مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثالث الخاص بأغاني تراثنا اليمني وإسهامات الفنان أيوب طارش فيه تجديداً وإبداعاً، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات أسفاره الجميلة سفراً سفراً ورحيلاً يليه رحيل، وفي كل محطة نتوقف فيها معه ونرتشف بعضاً من تفاصيلها.
وقبل أن نتناول أسفار أيوب وإسهاماته في تجديد هذا التراث الغنائي وإبداعاته فيه وإضافاته عليه من حيث توقف الآخرون، جدير بنا أولاً أن نتوقف قليلاً لنعطي لمحة صغيرة عن جذور موروثنا الغنائي وتراثنا الموسيقي والفني، حيث تؤكد كثير من المراجع والمصادر التاريخية والبحوث الحديثة على (أن جذوره تعود إلى أبعد من العصر الجاهلي حينما كانت اليمن تغذي فيه الحجاز وأطراف الجزيرة العربية بالقيان (المغنين والمغنيات). وجرادتا عبدالله جدعان ليستا أول من غنى الغناء العربي، لأنه يعود في جذوره إلى عهد عاد كما يقول القلقشندي).
وهناك من يرى أن (الموسيقى اليمنية قديمها وحديثها لم تكن في يوم من الأيام أسيرة حدود اليمن، بل انتقلت عن طريق الهجرات إلى الخليج والجزيرة العربية، حتى صار فناً من فنونهما، بما فيها الغناء المتقن الذي شاع في الحجاز في زمن الخليفة عثمان بن عفان، بفضل المغني طويس اليمني الأصل، كما يقول أحمد تيمور، ثم في زمن الأمويين والعباسيين). 
ويرى آخرون، ومنهم الباحث والفنان الراحل محمد مرشد ناجي، أن (أول من قال الموشح الشعري هو مقدم بن معافر المقبري، وهو أيضاً من اليمن من معافر التي هي اليوم ]الحجرية[). 
وفي كتابه (الغناء اليمني)، وهو المؤلف الوحيد الذي يتكلم عن الغناء اليمني، ومأخوذ عما يزيد على 30 مرجعاً، وكلها من أمهات الكتب العربية مثل (العقد الفريد) لابن عبدربه و(الأغاني) لأبي الفرج و(مروج الذهب) للمسعودي وكتاب (تاريخ الموسيقى العربية) لجورج فورمر، وهو أهم كتاب في تاريخ الموسيقىِ العربية، ذكر المرشدي أن الموشح الأندلسي امتداد للموشح الحميني، وأنه بعد عقود من الزمن لبحث أصل الموشح الحميني وكذلك الأندلسي، توصل إلى أن الموشح الأندلسي امتداد للموشح الحميني، فقد جاء في تاريخ صدر الإسلام ما يعرف بالغناء المتقن، أي المتقن من الناحية الموسيقية، والغناء المتقن هو الذي يبدأ بالنشيد، مستشهداً بفناني صنعاء مثل الفنان الراحل محمد حمود الحارثي الذي يبدأ بالنشيد بدون إيقاع أشبه بالموال، ثم يدخل في الإيقاع الثقيل، ثم يدخل في الهزيج السريع الذي يبدأ معه الرقص، وأن طويساً هو الذي أتى بهذا، فأصبح هذا الغناء يلتزم به جميع المغنين، كذلك جاء العصران الأموي والعباسي ليغنى بهذا الغناء، ثم جاء زرياب، وكان تلميذاً لإسحاق الموصلي الذي كان أشهر موسيقي في عهد الرشيد، وحين انتقل زرياب إلى الأندلس أنشأ مدرسة لتلاميذه التي تعدّ أول مدرسة، ولكن مدرسة طويس في المدينة هي أقدم منها، باعتبار أن هؤلاء المدرّسين الذين أتى بهم زرياب هم في الأصل من المدينة المنورة، وهؤلاء المدرّسون يعلمون تلاميذ زرياب الغناء المتقن الذي جاء به طويس).
وكذلك يؤكد الأديب والباحث د. عبد الرحمن الرفاعي، في كتابه (الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي)، (أن أصل الموشح الأندلسي يمني)، وكان من مراجعه (شعر الغناء الصنعاني) للمؤرخ الشهير د. محمد عبده غانم (1912-1994م)، حيث يذكر الرفاعي في كتابه المشار إليه تحت عنوان (حقائق ارتباط الحميني بالموشح، الحقائق التاريخية)، أنه في إلقاء نظرة فاحصة منصفة على فني الموشح الأندلسي والحميني في اليمن، تتجلى حقيقة الارتباط بين هذين الفنين, وأن الحميني هو الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح، وأن الحميني هو الارتباط الطبيعي لفن الموشح الأندلسي، وهو قول بناه على براهين أثبتت له أن الحميني هو الامتداد الطبيعي والمهد الأصيل للموشح، وهذه البراهين ترتكز أساساً على قاعدة لا تحتمل - كما يرى - شكاً أو ريباً، وهي: أن الموشحات في الأندلس ابتدعها شعراء يمنيون متأثرون بأشعارهم وأوزانهم الحمينية.
