مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضر حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.
حنيناً ولقاءً..
أنيناً وصفاءً..
ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
5 سنوات أمضاها أيوب في عدن منذ عام زواجه في 63م وحتى عام عودته في 68م إلى مدينة تعز ليستقر فيها بشكل دائم. وخلال هذه السنوات استطاع البر بشروط أبيه بالحفاظ على وظيفته التي أصبحت تدر عليه دخلاً شهرياً لتأمين حياة أسرته، وفي نفس الوقت مكنه هذا الاستقرار النفسي والمادي نسبياً من ممارسته لهوايته الفنية الجديدة بأريحية تامة، وإتقانها بمهارة عالية دون استعجال، ودون السقوط في مستنقع الحاجة بتقديم نفسه كفنان بأعمال هابطة لا ترتقي إلى مستوى الفن، ولا تتوافق مع ذائقته الفنية. وبرغم أنه - كما قال لي هو نفسه - كان يمارس هذا المجال كفنان هاوٍ، وليس كفنان محترف، في مدينة كانت تعج بالفنانين ومختلف المدارس وقاماتها الفنية، إلا أن ما قدمه حينها كان يشي بفنان محترف موهوب بالفطرة في تتبع وقع بواطن الجمال الفني في إيقاعات روحه الجميلة، وقد تجلى ذلك في اختياراته لأغاني باكورة أعماله الفنية، في أول ظهور رسمي له مع جمهوره، والتي جاءت مغايرة تماماً لأعمال فناني عصره، ولكل ما هو موجود في الساحة الفنية آنذاك، وبشرت بقدوم لون فني أو طابع إبداعي جديد، إن لم يكن يشي بتأسيس مدرسة فنية جديدة أو فن جديد، فهو بدون أدنى شك، ينتمي لنفسه، وقائم بذاته، وليس إلى أي لون سابق له، وقد كانت القرية وتراثها الشعبي هي منابعه الأولى، وهنا تتجلى ملكة أيوب الإبداعية وذاكرته الجميلة المشبعة بتراثها الشعبي وينابيعه الأولى التي ظل أيوب محافظاً على مدارب جداولها، وحريصاً على روافدها في مختلف إبداعاته الفنية في ما بعد، حتى أصبحت اليوم تعرف (بمدرسة أيوب الفنية)، ويظلمه، بل يظلم (تعز) معه من يصنف أعماله الفنية ويسميها (المدرسة التعزية)؛ وإن كانت تعز بتراثها وفنونها وثقافتها الشعبية الشفهية، هي واحدة من أكثر المدن والمناطق اليمنية التي نهل منها أيوب طارش، وأرسى بها معالم ودعائم (مدرسة أيوب الفنية) التي تجاوز بها، ليس فقط حدود تعز، ومحدود تراثها الغنائي؛ بل استطاع أن يؤنسن جزءاً كبيراً من تراثنا الغنائي ككل، بملامح إبداعات غنائية وفضاءات فنية وإنسانية شاملة هي أرحب وأوسع من أي تقوقع جغرافي.
منذ الوهلة الأولى حَمَل أيوب همَّ هذا الامتداد الإنساني لتراثنا الشعبي، وفي أول خطوة له في هذا الاتجاه حَمَّل أول إصدار غنائي له جزئية لحنية بسيطة باقتباسه من ألحان هذا التراث لـ4 أغانٍ هي (يوم السفر) و(بالله عليك وامسافر) و(بس لاتؤشر لي سلام بيدك) و(قد كان طبعك حلا)، وجميعها كتب كلماتها أخوه الفلاح البسيط محمد طارش، بتلقائية إنسانيته النقية وروح مشاعره البسيطة والجميلة بجمال قلبه المحب والمشبع بألحان ومواويل قريته البسيطة التي يحفظها هو الآخر، وكتب على وقعها كلماته البسيطة، والمعبرة أيضاً عن صدق اللحظة، ثم أرسلها إلى أخيه أيوب ليكمل هو بفطرته الفنية، هذا الامتداد الإنساني البسيط والجميل؛ فيقوم الفنان الناشئ بدوره، فيبث فيها حياة جديدة، ويمنح ألحانها القديمة خلوداً أجمل، حينما يمزجها بنفحات روح ألحانه الجديدة، لتصبح من أجمل الروائع اللحنية الخالدة، ولولا ذكاء أيوب الفطري وحذاقته اللحنية وموهبته الفنية ما وصلت إلينا هذه الجزئية الجميلة من ألحاننا التراثية البسيطة والجميلة في معظمها، والتي اندثرت وماتت غصة في شفاه من ماتوا.
ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأغاني الأربع التي حملها شريطه الأول، إلى جانب أغنية (ارجع لحولك كم دعاك تسقيه) التي كتب كلماتها الشاعر عبد الكريم مريد، ولحنها وغناها الفنان أحمد عبد الرحمن الكعمدي قبله، بالإضافة إلى أغنية (صدفة من الصبح) للشاعر عبده علي ذبحاني، وهي الأغنية التي نقدر نقول إنها مثلت البداية الحقيقية لموهبة أيوب اللحنية، وتم تسجيل جميع هذه الأغاني بعقد عمل رسمي في استيريو (الوحدة) بعدن، بين الفنان وصاحبه بنسبة معينة للفنان بحسب المبيعات. وقد أداها أيوب بمصاحبة الفنانتين صباح منصر ورجاء باسودان ككورس، إلا أن المفارقة تكمن في أن جميع أغاني هذا الإصدار، تأخر نزولها للجمهور، كونها كانت تسجل على دفعتين بأسطوانات تسمى (البيكام) أولاً، ويتم إرسالها إلى الشركة لطباعتها، ولذلك نزلت أغنية (رحلك بعيد) التي كتب كلماتها الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول)، ولحنها الفنان علي الآنسي، قبل نزول أغاني ألبومه الأول للجمهور، بعد أن سجلها بالاشتراك مع الفنانة منى علي، في تسجيلات عبدالحميد مكاوي الواقعة بجانب معهد البيحاني. ولهذه المفارقة قصة أخرى كما حكاها أيوب لي بقوله:
(أعتقد أن وقائع قصة اشتراكنا أنا والفنانة الراحلة منى علي، أو كما كان يسميها الجمهور (أيوب وزوجته) عندما كان يطلب من صاحب التسجيلات الصوتية أغنية (رحلك بعيد)؛ لم تكن من قبيل المصادفة، وإنما كانت بمثابة عملية اصطياد مرتبة صادني بها عبد الحميد مكاوي ومنى علي و(شلتهما)، ففي أحد الأيام كنت كعادتنا نشرب أنا وصديقي محمد أحمد بشر، الشاي في مقهى أحد الأصدقاء، كان هاوياً للفن ومحباً له، ولذلك خصص لنا مكاناً مستقلاً في الدور العلوي للمقهى، كنا نجلس فيه نعزف ونغني بعيداً عن أعين مرتادي المقهى وضجيجهم، وفي بداية النهار جاء شخص لا نعرفه، وبعد أن سمع صوت عزفنا ونحن نغني، استأذن من صاحب المقهى وصعد إلينا، وكل ما أتذكر من كلامه عند تعارفنا أن اسمه ينتهي بلقب السقاف، وأنه فنان هاوٍ، وبعد أن استمع إلينا ونحن نعزف ونغني، استأذن منا أن نعطيه العود، وإذا به يعزف عليه عزفاً أبهرنا به، كونه كان عزفاً جميلاً ولا يجيده إلا فنان محترف وليس هاوياً كما قال، ومثلما طل علينا فجأة استأذن منا أيضاً هكذا، وذهب.
