مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثاني من أسفار أيوب الجميلة، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات هذه الأسفار .
ومن شعراء القصيدة الغنائية الذين تغنى الفنان أيوب طارش بقصائدهم، ورغم شهرتها لدى جماهير أيوب، إلا أن كثيراً منهم لايعرف من قائلها، بل إن بعض المهتمين بالقصيدة الغنائية أو بالكتابات الشعرية والفنية، لا يعرفون ذلك أيضاً؛ ومنهم من يجهل شعراءها ولا يعرفون شيئاً  عن حياتهم الأدبية، ومن هؤلاء الشعراء يأتي الشاعر الغنائي والأديب والسياسي الراحل يحيى منصور بن نصر، المولود بمنطقة الجعاشن (ذي السفال) عام 1914/1333هـ، وتوفي في 1984م/1405هـ)، تلقى دروسه الأولى في منطقته، فحفظ القرآن الكريم وجوَّده، ثم انتقل إلى منطقة ذي السفال ودرس الفقه والنحو وعلوم اللغة.
بدأ حياته العملية عام 1941 ناظرًا للأوقاف في قضاء ماوية، وفي العام 1945، عين ناظرًا لأوقاف ناحية شرعب، ثم أصبح مديرًا للمالية بمديرية القفر عام 1948، ثم عاملاً على ناحية السياني في 1951، ثم على ناحية بعدان.
وبعد قيام ثورة سبتمبر عين وزيرًا مفوضًا في السفارة اليمنية بالقاهرة، وعام 1964 أصبح وزيرًا للزراعة، فوزيرًا للإدارة المحلية (1966).
كان عضوًا في كل من مجلس الرئاسة في (الجمهورية العربية اليمنية) اعتبارًا من أبريل 1963، وفي مجلس الشورى في المدة من 1971 إلى 1975، ثم في مجلس الشعب التأسيسي (1978-1984).
وللشاعر يحيى منصور نشاط سياسي واجتماعي، ومراسلات ومطارحات شعرية مع بعض شعراء عصره.
صدر له ديوان بعنوان: (شعر وذكريات)، منشورات العصر الحديث، ط1، بيروت 1983.
حقق ديوان (وادي الدور) للقاضي علي بن محمد العنسي، وكتب العديد من القصائد الغنائية التي تغنى بها الفنانون والمطربون اليمنيون، ومنهم الفنان أيوب طارش عبسي الذي غنى له عدداً منها في وقت مبكر من حياته الفنية.
ومن أحلى وأعذب وأروع أغاني أيوب طارش القديمة لهذا الشاعر أغنية (يا بنات الحوية)، وقد غناها بلهجته التعزية أو بالأصح بلكنة مناطق الحجريّة، ولكن على إيقاعات لحن من التراث اليافعي القديم، وتقول كلمات الأغنية:
(يا بنات في الحويّة.. خبريني وقولين
ذي قداكن بنية.. شفتها قبل شهرين
ذات طلعة بهية.. رشقتني بسهمين
بادلتني التحية.. وليلي لهله يوه
بعدها كم تلاقي.. كم صراحة وأيمان
في الحقول والسواقي.. والسعادة ألوان
بعدها يا رفاقي.. قتلتني بمكان
قطعتني التلاقي.. وليلي لهله يوه
جوبن لي تفضّل.. سر معانا ندوّر
وعليها شانسأل.. في المراعي ونبصر
ما معك وامدلّل.. حين للعشق تظهر
راعية كيف تظهر.. وليلي لهله يوه
قلت آح يا حياتي.. لي معاها مواقف
شاتها جنب شاتي.. في الجبل والمخالف
رشفتها شفاتي.. ما سوى الله عارف
حبّ كالسيل جارف.. وليلي لهله يوه
ما حياة المفارق.. وهو بالحسن هايم
آه ماحلا البلادق.. عود تلك المعاصم
وجبين صبح شارق.. والشفاء بالمباسم
ما سوى الله راحم.. وليلي لهله يوه)
