صنعاء أجمل مدن اليمن، تسترخي حولها الجبال من جميع الجهات بشكل منسجم أضاف لمسة أخاذة يندر أن تجد مثيلها في أي مكان. جمال صنعاء هيأها لتكون واحدة من أوائل المستوطنات التي سكنها الإنسان منذ فجر التاريخ، ولاتزال الكثير من شواهد الحضارة اليمنية في صنعاء نابضة بالحياة حتى اليوم، محتفظة بتراثها وأسمائها العتيقة.
 تاج على رأس الجبل
مثل تاج يكلل رأس جبل يلوح حصن بيت بوس التاريخي جنوب غرب مدينة صنعاء، فقد ألقت تقلبات الطقس على مدى آلاف السنين بحلة صيفية تميل إلى اللون الأصفر على سور ومساكن الحصن، ليبدو معها الجبل مثل ملك شامخ وسط وادٍ فسيح تحيط بأطرافه المستقيمة الحقول والبيوت من جميع الجهات، في مشهد بديع امتزجت به لمسات الإنسان مع مقومات الطبيعة.

بيت بوس اسم أصيل في زمن متغير
رغم التوسع العمراني السريع والتغيرات التي طرأت على العاصمة صنعاء، إلا أن الاسم الأصلي للحصن ظل ملتصقاً به، منتقلاً معه من زمن إلى آخر، دون أن يضيع في زحمة الحياة وتقلبات الزمن، منذ أن أنشأه الملك الحميري ذي بوس بن أيرل بن شرحبيل، في القرن الثامن قبل الميلاد.

 بوابة المرور عبر الزمن
أمام بوابة مهيبة هي المنفذ الوحيد للحصن، يتولد لدى الإنسان شعور بالرهبة، وكأنه سيغادر الزمن الحاضر إلى القرون القديمة، بمجرد أن يعبر البوابة إلى داخل الحصن، وعلى إحدى الحجارة في أعلى الركن الأيمن بالجهة الداخلية للبوابة، يوجد نقش بالخط المسند محيت ملامحه ولا يمكن ملاحظته بسهولة بفعل تقادم الزمن، بينما يتحدث الأهالي أن الجهة الجنوبية خارج أسوار الحصن كانت تحوي نقشاً كبيراً، وقد اندثرت آخر أجزاء ذلك النقش قبل عامين، بفعل عبث المواطنين الذين اتخذوا من ذلك النقش هدفاً لاستعراض مهارات الرجم بالحجارة.

 رفض مغازلة الدهر للانهيار
بمجرد الدخول إلى القرية يمكن الإحساس بهواء عليل تتشبع به أجواء المنطقة، بينما تنتشر الكثير من المساكن في قمة الجبل المنبسطة التي تقدر مساحتها بكيلومتر مربع تقريباً، وقد بقيت البيوت على حالها منذ أن وجدت، دون أن تنال كوارث الطبيعة وتقلبات الزمن من مباني الحصن، والخراب الذي طال معظم مساكن الحصن حالياً، لم يكن بحكم تأثيرات تقادم العمر، بينما طالت علامات الشيخوخة معظم تلك البيوت بعد أن هجرها السكان، لكن جدران بيوت الحصن وأسواره لاتزال واقفة ترفض الرضوخ لمغازلة الزمن الذي يراودها على الانهيار.

 عبقرية معمارية
ما يدعو للدهشة هو الهندسة المعمارية التي أنشئت عليها منازل وأسوار الحصن، والتي وضعت أحجارها فوق صخر الجبل مباشرة دون حفر أساسات، وبارتفاعات تصل إلى أكثر من 15 متراً، باستخدام الطين مادة للربط بين الحجارة. ولولا أن بعض الأشخاص يأتون من خارج الحصن بين الفينة والأخرى، لانتزاع خشب أسقف المساكن، لظلت باقية على حالها.

