مدخل: لقد تعرضت الثورة الأولى للعديد من النكسات والضربات خلال المرحلة الأولى، وفي الفترة من 62م إلى 67م، وحين اختتمت المرحلة المزدوجة بالانقلاب البيروقراطي الرجعي على الأهداف والمبادئ والاتيان بحكام هم أقرب الى الثورة المضادة بل هم الثورة المضادة بالفعل، وإبعاد الوطنيين والشرفاء، والشروع في مواصلة المساومات على رأس الثورة ووأدها وتسليم العاصمة للملكيين في 67م و70م مقابل التشارك في الحكم الذي اتفقوا عليه ليكون لا جمهورياً، في مؤتمرات الطائف وجدة والخرطوم والكويت وخمر وعمران وحرض والجند...، وكلها كانت محطات تراجعية تكشف الأرضية للانقلابات اللاحقة وتمهد لها.
ولم تكن هذه الردات والتراجعات قد تمت بدون أسباب وعوامل كامنة في الثورة الناقصة وفي الجمهورية المشوهة.. البيروقراطية كانت أساساً لوقوعها ونجاحها. ومن المفيد مراجعة مسار الثورة المغدورة تلك وخلفياتها وأسسها والقوى التي أسهمت فيها وأهدافها الحقيقية وعلاقاتها الاستراتيجية ومصالحها وطبقاتها وموقعها التاريخي -الموضوعي- ومدى ثوريتها وطبيعة أيديولوجيتها وخلفياتها التاريخية وعلاقاتها وموقعها الاقتصادي.
لتكون تلك المراجعات الموضوعية بمثابة الخلفية العلمية التاريخية لمعرفة وفهم ما حدث من تراجعات ونكسات ونكبات.
أسلم الجمهوريون الجمهورية إلى أيدي أعدائها الاستعماريين والبيروقراطيين الرجعيين في الداخل والخارج، وأضاعت السيادة الوطنية والتراب اليمني والوحدة الوطنية والحرية الشعبية، وأضاعت الثروة الوطنية واقتطعت الأرض وأهينت الكرامة الوطنية. لقد تعرضت البلاد لانهيارات شاملة مازالت آثارها إلى الآن، وتراكمت تركة ثقيلة لأكثر من 50 عاماً من الشقاء والبؤس والقهر والتمزق والسجون والعدوان والقمع والتنكيل بالأصوات الحرة والوطنية والشريفة، ووصلت المظالم والمحارق والمشانق إلى كل بيت.. بينما تحولت الجيوش الجرارة -التي فاقت أعدادها نصف المليون- وبيروقراطيتها إلى آفة يستحيل إشباعها بكل ما نملك من دخل قومي عام، عوضاً عن تحول الكثير منهم إلى مرتزقة يؤجرون للقتال مع كل القوى الدافعة للأجرة -إلا القتال دفاعاً عن الأرض والعرض والكرامة- فكانت جيوشاً بلا كرامة، منزوعة الغيرة على الأرض والوطن والمال العام والشعب، وانتهى بها الحال فاتحة الأبواب أمام اختراق الأجنبي الذي صار سيداً فعلياً للبلاد.
إن الثورات المتتابعة في البلاد كانت ومازالت بسبب تركة الأنظمة البيروقراطية التي ظلت تتناسل من تلك الانقلابات الرجعية الداخلية الخارجية المنغمسة داخل القوة السبتمبرية النوفمبرية الأكتوبرية اليوليوية واليونيوية، والتي لم تكن إلا تنويعات داخل مقام عزف واحد من حيث المعنى والجوهر، وإن تنوعت الألحان والنغمات. كانت لـ50 عاماً بسبب المظالم والقهر الذي خلفتها تلك الردات الرجعية البيروقراطية.
ومن المهم أن نفهم عميقاً جوهر التطورات التي تعرضت لها الثورة أو الانقلاب الثوري والجمهورية، وكيف تحولت الثورة إلى انقلابات وإلى قوة رجعية تابعة للإمبريالية والرجعية السعودية.