وبعد ذهاب هذا الضيف السريع بأقل من نصف ساعة، جاء أحمد الصنعاني يسأل عني، وبعد أن صعد إلينا قال إنه من طرف عبدالحميد مكاوي، وأن هناك شخصاً يريد أن يتعرف عليَّ، وعندما ألححت عليه لمعرفة من هو هذا الشخص الذي يريد أن يقابلني لـ5 دقائق فقط، أخبرني أنها الفنانة منى علي التي كانت تزور عدن دائماً، وموقعة هي وبعض الفنانين عقود عمل مع المكاوي، وكان مخصصاً لهم سكناً جميلاً على حسابه الخاص. وبعد تشاور مع صديقي (بشر) أشار لي بالذهاب لمقابلتها، وفعلاً ذهبنا أنا والصنعاني إلى مقر سكنها، وبعد تعارفنا أنا وهي، وتعرفت أيضاً على الفنان القدير الراحل فضل محمد اللحجي الذي أسمعني لحن أغنية (منك ولا عاد مني) التي كان يقوم بتسجيلها عند المكاوي.
وبعدها عادت منى علي لتحدثني عن موضوع أغنية (رحلك بعيد) التي كتبها الفضول ولحنها الآنسي، وقد كانت الفنانة مني علي حافظة تماماً لكلماتها، ومتقنة للحنها بشكل جيد، وبعد سماعي للأغنية منها فطنت بذكاء أني قد أعجبت بالأغنية التي كنت أسمعها لأول مرة منها، وببساطة كلماتها وجمال لحنها، من قبل أن أعرف أنها للشاعر الفضول، بل وقبل أن يسبق لي معرفته هو شخصياً. فلم تستمهلني الفنانة منى، ومباشرة أخذت ورقة وقلماً، وقامت بكتابة كلماتها، وأخذنا معاً نغنيها بنفس الطريقة الحوارية بيني وبينها، التي ظهر بها تسجيل الأغنية الذي قمنا بتسجيله في ظهيرة ذلك اليوم في تسجيلات المكاوي، بمصاحبة فرقته الموسيقية. وهكذا تمت الأغنية ونزلت للجمهور قبل أغاني الألبوم (يوم السفر)، وقد كانت كلمات هذه الأغنية هي أول لقاء بيني وبين الشاعر (الفضول) دون سابق معرفة، وهي أيضاً أول أغنية تقاضيت أجرها (100 شلن). وحينما اشتهرت الأغنية ولاقت رواجاً كبيراً بين الجمهور، وقد كانت تسمى بين بسطاء الناس بأغنية (أيوب وزوجته)، حينها خاف المكاوي بمطالبتي له بنسبة عائدات منها كوني يوم تسجيلها لم أعطه تنازلاً بملكية حقوقها غير أخذ ذلك المبلغ فقط، وعندما جاء يطالبني بالتنازل أشار لي بعض الأصدقاء برفض ذلك، إلا أننا في نهاية الأمر اتفقنا بدفع نصف المبلغ الأول، فقبلت بالصلح، وأعطيت تنازلي عن ذلك التسجيل).
بين بداية أيوب الفنية وإطلاق أول باكورة أعماله الغنائية، وما حققته من نجاح؛ ليس فقط في أوساط عدن الفنية وحدها، وإنما في مختلف المدن اليمنية، وكذلك أريافها، وما ناله الفنان وأعماله من رواج شعبي وشهرة واسعة النطاق فيها، وبين إجادة أيوب للعود، بدأت ترتسم لديه صورة أشمل وأعمق حول مستقبله الفني والتفكير فيه بجدية، ليس فقط في الحفاظ على ما قد حققته له هذه البداية الفنية من قبول جماهيري، بل وفي كيفية الاستمرارية فيها دون انتكاسة تجربتها كما هو في تجارب من سبقوه في هذا المجال، وأحبطوا فنياً بعد عدة تجارب لهم في هذه المدينة (عدن)، التي كانت قبلة الفن وحاضرته الغنائية، وتعج بقاماته الفنية.
