على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.
لم تغن عنه ثقافة عصرية 
في حين أغنى عنك قلب أروعُ
علم الكتاب وأنت غاية سره 
أغناك عما زلفوا وتصنعوا
والدين أسمى فطرة وعقيدة 
مما يرى المتمدن المتنطعُ
إن التمدن خلة فتانة 
وأخالها عما قليل تقشعُ
ولرب أفاك يظن بجهله 
أن السماء بجهله تتضعضعُ
يسعى ليفسد في البلاد كأنه 
إبليس في ظلماته يتسكعُ
يلقى لجاجة ظلمه من قلبه 
فيخال نور الشمس منها يترعُ
ويحرك القلم المهين مؤملاً 
أن الجبال لوقعه تتزعزعُ
عجباً له يعتد تلعب فكره 
والأسد تزأر والصوارم تلمعُ
يهذي ليصنع للضلالة دولة 
والدين يبصر والخليفة يسمعُ
يتوعد الدنيا وليس له بها 
إلا خيال هارب متقنعُ
ما زال يؤذي الناس في تضليله 
ويظنهم عجبوا به واستمتعوا
إن الذباب وإن أجاد طنينه 
مستكره يصطك منه المسمعُ
والمبطلون وإن تعاظم مكرهم 
فالصدق أغلب والحقيقة أنصعُ
وانظر خداع بني أمية إذ غدت 
ترمي علياً بالضلال وتقذعُ
زعمت له الأهواء أن مقامه 
بين المنابر قد يهان ويوضعُ
فإذا المنابر كالمعارج يرتقي 
فيها الرجاء إلى السماء ويرفعُ
عطفاً أمير المؤمنين فإننا 
جئنا إليك من الشدائد نفزعُ
أعرضت عنا لحظة فتحولت 
عنا وجوه الخلق بعدك أجمعُ
لم يفحصوا عن أمرنا بل أحدثوا 
قصصاً بمحض خيالهم وتبرعوا
يا من نلوذ بحلمه من سخطه 
وإليه منه نستجير ونفزعُ
إنا لنعرف منك صدراً واسعاً 
يأوي إليك المذنب المسترجعُ
ما ضاق صدرك عن أناس أشعلوا 
نار الحروب وناصبوك وأقطعوا
لما ظفرت بهم عطفت عليهم 
حتى كأنهم بنوك الرضعُ
هذي خلائقك التي أضحى لها 
في صفحة التاريخ نور يصدعُ
ما بالنا دون الورى لم نلق ما 
كنا نؤمله وما يتوقعُ
حتى إذا جئناك نطلب نفحة 
عرضت علينا منك ريح زعزعُ
أفتترك النقمات فيها وحدنا 
والشعب أجمع في نعيمك يرتعُ
رحلوا بنا منذ الصباح ولم نكن 
ندري أرحلة سائح أم مصرعُ
عرضت لنا تلك المطي كأنها 
نعش يؤم بنا المقابر يسرعُ
وتهافت الناس الجميع كأنها 
نظروا جنازة ميت لا يرجعُ
يتخاوضون بأعين مذعورة 
تتجرع البلوى كما نتجرعُ
وأتت مواكب أهلنا لتردنا 
بنحيبها عما إليه نزمعُ
تبكي وتنشدنا الأناة وتبتغي 
ألا نسير وتستغيث وتضرعُ
جاؤوا حيارى خائفين وما لهم 
ذنب وقد يخشى البريء ويجزعُ
يبكون حيث دموعهم مردودة 
حَرَّى وحيث بكاؤهم لا ينفعُ
قلنا لهم إنا لنأسف إذ نرى 
أكبادهم من أجلنا تتقطعُ
فاسعوا إلى المولى الإمام لعله 
يحنو على هذي القلوب ويخشعُ
صبوا المدامع تحت ظل جناحه 
إن الحنان إلى المدامع يسرعُ
وتحملوا معكم صغاراً رضعاً 
فعساه تعطفه الصغار الرضعُ
وتشفعوا بنحيبهم ودموعهم 
إن المدامع خير من يتشفعُ
رحماك يا غوث اللهيف فإن سا
عات العذاب طويلة لا تقلعُ