ومن القصائد الغنائية الجميلة التي كتب أيضاً كلماتها هذا الشاعر ولحنها الصحفي عبد الصمد القليصي، وتغنى بها أيوب في بواكير أسفاره الفنية، تأتي أغنية (يا عنب يا عنب)، والتي تقول مقاطعها الغنائية:
(غردين يا طيور.. جو الخريف قد تهيأ
والعنب في طريقه
والليالي سرور.. بقرب باهي المحيا
نرتشف طعم ريقه
واسعدوا يا حضور.. إلى البساتين هيا
كل من هو ورفيقه
نجتني في البكور.. من كل عنقود شوية
والصباح في شروقه
حاتمي كالمُدام
من حظايا الرجام
حِل ما هو حرام
ظل من عهد سام
في ثغور الدهور..  تحسوه حسو الحُميا
حالمة في غُبوقِه
روضة الحاتمي.. يا ذكرياتي والأشجان
في ظلال العناقيد
كرمها العاصمي.. عقيق أو عقد مرجان
في صدور الرغاديد
والسواد والبياض بين الحدائق ألوان
والطيور والأغاريد
حول تلك القصور.. الناطحات الثريا
لكل منها حديقة
والغصون البدور
بين تلك القصور
والظفاير تمور
وسط تلك الظهور
جنة الله يا وادي الحدائق والأعناب
والطباع الرقيقة
ما حلا لي من الدنيا سوى كَرْم همدان
والرياض المريعة
وكذا السر والوادي وجنة ثقبان
والحقول الوسيعة
والجداول ترى متلاوية مثل ثعبان
والوجوه البديعة
ليتني من زمان قد كنت للريف سلطان
للخصور الرشيقة
ليتنا ليتنا
بين أريافنا
للعنب والجنا
مع بلوغ المنى
من ثغور الملاح.. نجني من الراح سقيا
المعتق رحيقه)
....
مع عمالقة الكلمة والقصيدة الغنائية والألحان العذبة، أسفار أيوب لاتنتهي. 
معه نواصل الترحال ونتبع خطى أسفاره بكل جوارحنا، وفي كل محطة كعادتنا نتوقف قليلاً عند واحدة منها، ونستعيد معه بعضاً من تفاصيل وذكريات هذه الأسفار الفنية الجميلة مع عمالقة الكلمة والقصيدة الغنائية، والشاعر الجميل عباس الديلمي واحد من عمالقتها الذين تغنى الفنان أيوب بإبداعاتهم الغنائية، وهنا نرتشف بعض كؤوسه العامرة بالإبداع الشعري.
يقول أيوب: عباس الديلمي شاعر الحب والثورة، فهو أجمل من كتب قصيدة الحب الغنائية بجمال روحه الشاعرة، وبروح الشاعر الثائر أروع من تغنى بالثورة الوطن..
وخلاصة هذا القول المختصر نجده في رائعته الغنائية (في مزهريات روحي) التي تغنى بها أيوب ورتلها بوجدانه الصوفي كما كتبتها روح الشاعر الديلمي في لحظات تجلٍّ هي أقرب الى لحظات فيوض الحب الإلهي ومحبته:
(في مزهريات روحي لك زرعت الوفا 
وأسقيت قلبي بحبك فارتوى واكتفى 
لأنك الحب.. أنت الطهر.. أنت الصفا 
يا فجر في ابتسامه كل ضوء اختفى 
إن أظمأوا روض زهري.. كنت الندى والظلال
أو حاصروا ضوء فجري.. كنت الضيا والجمال 
وقال عصفور صدري.. هذا اكتمال الكمال 
يا ليت من رام قهري.. منك تعلم خصال 
وحدك إذا سال جرحي من سهام الجفا
أسقيتني من ندى حبك كؤوس الشفا
آنست روحي بقربك والفؤاد احتفى
وشدو أزهار فني نحو عطرك هفا)
ولد الشاعر عباس الديلمي عام 1952م، في قرية الرونة شرعب محافظة تعز، حيث كان والده الشاعر علي حمود الديلمي يشغل وظيفة قاضي محكمتها الشرعية.