كل ذلك كان واضحاً للفنان الشاب والموهوب، وبدأ يفكر فيه جيداً، وهو يدرك أن (الفن) ليس (بمهنة) يمكن للمرء أن يمارسها ويعتمد عليها كمصدر دخل ليعيش منه حياته الطبيعية، ويؤسس عليه مسيرته الفنية، ولن تنجح فيه (كفنان هاوٍ) إن لم تكرس له جل جهدك وتعطه كل وقتك، أو تجد من يدعمك ويساندك في بذخ هوايته أو جدية رسالته.
حقيقة أدركها الفنان أيوب في بداية مشوار حياته الفنية في عدن، وقرر أن يكون كبيراً بين كبار فنانيها. وهو (الريفي الخجول) جداً والبسيط إلى درجة البساطة والطيبة، يحب الفن للفن، ويعشقه لأنه جزء من طبيعته وروحه الجميلة، فقرر أن يكون فيه (هاوياً) بما تهفو إليه روحه وموهبته، وليس مصدر عيشه، و(محترفاً) له بما يحقق له من نجاح ويحفظ له حقوقه المادية والمعنوية. فحافظ على وظيفته، وبذل جهوده للفن ورسالته الإنسانية، ولم ينزلق نحو العوز، ولم يهرول نحو المذلة أو الابتذال الفني.
في أحد الأيام من العام 67م، كان الفنان الراحل علي الآنسي متواجداً في عدن، لإقامة حفلات غنائية في سينما (حقات وهريكن)، بمناسبة عيد الاستقلال الوطني، وكعادة معظم الفنانين، كان يقيم في سكن صاحب التسجيلات ومتعهد حفلاتهم عبد الحميد مكاوي.
وحينما علم عبد الكريم عبدالله ناشر والفنان أحمد عبدالرحمن الكعمدي - وقد كانا يعملان معاً في شركة أحواض السفن - بتواجد الآنسي هناك، أشارا على أيوب بأن يذهب لمقابلته، ويطلب منه أن يشركه معه في إحدى فقرات حفلاته الفنية المزمع إقامتها، إلا أن أيوب رفض ذلك، (خجلاً)، وتحجج بعدم معرفته بالفنان الآنسي.
وبحكم علاقة ناشر والفنان الكعمدي (الذي كان قد مل من حياة الفن والفنانين، ويئس من هذا المجال لعدم وجود أية جهة تتبناه وتدعمه رغم موهبته الفنية) - بحسب ما قال لي أيوب نفسه - فقد أصرا على أيوب بضرورة مقابلته بحكم معرفتهما السابقة بالفنان الآنسي، ولإدراكهما من خبرتهما في هذا المجال أنها (فرصة) لهذا الفنان الموهوب، وما يمنعه منها إلا كونه خجولاً، فقدماه بنفسيهما إلى الفنان الآنسي، فسمح له بالمشاركة معه، ولكن بدون أي مقابل مادي.
يقول أيوب: (لم أكن أفكر في الربح المادي، ولكن خجلي كان هو سبب ترددي في البداية في مقابلة الفنان الكبير الآنسي، رغم أن ذلك كان بمثابة (فرصة) يحلم بها أي فنان شاب في مواجهة جمهوره وجهاً لوجه من على خشبة المسرح، وعندما وافق الآنسي على ذلك تشجيعاً منه فقط دون أي مقابل مادي، لم أتردد، ووجدتها فرصة لاتعوض لأغني أول مرة أمام الجماهير في هذه المدينة، ضمن كوكبة من كبار الفنانين، ومن حسن حظي أن الأغاني التي قدمتها، وهي (صدفة من الصبح) و(بالله عليك وامسافر) وغيرهما؛ كانت الفرقة قد تدربت عليها جيداً، الأمر الذي جعلها تحظى بتفاعل كبير من الجماهير الفنية من على خشبة سينما (هريكن وحقات)، في ليلة من أجمل ليالي عدن الجميلة).