الحدود والتخوم ضرورية التحديد لفهم معنى الثورة ضد من؟ لصالح من؟
حين الحديث عن الثورة -أية ثورة- فالمقصود أن نحدد ثورة مَنْ مِنَ المجتمع هو المعني الأول فيها، ومَن مِن الطبقات هي المعنية الأولى لكي تحرر نفسها من الطبقات الجائرة المسيطرة، وتحرر معها بقية الطبقات الشعبية العامية الأخرى.
فلا يمكن استمرار الحديث عن الثورة بشكل غامض، فلا توجد ثورة عامة طول الوقت بدون جوهر محدد واضح، فالثورة اليمنية في حقيقتها الطبقية الاجتماعية هي نهوض الطبقة المنتجة المستغلة الأكثر كدحاً وظلماً، وهي تشكل أغلبية المجتمع والأمة من الفلاحين والشغيلة والمزارعين بدرجة أولى.. وهذا ما يحدد صفة الثورة وجوهرها الاجتماعي وقواها المحركة وتناقضاتها الرئيسية وظروفها ومهامها واحتياجاتها.

تحديد ثورة سبتمبر الاجتماعي
هناك تحديدان لثورة سبتمبر مختلفان، أولهما التحديد البيروقراطي الانقلابي الذي يحددها بأنها حركة ضد أسرة الإمام حميد الدين وكفى. وهو التحديد الذي نجده في الوثائق الصادرة صباح الثورة - الانقلاب، وفي الوثائق المنشورة باسمها اليوم. وبهذا التحديد يخرجون الثورة من موقعها الطبيعي إلى موقع الانقلاب.
وللعلم، لم تكن البلاد في أي عصر واقعة تحت حكم شخص واحد وأسرة واحدة مطلقة مهما كانت قوتها، ولكن التحديد الضيق يعكس رؤية ورغبة البيروقراطية المسيطرة على النظام الذي كان الإمام رمزها الأكبر وواحداً منها والشخص الذي يرأسها قبل أن تختلف معه وتناقض توجهاته.
وهي تحصر التغيير في شخص رئيسها وحسب، بينما تحافظ على سيطرتها واستغلالها باسم جديد مموه جمهوري، وهو عمل تلجأ إليه كل البيروقراطيات في العالم حين تتآكل شرعيتها وقوتها المسيطرة، فتلجأ إلى لعبة التغيير والتبديل الشكلي الصوري الشخصي: عاش الأمير يسقط الأمير!
وفعلياً، كانت اليمن لم تتقدم شبراً واحداً عما كانت عليه قبل الإمام، بل على العكس من ذلك. لأنهم قد اتخذوا الانقلاب الفئوي بدلاً عن الثورة الشعبية المطلوبة، وأقنعوا الناس بأنها ثورة، بينما ليست كذلك.
فكيف تكون ثورة ضد فرد واحد فقط، وتترك جموع الجلادين واللصوص والنهابة والمترفين والظالمين؟!
وقد بلع الشعب مؤقتاً الأكذوبة، واعتقد أنه في تغيير حقيقي، ولكنه عبر لاحقاً عن حزنه ومرارته عبر الكثير من الشعراء، وأبرزهم البردوني الذي ظل حتى وفاته وهو يندب حظ الشعب اليمني المخدوع المقهور المذل المستغفل، وما زالت بكائياته حية، لقد كانت تلك النفثات النارية الغاضبة تهدف إلى إيقاظ الشعب وإيقاظ وعيه واستفزاز شعوره وطموحاته وإنسانيته. ولأن الوعي العام كان مدمراً مقصياً مكوياً من قبل البيروقراطية، فقد خدع بالأوهام لسنوات طويلة، وتعرض للكثير من النكبات والمآسي.
لقد تولى الإعلام البيروقراطي الكذب، وحوله إلى فكر وعقائد وتاريخ وعلم يلقن في الجامعات والمدارس، وينشر ويحرس ويرفع كالمعلقات الذهبية القديمة، وكمناهج وفلسفات رسمية.
وبرغم ذلك، فقد كانت الدلالات متناقضة في وعي الناس. وتلك المفارقة العجيبة المتمثلة في التناقضات الغريبة بين الشعارات والسياسات النافذة، والثروات المكدسة في أيدي نفس الفاسدين وعائلاتهم، وبين الإفقار الشعبي وانتشاره، والتطورات الشكلية التنموية والتعليم والصحة والخدمات وغيرها في ظل زيادة الفجوة الاقتصادية والأزمات وتزايد مستوى الفقر العام النسبي والمطلق والتراجع الاجتماعي وضياع الكثير من الأرض اليمنية!
لقد بلغت الأمور انحطاطاً إلى درجات مريعة للدرجة التي يصير فيها السفير السعودي وملحقه العسكري في العاصمة يتدخل بكل التفاصيل اليمنية من الاجتماعات إلى التعيينات إلى القرارات السياسية، أن يتدخل في كل صغيرة كبيرة، ويحضر اجتماعات الحكومة بنفسه يملي عليها القرارات والسياسات ودفع المرتبات (الرشاوى) حتى لمجالس الشعب والشورى!
إن سرقة أموال الدولة من قبل مسؤوليها دون قلق طوال الـ50 عاماً، يثبت إما أن الثورة ليست كاملة بعد، أو هي انتكاسة كبرى.

