خلال الأسابيع الأخيرة منذ انكساره على أبواب العاصمة في فرضة نهم والعدو يكابد سكرات الموت الحربي، ولأول مرة ربما يَصدقُ في إرسال المبعوث الدولي لبحث طريقة للسلم المؤقت ريثما يلتقط أنفاسه بعد أن ذاق من كأس المرارة التي لم يذقها من قبل، ولم يعان مثل هذه الكثرة من القتلى والجرحى في المواجهات طيلة مدة العدوان، وفي معركة واحدة خلال فترة قصيرة تعد بالأيام والساعات، ولذلك فإن هذه المعركة هي حملة حربية كاملة تعادل ما خسره في عدة حملات مجتمعة.
تغير ميزان القوى الميدانية نتيجة المعركة
قبل المعركة كان العدو لا تزال نشوة خادعة تتملكه، وقد جمع الجموع ودفع بالقوات وتمكن من تسريب الكثير منها بالمال والرشوة والاختراق والخيانة إلى مناطق قريبة من القلب كانت موشكة لولا يقظة قواتنا وثورتنا. علماً أن هذه المعركة المصيرية دُفعت بها قوات أكبر بكثير مما أذاع إعلام العدوان بغرض التضليل العدواني. ويتكشف عددها كل يوم سيما حجم القتلى والجرحى منذ بداية الحملة بمقاربتها بالحجم الكلي للقوة المهاجمة في هذا المحور، علاوة على الأسرى والمحاصرين من قبل قواتنا الوطنية، ففي أطراف جرواد وحدها لا يقل حجم المحاصرين عن رتل يتضمن ألف مرتزق. 
وليس سراً إذا قيل إن أعداد القوات اليمنية التي اقتحمتهم أخيرا كانت كبيرة ومعززة ونوعية، وهذا يشير بدوره إلى حقيقة حجمهم الكبير، وإلا لماذا احتاج الجيش والأنصار أن يحشدوا هذا الكم من القوات، وأن يأخذ صراعهم هذا الوقت الطويل نسبياً؟ وكذا انتشار المعارك على رقعة واسعة من الأرض تمتد مئات الكيلومترات المربعة من صرواح إلى مفرق الجوف إلى نهم وأرحب، مساحة مشتعلة كاملة أرضاً وجواً.

 الهزيمة غير مكتملة بعد 
حتى الآن حاقت بالعدوان هزيمة ميدانية مريرة؛ إلا أنها يجب أن تتواصل لتحقق هزيمة استراتيجية شاملة، وذلك بالوثوب المتدارك على القواعد التي انطلق منها العدوان، وخصوصاً بؤرتي مأرب والجوف، حيث تتركز أكثرية القوة الرئيسية للعدوان الموجهة نحو العاصمة من الشرق.
إنها حملة لا تزال في بدايتها، وبالمقابل يجب حشد كامل القوى لضمان أن تكون الضربة مركزة وكثيفة وساحقة، لا تسمح للعدو بالنهوض مرة أخرى. 

الأولويات الوطنية المباشرة
إن حشد الوعي الشعبي الوطني الحربي المقاتل المناضل المنظّم هو مدخل هام لتحقيق النصر الموعود. إن قوتنا الكبرى تكمن أولاً في صلابة معنوياتنا، في وعينا ووعي شعبنا وإصراره على المواصلة في نيل حريته وكرامته واستقلاله. وهي حقاً التي تعطي للسلاح معناه وروحه، وذخيرته حين تعز كل الذخائر وتكسر كل الحصارات حين تشتد، وتحطم كل القيود حين تحتشد عليه قوى الشر من كل صوب.
إن توحيد الصفوف الوطنية بكل تنوعاتها وأطيافها واجتهاداتها الهادفة رفعة الوطن وكرامته وسيادته وعزته وحريته واستقلاله، وتعبئة القوى الشعبية وتعزيزها، وإملاء الوعي الوطني بالثقة والنصر والتضحية في سبيل الوطن والأمة، وتجنب النزاعات الحزبية والفئوية والمناطقية والإقليمية والمذهبية والسياسية، وكسر روح التعالي الأجوف على الشعب البسيط القبيلي الفلاح المحارب، حارس البن والأرض والروح والقضية التي هو أصلها وصاحبها و(غرّامها)، ودونه تسقط كل الرهانات النخبوية التافهة البعيدة عن الشعب وطبيعته وثقافته التي هي في الأصل مخزون كل صمود أخلاقي وعقائدي ووطني وتاريخي، فليس الاغتراب عن ثقافة الشعب هي الوسيلة لتنظيمه وقيادته بقدر ما هو الانصهار في وعي الشعب وضميره وقيمه والدفع بتطويرها بالانطلاق من مستوى الوعي الواقعي.
بتجاوز أمراض المثقفين المشوهين المغتربين عن واقع المجتمع وقضايا أمتهم، تكمن الوحدة الوطنية الشعبية التي توحد ولا تفرق.