ذاع صيت تلك الأغاني وتسجيلات حفلات عدن الفنية المباشرة مع جماهير الفنان الشاب أيوب طارش، وتنوقلت أشرطتها وانتشرت كالنار في الهشيم في كل بيت في مدن اليمن وأريافها، يتبادلها المحبون والعشاق، الصغير والكبير، المفارق والولهان، كأجمل هدايا في ما بينهم، فيما أخذت الإذاعات الرئيسية في كل من صنعاء وعدن وتعز، تبث تلك الأغاني الجميلة فور تسجيلها أو وصولها إليها، كما هي أغنية (بالله عليك وامسافر) التي أرسلت من عدن إلى إذاعة تعز عن طريق (طبل) مسافر على ظهر راحلته، اسمه (العمشة)، في منتصف ستينيات القرن الماضي.
خطوة خطوة، وضع الفنان أيوب طارش قدميه على سلم مجده الفني، دون استعجال، عرضت عليه في عدن الكثير من الأعمال والألحان والكلمات لتلحينها، وبكل ذكاء وأخلاق، بل وبكل ما تمتاز به (طبيعته الخجولة) من مشاعر الهدوء والألفة، كان يأخذ كل ما يقدم إليه، ويتعامل معها ببساطة قاعدة (العشق والمحبة)، فيتبع إحساسه وفطرة روحه الفنية مع كل عمل فني (لحناً كان أو كلمات)، فإن دنت روح أيوب من ذلك العمل دنا هو بالإبداع فيه، وإن نفرت منه روحه نفر هو الآخر من ذلك العمل وتركه.
كانت عدن في ما قبل بداية أيوب الفنية، تعج بالحياة الثقافية والفنية، ومع ظهوره الفني ثم سطوع اسمه ثم شهرته الفنية، بدأت (ثائرة) بـ(تثوير كل شيء فيها).
فهذا الشاعر الثوري يعرض عليه قصيدته الثورية، ويعرض عليه آخر كلمات نشيده الثوري، وثالث يسلمه أنشودة وطنية، وآخرون من نشطاء النوادي والجمعيات الأهلية والمؤسسات المدنية يقدمون له أعمالهم الأدبية والشعرية والفنية، بل حتى قُدمت له (أغانٍ جاهزة) بلحنها وكلماتها في شتى المواضيع والاتجاهات، بما فيها مناهضي ومحاربي (آفة القات). لكنها جميعاً لم ترَ النور، ولم تلامس روح أيوب التواقة للجمال، بما في ذلك جمال روحه الثوري الذي تجلى فيه، وسنتناوله في ثنايا هذه الأسفار.
يبتسم أيوب وهو ينشدني كلمات وأشعار وأناشيد بعض شعراء تلك الفترة، ويشدد على عدم ذكر أصحابها، حرصاً منه على عدم جرح مشاعرهم، حتى وإن كانوا - أو كانت حكاياتها ـ من الماضي البعيد، معللاً أنهم كانوا صادقين في لحظاتهم تلك، ولكن ليس بذلك الذي يطمح إليه أيوب، في صدق عالمه الفني بكل ألوانه وأطيافه الإبداعية.
ومرة أخرى يعود أيوب إلى كنوز التراث، باحثاً في ثناياه عن مواطن الجمال ودرر روحه الفنية، فيقدم أغنية (ألا يا ذا الغراب السوادي)، (يا رب لاطف عبدك الحائر)، (في الليل أشكو للنجوم حالي)، (ظالم شغل بالي)، وغيرها من أغاني التراث التي كان قد سمعها من أفواه الآخرين في القرية أو من الأصدقاء، وتدرب على عزف ألحانها جيداً في فترات ممارسته للعود، وبعضها كانت إذاعة صنعاء قد بدأت بثها في النصف الأخير من ستينيات القرن الماضي، مثل أغنية (يا بروحي من الغيد) للفنان الآنسي، فعمد أيوب إلى إعادة الظهور بها من جديد عبر لقاءات إذاعية ومقابلات تلفزيونية مع الإعلامي الجميل (محمد مدي)، قبل نهاية الستينيات بعامين، بالإضافة إلى مشاركته في إحياء سهرات فنية في تلفزيون عدن هو والفنان إسكندر ثابت.