آخر المعارك
بني سور الحصن على حواف الجبل مباشرة بشكل يحول دون توفير أي موطئ قدم للراغبين باقتحامه عسكرياً، ويقول علي أحمد الرعدي (65 عاماً) عاقل قرية الحصن، إن آخر معركة شهدها الحصن كانت في العام 1967 أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين دفاعاً عن ثورة سبتمبر، عندما تحصنت مجموعة من الجنود الجمهوريين داخل الحصن، وأن تلك المعركة استمرت لعدة أيام امتلأت خلالها المناطق المحيطة بالسور بجثث القتلى، قبل أن يتمكن الجمهوريون من تأمين طريق لهم وإخلاء الحصن.

 هنا تعايش الجميع
لكن الحصن لم يكن مجرد مركز للصراعات العسكرية بين المتحاربين على مر التاريخ، فهو إلى جانب ذلك كان مقراً للتعايش بين الديانات، حيث يشير الأهالي إلى غرفة صغيرة تقع في الجانب الشرقي من الجرف خارج أسوار الحصن، والتي قالوا إنها كانت معبداً لليهود اليمنيين الذين كانوا يسكنون في جهة من الحصن إلى جوار المسلمين.

 بيت بوس للبؤساء
لا يزال حصن بيت بوس يوفر ملاذاً آمناً لسكانه من البؤساء الذين اجتمعوا من مختلف محافظات الجمهورية، واحتضنهم حصن بيت بوس بعد أن رفض العالم إيواءهم نظراً لعدم قدرتهم على استئجار بيوت داخل المدينة.
حالياً يوجد 32 أسرة تعيش في قرية حصن بيت بوس، منها 24 أسرة داخل الحصن و8 أسر في الجرف الملتصق بأسوار الحصن من جهة الشرق.
هذه الأسر التي تقطن بمكان قصي في عمق التاريخ، منسية من أي اهتمام، فقد انتهكت الكوليرا حياة سكان الحصن دون أن يطالهم أي نشاط لمكافحة الوباء، سواء تلك المتعلقة بالحصول على مواد تعقيم المياه، أو عمليات التوعية الصحية لتجنب الإصابة بالكوليرا.

 تحديات الماء
بينما يمثل الماء تحدياً لسكان حصن بيت بوس، بعد أن انقطعت الوسيلة الوحيدة التي ابتكرها الأقدمون لتغذية الحصن بالمياه، عبر احتجاز مياه الأمطار في سد قريب يرتبط بقناة تجري فيها المياه من السد إلى بركة عميقة محفورة أمام بوابة الحصن، لكن السد تهدم، وتهدمت القناة.
ومن أجل التغلب على مشكلة الماء، قام الأهالي بوضع خزانات معدنية على مساحة قريبة خارج بوابة الحصن بعدة خطوات، والتي يعبئون فيها الماء من (الوايتات) ثم يحملونها بعد ذلك من الخزانات إلى بيوتهم داخل الحصن، وهذه المسألة لم تكن ممكنة إلا منذ 4 أعوام بعد أن قام الصندوق الاجتماعي للتنمية بشق الطريق إلى مسافة تبعد 150 متراً تقريباً من بوابة الحصن.

 أخوية المنسيين
ظروف الشظف والمعاناة التي يعيشها سكان الحصن، أوجدت بينهم حالة من الألفة والود يمكن إدراكها بسهولة من خلال تعاملهم مع بعضهم البعض، فبالنسبة لأناس اختارهم الفقر من شتى أصقاع اليمن ليقطنوا الحصن، لا يمكن سوى التعاضد، والعيش على أساس المصير المشترك لمواجهة أعباء الحياة.

 أيادي المخربين تنهش الحصن
ظل حصن بيت بوس صامداً في وجه الزمن لآلاف السنين، لكن يبدو أن الدهر قد تمكن أخيراً من الظفر بالحصن، مستغلاً شيخوخة المكان الذي استعصى عليه حقباً طويلة، فقد بدأ الخراب يغزو مكونات الحصن بسرعة، مستعيناً باستهتار بعض المواطنين، والمطلوب لإنقاذ هذا الحصن هو أن تقوم الدولة بمنع من يدعون ملكية الحصن من انتزاع أخشاب سطوح المنازل، وإذا استمر إهمال الحصن بنفس الطريقة يمكن لأيادي التخريب أن تتمادى وتنتزع أحجار الحصن من أجل تشييد بيوت جديدة على حساب التراث الحضاري لليمن.