هل كانت هناك ثورة؟
كانت الثورة مستمرة نعم إلى الآن، لكنها لم تتحول إلى حقيقة بعد في الواقع، وتصير جمهورية شعبية أو سلطة حقيقية ثورية، لكنها ظلت في القلوب والعقول، وفي أرواح الشهداء والمناضلين، وفي وعي المقاتلين والمناضلين من أجلها. بقيت تكافح وتنمو وتكبر، تسكن القرى والزوايا المعتمة والسجون والمعتقلات وغرف التعذيب وأفئدة النادبات جزعاً وحزناً على أبنائهن وأزواجهن وإخوانهن وآبائهن وأمهاتهن.
الثورة ظلت روحاً مقدسة تطوف الأحياء الشعبية والقرى الفقيرة البائسة. كانت السلطات الحاكمة فقط قد ألبست نفسها أثواب الجمهورية والثورة، كما ألبس يزيد نفسه رداء الإسلام وهو يمارس كل الجرائم التي تخرجه من ملة محمد (صلوات الله عليه وآله) ومن دينه.

الثورة والسلطة
نعم كانت ولا تزال هناك ثورة، ولكنها لم تكن أبداً في السلطة لأن البيروقراطية قد خنقتها من الأيام الأولى للجمهورية، وقذفت بها في غياهب الجب، ولذلك لم يحصل أي تغيير حقيقي في الواقع، فالظلم والجور الاختلاس والفساد والتبعية والارتهان فاق كل التصورات. فكيف تثور قوى الظلم على نفسها؟!

البيروقراطيات لا تثور إلا وهماً
لأنها المعنية بالإبعاد والازالة، وهي المعني بالفساد والظلم والطغيان، وتعتاش من قوت الشعب ودمائه، ومن بيع الأوطان، ومن التعاون مع الأجنبي والارتهان له ولمشيئته. وما تقدم عليه من تغيير لا يتجاوز حدود طبقتها ومنظومتها المسيطرة، أي تغييرات وإحلال داخل المنظومة المسيطرة نفسها كطبقة سياسية اجتماعية محتكرة الثروة والسلطة والقوة.