 شكل الحملة القادمة التي يخطط لها العدوان على المسرح المركزي للعاصمة.. المهزوم يذاكر جيداً دروسه الأخيرة
هذه حقيقة موضوعية شائعة وبديهية، وأهم دروسها هي تلك التي تجيب على أسئلة لماذا فشل في الميدان؟ ولماذا لم ينفذ مخططه كاملاً؟ وهذه الأسئلة هي بكل تأكيد ما تشغل بال قيادة العدوان.
أهم عامل من عوامل نكبة العدو هي عدم قدرته على الوصول إلى منطقة المطار والمواقع المحيطة بها، والسيطرة عليها بالسرعة الخاطفة، واختناق طاقته أمام الصمود الوطني والشعبي. ويجب مواصلة الأسئلة وإثراء إجاباتها، بالضرورة أولاً لتكوين وعي شعبي استراتيجي بالمعركة والحرب ككل.

الانهيارات والتفككات الاستراتيجية للعدوان.. الانهيار على كافة الجبهات. انهيارات العدو على الجبهات الحدودية 
يعاني الوضع الاستراتيجي للعدوان من انهيارات عديدة راحت تتسع مع استمرار تقدم الجيش والأنصار في كافة المحاور القتالية في نجران وعسير وجيزان، حيث يتهدد العدو انهيار تام في عقر داره، ويواصل التراجعات دون توقف، وفشلت جميع المحاولات التي بذلها لاسترجاع المواقع التي استولى عليها جيشنا ولجاننا في جميع المحاور. 
وقد شارفت هذه المدن الاستراتيجية على الوقوع في قبضة قواتنا الباسلة، وبعضها قد وقع أكثر من مرة في ظل الكر والفر.

خسائر هائلة
حسب المصادر الإعلامية الأمريكية والسعودية والمتابعات على الأرض، 
أمكن تقدير خسائر العدو في المحاور الثلاثة فقط بالأعداد التالية:
الخسائر البشرية: القتلى=4500، الجرحى = 10500، المجموع = 15000، موزعة على المحاور الثلاثة الحدودية.
خسائر المعدات الحربية: الدبابات= 672، المدرعات البرادلي= 57، الآليات الأخرى= 267، موزعة على المحاور الثلاثة.
الخسائر على الجبهات الأخرى وفق أقل التقديرات:
35000 قتلى وجرحى، منهم قتلى =10000 وجرحى =25000.
إجمالي الخسائر البشرية للعدوان ككل=50000، منهم القتلى =15000 والجرحى =35000.
وتشكل هذه الخسارة ما نسبته 25-30% من القوات البرية الميدانية المحترفة (قوات الصف الأول) للعدوان على جبهاته المختلفة، وتشمل الجيش السعودي والمرتزقة المحلين والأجانب، وتتضاعف هذه النسبة في المحاور الرئيسية الصدامية الملتهبة لتصل إلى نسبة 30% من القوات البرية، علما أن نوعية القوات المحطمة هي أفضل أنواع قوات العدو، أي جماعات المستوى الأول المحترفة، وهو الأمر الذي يدفع بالعدو لتجنيد المزيد من المستجدين قليلي الخبرة والزج بهم للمعارك، وهو ما يجعل أداءه محكوماً بالفشل حتماً، وهذه الميزة تبقى لصالح القوات اليمنية طالما لم يمنح العدو أية فرصة للعدو لإعادة التدريب والتنظيم، الذي يحاوله الآن بشتى السبل، وسنشهد قريباً الكثير من المناورات السلامية الزائفة لتحقيق ذلك.