في الجامع الكبير بمدينة (ضوران آنس) تلقى عباس الديلمي دروساً في مبادئ الفقه واللغة العربية على يد العلامة يحيى بن إبراهيم، ثم في مدينة ذمار على يد الأستاذ لطف الآنسي والقاضي زيد الأكوع.
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية بمدينة ذمار، انتقل إلى تعز، وواصل تعليمه، وحصل على الشهادتين الإعدادية والثانوية، وبعدها انتقل إلى صنعاء للدراسة الجامعية والعمل.. فتخرج في جامعة صنعاء كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1978م، ليلتحق مباشرة بالعمل الإذاعي، وعمل معداً ومسؤولاً للبرامج السياسية والثقافية والشعبية والتنموية بإذاعة صنعاء.
له عدد من الدواوين الشعرية: اعترافات عاشق (1974)، غنائيات عباس الديلمي (1993)، قراءات في كهف أفلاطون (1994)، وكذلك ديوان غنائياته العاطفية والوطنية الصادر في 1993، والتي تغنى بها كبار الفنانين داخل اليمن وخارجها. 
قال عنه الأديب الكبير الراحل عبدالله البردوني: (وليلى عباس الديلمي هي هذه الرائعة الممتدة تحت عيون النجوم ووجه الشمس، يتغنى بالأرض التي تنبض في قلب كل حسناء، وتشمخ في جبهة كل بطل، وتترقرق في عيون الحلوات، وتغني في عروق الزنود السمر.. وهذا النوع من الغزل أصيل في تاريخنا).
ويقول عباس الديلمي: (منذ أن كنت في الـ16 من عمري، وجدت نفسي مدفوعاً لأدخل ساحة القصيدة من بوابة الأغنية؛ لأسباب كثيرة، منها أن الأغنية كانت بوابتي الى عالم القصيدة، وأجنحتي الى خارج حدود اليمن.
ولأنها هويتي التي أبرزها لمن يريد أن يعرف من أنا ومن أين.. كيف أحب وأعشق.. أكره وأغضب.. أعادي وأصادق.. وأسالم وأحارب.. بل كيف يفعل اليمانيون ذلك، كون الأغنية لاتولد أولاً في قلب شاعرها لتعبر عنه وحده! ولكنها تولد في أكواخ الفقراء وقصور المترفين.. في سهر العيون وسحر الابتسامات.. في خنادق المقاتلين وأوجاع العشاق وسعادة المحبين.. وإصرار المناضلين.. الخ!).
فالأغنية أو القصيدة الغنائية بالنسبة له هي: (سحابة محملة بالماء والنار.. تكونت من ضمير المجتمع، وأمطرت في قلب الشاعر الذي يطلقها صدى معبراً رجعه ذلك اللحن الذي جعل منها نقطة التقاء جماعي لأكثر من جيل!
هكذا أنظر الى الأغنية منذ تعاملت معها صغيراً، وكانت كأس حبي الأول، والوسيلة التي ما إن نما الى علم والدي الشاعر أني أتخذها منفداً الى بحر القصيدة، حتى نصحني بأن أجعل منها أداة الغوص في بحر اللغة وقواعدها وفقهها..
الأغنية شاءت أن تعلمني كيف أحب أولاً، وأتحمل مشاق اصطياد لآلئ تصلح لأن تكون أغنية وعقداً نفيساً على جيد من أحب!
لقد علمتني الأغنية ألا أقع في ما علمتني الاحتراز من أي شيء قد يسرقني أو يبعدني عنها!
أن أقول: الأغنية.. القصيدة.. أمام الصحافة.. أمام السياسة.. أمام السلم الوظيفي، وأمام كل المغريات المادية.. ولن أندم على ذلك أبداً!