وقد أسهب الرفاعي في شرح أسباب ذلك بقوله: إن معظم العرب الذين كانوا في جيش طارق بن زياد يمنيون، وأن أكثر الشعراء ومعظمهم شعراء يمنيون من هذه القبائل من زمن الفتح إلى الاضمحلال، فلو أخذنا المجلد الثالث فقط من (نفح الطيب) الذي يبلغ حجمه 460 صفحة، لوجدنا أن نسبة 95% منه شعراء يمنيون! كما أن الموشح ظهر في الفترة التي كان حكامها يمنيين، وعلى أيدي الشعراء اليمنيين، وأنه قد وجدت بعض النصوص التوشيحية قائلها يكشف فيها عن حنينه لموطنه الأصيل بلاد اليمن، وكأن الشاعر كان يحس أنه سيظهر بعد من يدعي ملكية هذا الفن!
ويورد الرفاعي موشحة طويلة للشاعر الإشبيلي، منها:
لا تسمع من كان وكان
وانظر حقيق الخبر والعيان
يحال خيالي رجع ذا الزمن
فأحلى ما يوريك ديار غيبها 
وأخرج جوار اليمن)
(والغناء المتقن فن يمني مازال معمولاً به في اليمن حتى اليوم، وبناؤه الموسيقي يقوم على استهلال غنائي خالٍ من الإيقاع، يؤدى بأسلوب الموال، ثم يتحول في جزئه الثاني إلى الأداء بمرافقة الإيقاع الثقيل؛ ليصير هزجاً سريعاً بمرافقة الرقص في جزئه الثالث)، وأشهر من غنى هذا اللون في اليمن الحارثي والسنيدار ومحمد مرشد ناجي، وصاحب هذه الأسفار الفنان الكبير أيوب طارش.
يقول أيوب: تراثنا الغنائي وكل موروثنا الفني والموسيقي كنز من كنوزنا الحضارية، ولكنه بحاجة إلى البحث والتنقيب والتوثيق كي نحافظ عليه، وتلك مهمة صعبة تتطلب عملاً مؤسسياً وعلمياً تقوم به وتشرف عليه الدولة، أما المحاولات الفردية التي قمنا بها فهي فيض من غيض من هذا المخزون الثقافي والحضاري.
ومن أصل 117 قصيدة تراثية في الشعر الغنائي الحميني، بحسب الدكتور محمد عبده غانم، غنى الفنان أيوب بحسب ما هو لدينا حتى الآن حوالي 23 أغنية تراثية، ومثلها أو ما يقارب هذا الرقم من الأغاني الأيوبية التي تنتمي في ألحانها لهذا التراث الذي نستهل بدايته في هذا الجزء من هذه الأسفار بأغنية (وامغرد) التي تقول أبياتها بحسب ما تغنى بها الفنان أيوب:
(وامغرد بوادي الدور من فوق الأغصان 
وامهيج صباباتي بترجيع الألحان
ما جرى لك تهيج شجو قلبي والأشجان 
لا أنت عاشق ولا مثلي مفارق للأوطان
بلبل الوادي الأخضر تعال أين دمعك
تدعي لوعة العاشق وما العشق طبعك
فاسترح واشغل البانة بخفضك ورفعك 
واترك الحب لأهل الحب يا بلبل البان
آه يا حسرتي منكم وآه يا ولوعي
كل ذا من جفاكم ليت يا ليت لا كان
أحبتي بعدكم والله جفاني هجوعي 
وجرح مهجتي يا أحباب جاري دموعي 
لو يقع إليه اسعى بالرأس لأسعى
يا بروحي نجح روحي بلابل وأشجان
يا أحبة ربا صنعاء سقى الله صنعا
حيث ذاك الربى لازال للغيد مرعى
ليت شعري متى شلقي عصاة المسافر
وأي حين شاتخطر بين تلك المناظر
وأي حين شايطيب لي عيش قد كان نافر 
هو قريب ذا على الله أن يقل له يكن كان)
كذلك أغنية (الهجر يومين) التي تغنى بها عدد من الفنانين، ومنهم الشيخ الراحل صالح العنتري الذي سجلتها له (أسطوانات التاج العدني) (ADEN CROWN 1056A RAM 210)، وغناها الفنان أيوب طارش بنفس اللحن تقريباً، وإن حذف بعض أبيات منها أو كلمة هنا واستبدلها بأخرى كما هو هذا الشطر (والدمع قد قرح أجفانه) استبدله بشطر (وأنت روحه وريحانه)، وكما هي كلمة (واسيد) في مطلع الأغنية التي غيرها أيوب الي كلمة (حبيب) وأبقى عليها في مطلع المقطع الثاني، وغيرها من الكلمات، وأبيات القصيدة كاملة كما غناها أيوب تقول:
(حبيب أنا لك من الخدامْ 
شاملكك روحي الغالي
يشهد بعشقي لك الإسلام 
حتى وشاتي وعذالي
لكن هذي الثمان قد دام 
هجرك وقد زاد بلبالي
الهجر يومين ثلاث أيام
أما ثمان يا تعب حالي
واسيد شاحلف على الختمة
ما خنتك اليوم في حبي
حبك فديتك هو النعمة 
أما الجفا قد كوى قلبي
لكن أنا صرت في ظلمة 
وأنت باعدت في قربي
الهجر يومين ثلاث أيام
أما ثمان يا تعب حالي
أما محبّك عليه الله 
ما تطعم النوم أعيانه
فما السبب تهجره بالله 
وأنت روحه وريحانه 
هذي الثمان أنت له والله 
هاجر وما ذاق سلوانه
الهجر يومين ثلاث أيام 
أما ثمان يا تعب حالي
واراعي امقلة امكحلا 
واحالي امبسم امدُرِّي
أموت في عشقتك أم لا 
فاحكم بما شيت يا بدري
ويلي من الهجر قد أبلى 
جسمي وأبقى الدموع تجري
الهجر يومين ثلاث أيام
أما ثمان يا تعب حالي
ومن سلب في الهوى عقلي 
وأنا الذي في الهوى أوديت
كم لي أروم اللقا كم لي 
لمه لمه هكذا صديت
هذي الثمان أنت يا خلي 
هاجر لعهدك أنا ما سويت
الهجر يومين ثلاث أيام 
أما ثمان يا تعب حالي)
وكلا هاتين الأغنيتين هما للشاعر القاضي علي بن محمد العنسي المتوفى عام 1726A249;. وهو من الشعراء الحمينيين، بل ومن عمالقة الشعر الحميني الذين يضارعون ابن شرف الدين في التعبير الرقيق، وشعره منشور في ديوان اسمه (وادي الدور) نسبة إلى وادٍ ينحدر من جبال اليمن الغربية إلى منخفضات تهامة. وتعد هذه القصيدة بالإضافة إلى غنائيته الشهيرة (وامغرد بوادي الدور) المسمى بها ديوانه، من أشهر قصائده التي تغنى بها الفنان أيوب طارش، ونفح فيها قبساً من ضياء روحه المبدعة وسحر صوته الآسر.
ومن ملاحظتنا على غنائية (وامغرد) التي (يعدها الأدباء أنها القصيدة الحمينية الأولى بين قصائد الغناء الصنعاني)، كما قال عنها د. محمد عبده غانم، أن الفنان أيوب بدأ المقطع الأول من الأغنية بموال بمصاحبة العزف فقط على العود، وهي الطريقة التي تؤدى بها الأغنية الصنعانية كما ذكرنا ذلك سابقاً، وكان يؤكد عليها دائماً الفنان الراحل علي الآنسي، ثم يعيد غناء هذا المقطع والمقطع الثاني بالعزف على العود، وبدون أي إيقاعات أيضاً، وبلحن الأغنية المعروف الذي غناها به معظم الفنانين، ولكن ما يميز أيوب عنهم هو انتقاله من جديد إلى الموال عند تأديته لهذا البيت:
(آه يا حسرتي منكم وآه يا ولوعي
كل ذا من جفاكم ليت يا ليت لا كان)
ثم يعيد غناءه مع المقطع الذي يليه إلى آخر الأبيات التي اختارها أيوب مع ميزته الأخرى في تقديم وتأخير الأبيات في وحدة موضوعية لا تخل بنسق القصيدة، وبانسياب فني سلس ينسجم والحالة النفسية للمستمع.
لقد غنى هذه الأغنية كثير من الفنانين قبل الفنان أيوب وبعده، ومنهم الفنان القدير الراحل أبو بكر سالم بلفقيه الذي قدمها بمصاحبة فرقة موسيقية مكونة من أكثر من 50 عازفاً، ولازلت أذكر قول الفنان أيوب في مقابلة له مع تلفزيون عدن حينما سئل حينها عن رأيه في تقديم أبو بكر لهذه الأغنية بهذا الشكل، فأجاب أنه (وضع لها أو ألبسها القبعة الإفرنجية)، وهذه إشارة منه وتأكيد منه على اقتناعه بأن الأغاني التراثية يجب أن تؤدى فقط بمصاحبة آلة العود وإيقاعها المناسب، وأن أي تجديد يجب أن يكون في هذا الإطار.