 معارك كسر العظم 
إن كسب معركة نهم وكسر حملة نهم-الجوف-مأرب، من قبل الجيش اليمني والأنصار، قد أكد توازن القوى الاستراتيجي على الأرض وكرسه مجددا كحقيقة كبرى في الحرب الراهنة، أي التفوق اليمني على الأرض. حقيقة لا تقبل الجدال حتى من مراكز الحرب الغربية نفسها.
والمعنى الأساسي أن العدو قد فقد القدرة على الهجوم البري الكبير الجبهي المضاد انطلاقاً من قاعدته الحدودية، وأدرك مدى خسارته استراتيجياً، فلم يبق لديه من خيارات برية سوى المناورات الالتفافية الاستنزافية التي تحاول تأخير تقدم القوات اليمنية نحو أهدافها، وتنظيم هجمات صاعقة مباغتة (عاصفية) من الجو والأرض وتحت الأرض (القوات الخاصة السرية المتسربة أو الكامنة).

اختلالات الرهانات الاستراتيجية الاحتياطية للعدوان
يواجه العدوان بعد كل هذه المدة نتائج اختلالاته البنيوية الأصلية التي انطلق منها إلى هذه الحرب العدوانية، وتؤكد الصحافة الأمريكية والبريطانية والغربية عموما، هذه الأيام خصوصاً، أن السعودية وأسيادها قد دخلوا حرباً مستنقعية لا أمل لهم بالخروج منها قريباً، وهي تجمع على هذا التقييم الموضوعي الذي يقدمه خصم لا صديق، وليس له مصلحة في تملقنا، لكنه يؤكد على جزء رئيسي من الحقيقة التي لا يجب أن تغوينا أو تخدرنا عما يخطط له العدو بوعي، ويراهن على هذا الاسترخاء ويدفع نحوه.
هذه الاختلالات أبزها أن العدو وبمقدمته (السعودية) لا تملك جيشاً حقيقياً على الأرض، ولا تملك احتياطات استراتيجية حربية تمكن من تعويض انهيارات التشكيلات الديكورية القائمة؛ فتضطر كيلا تسقط للتحول لكيان عسكري مرتزق، وخصوصاً الاعتماد على المرتزقة المحليين باعتبارهم أفضل النخب المرتزقة، وهو ما يجعل شكل المعركة ضد العدوان السعودي الأمريكي على الأرض معركةً ضد المرتزقة المحليين والأجانب بشكل رئيسي مباشر، إذ إن حسم المعركة مع المرتزقة المحليين خصوصاً على الأرض يقطع دابر الاحتياط الاستراتيجي للعدوان، وهو الأمر الذي يدفع لانهياره أوتوماتيكياً.

مؤشرات جديدة تتطلب الانتباه
هزيمة العدو الأخيرة وما قبلها، دفعته للتعلم من الدرس والاتجاه نحو خطط جديدة، فحواها تعظيم أسلوب الانقضاضات الجوية المفاجئة على مطارات العاصمة والمحافظات الرئيسية الأخرى، ويشير لهذا ما يجري الإعداد له الآن في سقطرى التي يوجد بها القاذفات الأمريكية الكبيرة والنقالات العملاقة (b52) ومجوقلات النقل، وهذا كله يثير انتباهنا لعلاقة هذا الإعداد في سقطرى وغيرها من الجزر لهذا التغير الذي ينتج عملاً هجومياً كبيراً غير تقليدي كما كان في السابق، ولا معنى لهذا التحول إلا باعتماد استراتيجية الانقضاضات الجوية اعتماداً على قاعدة سلاحه الجوي الكبير الذي لا يزال سليماً، وبالضرورة يجب استخدامه في الضربات الأخيرة الكبيرة الصاعقة كما يراهن، لأن هذه الفكرة رئيسية في نظرية الحرب الخاطفة الأمريكية. وبالمقابل يجب تجديد تكتيكاتنا الوطنية من باب الاحتراز، فالعدو بكل تأكيد استطلع وبالنار ثغرات لجانبنا الوطني وبالذات السياسي. وفي هذا السياق يجب المزيد من تلحيم التحالفات الوطنية كقضية ثابتة غير قابلة للمساومات والانتهازية السياسية والطموحات الصغيرة والذاتية.. ما يجب التنبه له أيضاً بشكل كثيف لا يحتمل التهاون أو سوء التقدير والتحليل، هو أن الحركة في سقطرى مؤخراً وإرسال قوات كبيرة لا تقل عن 10 آلاف تتدرب هناك، تشير إلى أن المشروع العدواني له علاقة بفكرة الانقضاض الجوي المباغت، حيث سقطرى قاعدة من الأصل منذ العام 2012 للقطارات الجوية الأمريكية. وليس من قبيل الصدفة هذا التركيز على الجزيرة ونقل هادي للقيادة إلى هناك، كما أن تعيين (نائب لقائد أعلى عسكري) يعني فتح عمليات ميدانية، وهو ما يشير دائماً إلى قرب عدوانات وهجمات كبيرة ستدار من قبل قيادة عليا في الميدان والمركز ضمن تعدد حلقات إدارية أمريكية وفرنسية التكنيك.
وعلماً أن بالقرب من بلحاف يكمن الأسطول الحربي الفرنسي، وليس بقاؤه هناك من قبيل الصدفة. وقد توكل إليه مهمة النقل بين سقطرى ومأرب عبر شبوة.

