عودة الابن الضال
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

فات الأوان على تخمين الموقف الذي كانت القيادة الطليعية لثورة 21 أيلول ستتخذه إزاء ملف الأراضي اليمنية السليبة (نجران، جيزان، عسير)، وما إذا كانت ستعيد النظر أو ستلتزم بالاتفاقيات الرسمية التي تقر للسعودية بالسيادة على هذه الأراضي، فالعدوان الذي باشره التحالف السعودي الأمريكي على اليمن في 26 مارس 2015م، لم يفسح متسعاً زمنياً لاختبار حسن نوايا الثورة الوليدة من عدمه إزاء دول الجوار النفطي، إذ سرعان ما تعاطت معها (الرياض) بوصفها ثورة معادية، وتذرعت (بالشرعية) وقادت (تحالفاً من 15 دولة) في حرب عدوانية لا تزال مستمرة بهدف الإجهاز على قيادتها الطليعية وإخمادها.
خشية النظام السعودي طيلة عقود ما بعد اتفاقية 71 التطبيعية، لم تكن لجهة احتمال فقدان السيادة على (نجران، جيزان، وعسير)، وإنما لجهة إفلات (صنعاء) من رقبة التبعية التي طوقت بها (الرياض) عنق الجمهورية الوليدة عبر الاتفاقية الآنفة، وضمنت بموجبها رسوخ منظومة أدواتها في سدة القرار ومواضع الفعل والسيطرة.
كان بوسع السعودية أن تتصيَّد خرقاً حدودياً للاتفاقيات المبرمة تُقدم عليه حركة (أنصار الله)، فتطبخ منه ذريعة لعدوان تشنه في سياق إقليمي دولي متعاطف مع بلد معتدى عليه، واقتصاصاً لاتفاقيات جرى انتهاكها من قبل (مليشيا) تتعاطى بصبيانية مع التزامات تعهَّدت كل حكومات اليمن المتعاقبة بصونها كبرهنة على حسن الجوار، وإنفاذاً لاتفاقيات أبرمتها بـ(بمحض إرادتها) مع (المملكة). كان ذلك بوسع السعودية فقط لو أنها تزاول رسم سياساتها الخارجية بالأصالة عن نفسها كدولة وشعب، لا بالإنابة عن مركز الهيمنة الإمبريالية بوصفها صنيعة كمبرادورية له وكياناً وظيفياً صرفاً، تُنْفِذُ من خلاله الإدارة الأمريكية سياساتها بلسان عربي غير مبين. علاوة على أن اللص يظل مسكوناً بإحساس عضال باللامشروعية حيال وجوده المتأسس على جملة مقتنيات منتهبة بالقوة الظرفية له أو الاحتيال، وهذه هي حال السعودية الطافرة من رحم استعماري والمؤلفة إجمالاً من اقتطاع الجغرافيا شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً. جغرافيا مثقلة بتاريخ لا يتسق مع الوجود الطارئ لنظام العائلة المالكة وحالة انعدام الوزن الحضاري لديها.
تدرك العائلة السعودية ــ بالغريزة ــ أن فقدان جزء من الجغرافيا المنتهبة، التي تمثل في مجملها مجموعة دعائم لكيانها الوظيفي غير القائم بذاته، يعني بالنتيجة فقدان كلِّ الكيان، الأمر الذي يفسِّر هوسها المفرط بتعبيد رعاياها وحاجتها غير السوية لإخضاع شعوب ودول وحكومات الجوار عبر شراء الذمم والاغتيالات وتصدير فكر الكراهية والخرافة وتنمية ورعاية بؤر الجريمة المنظمة.. وهو نزوع مَرَضي تتداوى من خلاله العائلة المالكة من هاجس زوالها الحتمي بتقويض محيطها، في انسجام مطلق مع الدور الذي استهدفته الكولونيالية البريطانية من وراء تأسيس هذا الكيان المغلف بسمات عربية، استمراراً في طورها الأمريكي.
تستميت السعودية اليوم لاستعادة سيادتها على صنعاء، وإخفاقها في تحقيق هذا الهدف الموارب تحت يافطة (إعادة الشرعية)، يفضي ضمناً إلى فقدان سيادتها على (نجران، وجيزان، وعسير)، ما سيفضي بدوره إلى فقدان سيادتها على كل الجغرافيا الطبيعية والاجتماعية المنتهبة في خضم موجات ارتدادية تطيح تباعاً بصكوك وأصفاد الرق الجيوسياسي الاجتماعي على نطاق كل المملكة دون استثناء.