لست أول ولا آخر من كانت هذه قناعته ونظرته الى الأغنية.. وقديماً قال العبقري الصيني (كونفوشيوس): لست أبالي بمن يضع شرائع الناس مادمت أضع أغانيهم!
هكذا أنظر الى الأغنية، وأجد فيها التعويض عن كل شيء، ولا أستطيع أن أتصور مجتمعاً حياً بدون أغنية جيدة.. حتى المحارب الشجاع والعامل المتفوق والعاشق الفذ.. لابد له من أغنية).
ولذلك في نشيدهما الذي تجلت فيه رمزية الفارس اليمني سيف بن ذي يزن، نجد امتزاج إرادة التحدي وحب الوطن برائحة الأرض وعبق التاريخ، حيث تمضي بنا كلمات الشاعر عباس الديلمي وألحان الفنان أيوب طرباً ونشوة؛ حين تشدو بها حنجرته، فنشد الرحال معها صوب التحدي لاستعادة أمجاد أمة ونصرة الحق وبناء يمن العزة والعدل معاً:
(عن طريق شقه ذو يزنِ 
واهم من ظن أنا ننثني
قدري دوماً يد تبني غداً 
ويد تحرس مجد الوطنِ
معولي قاسم سيفي عشقه 
نصرة الحق وخير اليمنِ
نهجنا في السير عدل وتعاونْ
كي نرى الأرض سدوداً ومداخنْ
ليس منا خائن أو متهاونْ
كل قلب صار يشدو طربا
لعناق ضم أبناء سبا
وعلت زغرودة الأم لمن
لم يعد عن شعبه مغتربا
قد تعاهدنا على أن نبتني
يمن العزة والعدل معا
فإلى المصنع والحقل إلى
بذلنا المعطاء من أجل اليمن)
هي الأرض الأم والحبيبة والأغنية (المعينية) عشق أبدي وحب معفر بترابها وعبق أندائها، ولذلك يقول الشاعر عباس الديلمي أيضاً: (لقد وضعت في ديوان (الغنائيات) ما استطعت جمعه.. وكان حرصي أن تكون في مقدمة ذلك بداياتي الأولى (نجوم الليل) و(شاهيم طول الليالي) و(امشي دلا) وأغنية (يا طبيب الهوى) أول ما اختطه قلمي من غنائيات، ولهذا تركتها كما هي بضعفها، وتعثر خطواتها.. وتركتها كما هي لأنها المتحدث الصادق عن بدايتي.. وفيها قرية الذاري وواديها الجميل اللذان زوداني بخامة شعرية شكلتها مدينة تعز.. ولأنها تكونت على هيئة أغنية شعبية تسمى (المعينية) أول ما لامس قلبي بأثر بالغ.. وأنا أستمع الى أجمل أصوات الوادي، تترنم بها وتقول:
(حنّ قلبي، رعد 
يا ناس ما حد يلومه
إن صبر ما رقد
وإن صاح شاعت علومه)
لقد بادرت ـ لا أعرف لماذا، ودونما اختيار- الى الكتابة أو الغناء بنفس الوزن والرجع والحنين والشكوى، وجعلت من هذا بداية علاقتي مع الأغنية قبل سنوات على دراستي للفلسفة ووقوفي أمام مقولة الفيلسوف أفلاطون العظيم: [إن الموسيقى غذاء للنفس، وتبعث الاتزان والفطنة، وهي عطية آلهة الفنون الحرة التي تحول ما فينا من شاذ متنقل الى محكم ثابت.. وترد كل تنافر الى جناس متناسب.. وتبصرنا طريق الهدى].
وقبل 30 عاماً على قراءاتي لمقولة العبقري الداغستاني رسول حمزاتوف: [من لايعرف الأغنية فعليه ألا يعيش في منزل.. بل في زريبة!]).