من أين جاء انقلابيو 17 فبراير 48م؟
من نفس مقام الإمام وموظفيه ووزرائه وأمرائه ومستشاريه وأعضاء طبقته الأرستقراطية الدينية والاجتماعية والقبلية، ولم يكونوا يمتازون عنه بشيء إيجابي واحد، وإنما كان هو أكثر وطنية منهم وأكثر إنسانية ورحمة وأكثر إحساساً بالوطن والاستقلال.
إن الحركات لا تقاس بما قالت عن نفسها، وإنما بما تكشفه الوقائع والأحداث التاريخية المتوالية. لا تقاس بأعداد العمارات والقصور ولا بأعداد المدارس والجامعات، وإنما بما تضيفه من قيم وكرامة وطنية وعزة وحقوق مسترجعة.
كانت جريرة الإمام الوحيدة هي تنازله الاضطراري للسعودية عن الأرض اليمنية لمدة معلومة قابلة للتجديد أو الإلغاء أو إعادة التفاوض بشأنها. تاركاً للأجيال اليمنية القادمة المهمة لاستعادتها بالحرب أو السلم. لكن المفاجأة المدهشة هي أن (الأحرار) المنقلبين عليه باسم الوطنية والحرية والحقوق والاستقلال، هم من سلموا الأرض وتنازلوا عنها أبدياً، وبمقدمتهم عبد الله الوزير وأتباعه الذين دبروا مع الملك السعودي وبريطانيا تسليم الأراضي مقابل دعمه للوصول إلى العرش بعد أن يغتال الرجل الذي اختاره ليمثله في التفاوض مع آل سعود، قاضياً في ضيافتهم نحو شهر دون أن يشك الإمام يحيى به، لأنه يثق به وكان زوجاً لابنته. وذلك يكشف ارتباط المعارضة الانتهازي بالمستعمر والمحتل السعودي. إنها البيروقراطية التقليدية المخترقة.
 
حركة بيروقراطية فاسدة - معارضة مخترقة 
لأنه النقد الذاتي لم يحصل، تم السطو على التاريخ والسيطرة على الثقافة وتأجير عدد من المثقفين المأجورين الذين راحوا يمهرون الشهادات الوطنية والثورية لكل حركة عميلة فاسدة.
ومن هذه البيروقراطية الفاسدة تناسلت الحركات الجمهورية البيروقراطية التالية لسبتمبر 62م.
إن استمرار التجهيل الوطني هو ما يضر بالوطنية. وبعض السذج يتصورون أن كشف الحقائق للناس يضر بالوطنية والانتماء! والحقيقة هي أن كشف الحقائق ونقد الإيجابي للوقائع والأحداث هو أفضل طريقة لتقييم الأحداث وتنقيتها مما علق بها من شوائب، ولأنها أحداث وتاريخ يملكه الشعب وليس أفراد. ولو أن البيروقراطية كُشفت في 48م لما استمرت تتناسل في صور جديدة، ولما استمر الوعي الشعبي بتلك الحالة من التجهيل والتراجع والتغييب.

المثقف الثوري هو ما نحتاجه
والمقصود بالمثقف الثوري ذلك الإنسان الذي عرف الحقيقة والحق ولو على أهله وأسرته وعلى طبقته.
الأنبياء هم مثقفون ثوريون في عصورهم، فهم الناطقون بالحق ولو على أنفسهم، ولذلك جاء في الكتاب المقدس أن الأصل في البدء كانت الكلمة الحق.
فأصل كل شيء حقيقي هي الحقيقة حوله، أي تصوره بشكل واقعي كما هو.

 تحرير الإرادة
يضيع الحق في ظل البيروقراطية، لأن المثقف هو إنسان ضعيف بسيط لا جاه له ولا حماية ولا يتحمل الحرمان فيتجه لمراضاة ولي السلطان. فإذا كانت الثورات لا تفتتح أيامها بالحقيقة فإنه لا يمكنها مواصلة المشوار معها لأنها تخاف وتراعي مشاعر الطغيان.
إن البيروقراطية، بصورتها البارحة واليوم، هي الآفة التي تنخر جسد البلد وتستبيحه بكل جرأة، ولا يمكن لانتصار أن يتحقق بوجود هؤلاء يسيطرون على الإدارة وخلف كروش مكاتبهم الوثيرة الدافئة، فيما (يعيش الشعب في المقابر).
إن التحرر من البيروقراطية، يعني تحرير الإرادة الوطنية، والتي دون تحققها يجتزأ ويتشوه التحرر الوطني ويغتال.