يقول أيوب: (أغنية (إلا يا ذا الغراب السوادي) هي مهجل من مهاجل تراثنا الشعبي التي يؤديها العمال أثناء أعمالهم بعد الظهيرة، وقد سمعت كلمات وألحان هذا المهجل منهم أكثر من مرة، وأنا مازلت في سنوات عمري الأولى في القرية، وكنت معجباً جداً به، ولكن حينما فكرت في إعادة صياغته في قالب فني لايختلف عن قالبه الأصلي، ولا في الكلمات، استعنت بخالي (طارش سلام) رحمه الله، الذي كان يحفظ جيداً اللحن والكلمات، ويعرف إعجابي بهذا (المهجل) الجميل، وقمت بتسجيله بنفس اللحن والكلمات كما ساعدني به خالي رحمه الله).
في ختام هذه الترنيمة الأولى، من أسفار الشجن والحب، أعرِّج قليلاً نحو شلالات أيوب وضي أزمنتها الأولى، وأقف قليلاً في مسك ختامها في نفس المكان الذي منه تهادت روح أيوب بماطر لحونها الأولى، بدفق أشجانها وبترانيم كل هذا الوجد، وبجمال كل هذه الأسفار وتسابيح المحبة، والله محبة..
وعدن هي منتهى الأسفار وبدء المحبة..
إلى هنا جاء أيوب، وجاء من قبله كثير من المحبين، ثم رحل كما رحل من قبله الآخرون.
لكنها عدن؛ عدن المدينة.
(وما المدينة إن لم تكن عدن)، على حد تعبير ابنها البار بها (صديقي الشاعر د. مبارك سالمين).
كل منا يحمل قبساً من نورها، وكل عابر إلى هنا فيه شيء من عدن.
في دواخلنا هي؛ وهي بذرة أحلامنا الأولى..!
(قلبي الجريح والقلب عليك هائم
من نظرتك يا حالي المباسم)
ثلاثية رائعة بين شاعر وملحن وفنان جمعتهم مدينة وحلم..
من أولى الأغاني التي كان مكان ميلادها مدينة عدن. تغنى بها أيوب قبل انتقاله إلى تعز. وحكايتها ـ كلماتها للشاعر صالح اللبن الذي كانت تربطه علاقة صداقة مع الفنان محمد أحمد بشر الذي بدوره لحنها وأهداها لصديقه أيوب.
ثم تأتي أغنية (غني يا شادي باللحن الطروب)، وهي أيضاً رائعة أخرى كتب كلماتها ولحَّنها الشاعر علي سيف أحمد (الكبش)، وهي من بواكير الأعمال الغنائية للفنان أيوب طارش، إلى جانب أولى روائعه الغنائية الوطنية المتمثلة في نشيد: (بلادي بلادي بلادي اليمن أحييك يا موطني مدى الزمن)، الذي كتب كلماته الشاعر علي سيف أحمد أيضاً، وقام بتلحينه وأنشده بصوته القوي والجياش الفنان أيوب. وجميع هذه الأعمال الغنائية الأولى كانت عدن هي مهد ميلادها، وبداية الفنان الشاب أيوب طارش، وإبحاره الفني من شطوط هذه المدينة التي قرر في ذات يوم أن يكون فيها ليس فقط من كبار قاماتها الفنية، بل من كبار عمالقة الفن والطرب اليمني الأصيل، ثم يحزم عام 68م حقائبه، ليرحل منها صوب حلم جديد وأسفار جديدة، وكانت تعز هي محطة ومدينة الجزء الثاني من ترحال أيوب وأسفار ألحانه وأحلامه الجميلة..
انتهى الجزء الأول.