هذه التداعيات الوخيمة المترتبة على فشل تحالف  العدوان السعودي ــ الأمريكي في تطويع (صنعاء 21 أيلول) لتبعيته، لم تكن ــ بطبيعة الحال ــ مفاجئة لحسابات الإدارة الأمريكية، غير أن (واشنطن) راهنت لتحول دون حدوثها، على تعويم معضلات كيانها السعودي الوكيل في نطاق (اصطفاف عربي) ينشأ كرد فعل لما يسُميه (التهديدات الإيرانية) لــ(أمنه القومي)، وبذلك يغدو مأزق كيانها الخاص مأزقاً عربياً جمعياً وفق التقديرات الأمريكية، وتصبح حالة الجزر المتعاظم في نفوذ (واشنطن) الشرق أوسطي، وتهاوي كياناتها الوكيلة، حالة مد تسخِّرها في كسر عظام حركات التحرر الوطني الوليدة ووضع (إيران) الطليقة خلف أسوار العزلة مجدداً من جهة، وتجيير المتغيرات العربية لحساب الكيان الصهيوني في حربه على العرب وعلى إيران معاً من جهة مقابلة.
من غير المعلوم ولا المفيد معرفة ما إذا كانت (أنصار الله) كقيادة طليعية ستخوض أم لن تخوض حرباً لاسترداد الأراضي اليمنية السليبة جنوب المملكة، في حال كانت الرياض أقرت بالمتغير الثوري، ولم تباشر عدوانها على اليمن!
بيد أن عمليات الجيش واللجان الشعبية في العمق الجنوبي للمملكة، باتت خياراً شعبياً تتبناه حركة (أنصار الله) في مواجهة العدوان، وتجسده عملياً في سياق دفاع مشروع عن النفس، قد يفضي في المحصلة إلى استرداد مثلث (ن، ج، ع)، وبذلك ينقلب التكتيك إلى استراتيجيا.
قال سيد الثورة في خطابه المتلفز الأول عقب مباشرة التحالف السعودي الأمريكي عدوانه على اليمن: (ثمة ملفات كثيرة يمكننا أن نفتحها)، ولاحقاً حظي بتفويض قبلي شعبي للشروع في إنفاذ جملة خيارات استراتيجية كنقلة نوعية أفضى إليها 40 يوماً من الصبر الاستراتيجي إزاء عدوان بلا مسوِّغ سوى اعتداد العدو بآلة حربية فتاكة وغطاء سميك من النفاق العالمي.
لاضير في أن يذهب البعض لتأويل العمليات النوعية اليوم للمقاتل اليمني في جنوب المملكة، بوصفها خنجر ضغط (إيرانياً) تساوقاً مع زعم (التحالف) منذ البدء بأنه يحارب لتحرير اليمن من احتلال إيراني.
مثل هذا التأويل يمنح (طهران) ورقة رابحة مجانية في مجابهة الهزال السعودي، ولا يسلب اليمنيين قرارهم، كما لا يعفي (الرياض) من الكلفة الباهظة لتداعي سيادتها المتسارع في جنوب المملكة. 
إلى ذلك، فإنه ــ تأويل - يقر بضراوة الألم الذي تتكبده العائلة المالكة وتحجم في الإفصاح عنه بوعد (مقايضة جنوبنا اليمن السليب بجنوبنا اليمني المحتل - نجران، جيزان، عسيرــ مقابل عدن،...). 
صمود اليمنيين وبسالة المقاتل في الجيش واللجان، وحنكة العقل السياسي العسكري لقيادة الثورة، أسقط بدءاً مسار (الرياض) الذي أرادت السعودية أن تفرضه على العملية التفاوضية اليمنية، وباتت (جنيف) هي الوجهة القسرية وغير المحبذة لــ(زعران ــ بني سعود).. 
واليوم فإن زيارات (ولد الشيخ) لــ(صنعاء) هي تعبير عن المأزق السعودي، عوضاً عن كونها دفعاً أممياً لمسار التفاوض اليمني ــ اليمني العاثر. لا مستقبل لــ(محمد بن سلمان) في عرش المملكة، وتهيئ الإدارة الأمريكية (محمد بن نائف) كوريث لعرش الــ(زهايمر سلمان)، كتعبير عن نهاية خائبة لعدوان تلقي بتبعاته (واشنطن) على كاهل (الملك وابنه المهفوف). 
وقف العدوان على اليمن ورفع الحصار والانكفاء لمعالجة المعضلات الداخلية، هي أجندة الملك القادم (محمد بن نائف)، والتي ترى الإدارة الأمريكية أنها استدارة لا غنى عنها لكبح جماح التداعيات السلبية للوضع في جنوب وشرق المملكة، والناجمة عن التوغل الفذ في مفاصل (نجران، جيزان، عسير) الذي يحققه المقاتل اليمني، إضافة إلى واقعة إعدام (الشيخ نمر النمر) وانعكاساتها على مجتمع المنطقة الشرقية.
هل هذه هي التسوية غير المعلنة التي يفاوض (ولد الشيخ) القوى الوطنية حولها، بالإنابة عن (الحاجة الأمريكية)؟!
ربما.. لكن الأرجح أن المقاتل اليمني يقلب الطاولة رأساً على عقب، في سياق خيارات استراتيجية لم تستنفد بعد.. والبقية تأتي. 

أترك تعليقاً

التعليقات