 تطور المواجهات وحقائقها الجديدة 
بالنسبة للأمريكيين والبريطانيين والغرب عموما لم يعودوا يثقون بالسعودية وكيلاً حصرياً للدفاع عن المصالح الامبريالية في المنطقة، وهم يرونها الآن عبئاً كبيراً لرخاوتها وعجزها، وبالتالي الآن يباشرون من غرف العمليات المركزية الخاصة بإدارة العمليات الحربية في اليمن وفقاً لاستراتيجيتهم الكبرى، بينما تقوم بنفس الوقت وتواصل أجهزتهم تفكيك البنية التحتية السياسية للكيان السعودي وللطبقة، مقابل الإعداد لفرق جديدة تحل مكان القديم المهترئ الذي يقودهم الآن لانهيارات مذهلة.. ونتيجة لذلك تلجأ القوى الرجعية والفاشية في المنطقة وفي النظام العدواني المحلي والدولي، إلى استقطاب كل قوى القديم الرجعي الشرس للزج بهم في المعركة الأخيرة وتوطينهم، ورمي كل ثقل كيان المملكة خلفهم باعتبارها معركة مصيرية عاجزين تماماً عن السيطرة على أبعادها. إنها معركة ذات حدين شديدة الفتك لا توسط فيها. 
ويقلق كل المراقبين الغربيين من خطورة أن اليمنيين لن يتوقفوا خلف المدن الرئيسية في الحدود مع الكيان، وسيصبح همهم المبطن وطموحهم يتجاوز المراكز المقدسة، وما سيدفعهم لذلك هو شراسة العدوان وتكالبه الذي يستوجب كسراً له في عمقه الوكيل في الغرب والشرق.
وهذا القلق حتماً جائز، وهو ما يضفي على المعركة اليمنية الطابع الدولي الواسع، خصوصاً وأن المعركة في المنطقة تسير نحو ترابط حلقات الميدان والمسارح الصراعية الاستراتيجية لتصل إلى قلب مركز الصراع الرئيسي مع الكيان الصهيوني وأسياده، مما يضفي كذلك على الصراع الوطني التحرري الطابع القومي العروبي الإسلامي، خاصةً وأن بؤر الصراع في المنطقة والإقليم تتشابك وترابط بين قواها وقواها المضادة، حيث لا يمكن الفصل عن مسرح الصراع الممتد من موسكو إلى طهران ودمشق والقدس وصولاً إلى صنعاء. ويتعزز هذا المحور موضوعياً مع تواصل العدوان وتعنته ومضاعفة الحصار والعزل للشعب وتجويعه، الأمر الذي يدفعه لمد خطوطه وترابطاته مع كل القوى في ذات المسار الكفاحي بالضرورة.
معوق يجب تصفيته من الطريق
هناك معوقان أساسيان للانتقال للهجوم الاستراتيجي وحسم الحرب:
الأول، تصفية البؤرة العدوانية القائمة في مأرب والجوف وشبوة، والثاني تصفية بقية الوجود الارتزاقي في بقية المحاور الالتفافية الأخرى بالذات الغرب وجنوب وشمال الغرب.
والشعب المسلح هُنا هو الخيار الرئيسي، وهذه معركته قبل أي طرف آخر، كما وذلك يمنع من استنزاف الجيش والأنصار والنخبة في المعارك الاستنزافية، ويمكِّن من توفير طاقاتهم للحملة الرئيسية الكبيرة التي لابد أن تكون فيها القوات كلها موحدة، وقد أمنت بدقة مؤخراتها أو الجبهة الداخلية.
عاشت ثورتنا الوطنية التحررية.