترة أخذ يراقب التحركات الشعبية التي بدأت بالظهور ضد نظام الحكم الذي بدأ خطوات نحو التوريث. الثورة تكبر، وقد تحدث مع أحد أصدقائه عن توجهات الثوار وأفكارهم. ولأول مرة يشعر بأن هناك أملاً ما يلوح في الأفق. أصبح يجلس مع صديقه لوقت أطول، ووجد نفسه وقد بدأ يشارك معه في بعض الأنشطة. كان ما يقلقه هو دخول حزب معروف بارتباطه بالنظام الحاكم إلى ساحة الاعتصام الشبابي. ولكن صديقه طمأنه بأنه ربما أن أعضاء هذا الحزب قد عادوا لرشدهم. ولكن أحمد ظل قلقا. وتمر الأيام ويحدث ما كان يتوقعه، فهذا الحزب بدأ يسيطر على كل شيء، حتى جعل الكثيرين ينفرون من الثورة. ولكن صديق أحمد يطمئنه بأن كل شيء على ما يرام.
الثورة تكبر، والنظام يقترف الأخطاء بمعاقبة كل الشعب الذي بدا مترددا بين المطالبة بحقوقه المنهوبة وبين الدولة البوليسية التي كانت تسيطر على كل شيء. قام حزب الإصلاح بالسطو على الثورة لينفرد باتفاق مجحف مع النظام المتهالك الذي لجأ إلى الخارج خوفا من شعبه. وهنا ترقب أحمد ما كان يجري بقلق، وصديقه يؤكد له أن الثورة مازالت مستمرة، وفعلا واصلا التحرك حتى هرب الجنرال السفاح بعد ثورة شعبية ضد الفساد الذي انتشر بسرعة كالنار في الهشيم. سقط الثوار المزيفون في الامتحان ولم يبقَ إلا الشرفاء. وكان أن وجد أحمد نفسه مع رفاقه في مواجهة التحدي الأمني لينضموا جميعا إلى اللجان الشعبية التي أخذت على عاتقها مسؤولية حفظ دماء وأعراض الناس. لقد فر الفاسدون وتعمدوا ترك الأوضاع تنهار، وسحبوا الجيش والشرطة من العاصمة ليعاقبوا الشعب على رفضهم. وكان أحمد يبذل جهدا أسطوريا وهو يحاول أن يقوم بعمل لم يمارسه من قبل، ولكنه كان سعيدا بما أنجزه مع رفاقه عندما استقرت الأوضاع.
ما حدث بعد ذلك أن القوى الخارجية، التي طالما اعتادت استعباد اليمن واليمنيين، تقوم بتأجيج الفوضى. وفوجئ أحمد كالجميع بأن هذه الدول كانت ناقمة على الشعب الذي بدأ يشعر بحريته. لقد بدأ الناس يلتئمون مع بعضهم، وبدأت أفكار بناء الدولة الحديثة تلقى رواجا لدى الناس... وبدون سابق إنذار اندلع العدوان. أحمد كان غاضبا من هذا الاعتداء السافر على أحلام الناس، ووجد نفسه يبحث عن صديقه ليجده على حالته نفسها. لقد تعاهدا على الوقوف ضد الشيطان وحزبه مهما كان الثمن.
اليوم أتذكر أحمد، ذا الثمانية والعشرين ربيعا، وهو يتوجه مع رفاقه إلى منطقة "نهم"، بعد أن سمعوا بأن مليشيات النظام السابق فتحت ثغرة هناك. كان وضعا خطيرا ولا بد من صد الهجوم. إنها الخيانة نفسها التي أدت لسقوط عدة مناطق في الجنوب والساحل والمناطق الوسطى، ولكن هذه المرة الوضع صعب، لأنه يهدد العاصمة وسكانها الآمنين. وكانت هذه آخر مرة يُرى فيها أحمد، فالفتى طيب القلب والمحبوب ارتقى شهيدا. كانت صنعاء تزفه ليلتها وهي تبكي حبيبها أحمد.
لكل شهيد حكايته. كلٌّ لديه أهل وأصدقاء ومشاعر وأحلام... فلنتذكرهم ونحكي حكاياهم لنستمد منهم الصمود والبصيرة والدليل كلما شعرنا بالتعب أحيانا. مازال طيف أحمد يدور في الأرجاء أحيانا ليبعث الأمل لدى من يحبهم. مازال أحمد ينير الطريق لنا لنشعر بالألفة التي طالما شعرنا بها في وجوده.
سلام على الشهداء الأبرار. سلام على الأحبة الذين رحلوا عنا وضحوا بأرواحهم لأجلنا. وسلام على أسر الشهداء الذين ربوا أبناءهم ليكونوا عظماء خالدين لا يستطيع الزمن أن يمحو ما سطروه من بطولات وتضحيات.

أترك تعليقاً

التعليقات