اليوم ثاوٍ بيننا لا ينقضي 
والليل منقطع السرى لا يرجعُ
والهم يضرم في الجوانح زفرة 
تتقطع الأحشاء ولا يتقطعُ
ما أضيق الدنيا على ذي كربة 
حتى يرى أن المقابر أوسعُ
ما بين أحشائي تأجج في الدجى 
فكأنما للنار فيها منبعُ
وكأن هذا الكون أصبح شعلة 
والسجن قِدْرٌ فوقه يتلذعُ
وعبيدكم لحم وعظم قد غدا 
في ذلك القدر المسجر يوضعُ
هذي قوافينا إليك منيبة 
يعنو لها غضب الإمام فتضرعُ
ليست من القول الهراء وإنما 
هي مهجة ملفوظة تتصدعُ
جفت مدامعنا وغاض شعورنا 
والشعر في بعض المواضع أدمعُ
دع لي بقية مهجة أحيا بها 
إني لأرضى بالحياة فأقنعُ
دع لي لساناً عن جنابك ذائداً 
أو لا فعبد من عبيدك طيعُ
صلى عليك الله بعد محمد 
ما زال شعبك في نعيمك يرتعُ
لا زلت يا عرش الهدى بدراً ولا 
زال الهدى في عرشكم يترعرعُ
عذراً إن كنت قد أسهبت في الشعر وفنونه، فللشعر علي سلطان، لا حيلة لي في مقاومة صدق انسيابه، إنه يسكنني ويتوطن في فكري وعاطفتي، والفرع من معدنه لا يستنكر.

عودة إلى ذكرياتي والعود أحمد
كبرت أسرتي أولاداً وأحفاداً، وضاق بنا منزلنا الصغير أصلاً، فعزمنا على بناء طرحة جديدة فوقه للتوسع، فاستأجرنا منزلاً نسكنه حتى يتم البناء، وبالفعل انتقلنا إلى بيت هاشم، وكان زفاف ابنتي أمة العزيز على السيد حسين بن محمد الكبسي، ثم سفرها برفقة زوجها إلى مدينة حريب.
وما كان لفرحتي أن تدوم، وكأن لعنة تطارد سروري، تقيد روحي نحو الحياة والسعادة، فإذا طارق الليل ينقر على باب بيتنا المستأجر طرقاً عنيفاً، وبادر الأولاد لاستطلاع من الطارق الزائر في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وفوجئنا بأنه العقيد عبد الله السلال، وبصحبته ثلة من العساكر. 
سأل السلال عن زوجي، وأين هو. 
وكان جوابي: في غرفة نومه نائم ومستغرق في النوم. 
طلب مني السلال إيقاظه، لأنه تحت الاعتقال، وعنده أمر بنقله إلى السجن. 
وقلت له: في الصباح إن شاء الله يكون الخير، فرفض، إنما أصر على اصطحابه إلى حيث أمر. 
فأبديت له نوعاً من الصلف وعدم السماح له بدخول المنزل، وتصديت للعساكر، وصمدت ضد محاولاتهم، ولم يجرؤ أحد منهم على القيام بأية حركة يبدر منها العنف، بل اكتفوا بمحاصرة المنزل من جميع الجهات، وفرضوا على المنزل رقابة صارمة. 
وفي الصباح أيقظت زوجي، وأعلمته بما حدث في الليلة الفائتة، فتلقى الخبر ببرود الأعصاب. 
وقال: لا مانع فإني أستسلم للأمر، ويقضي الله أمره، فلا علم لي أني ارتكبت ما أستحق معه الاعتقال. 
وبالفعل، فقد سلم قدره إلى باري العباد، ولم تطل مدة اعتقاله، وأطلق سراحه، وعاد سالماً، وقد عرفت أن سبب اعتقاله إنما كان بسبب وشاية كاذبة من بعض العيون، هدفها فصم علاقات القرابة. وربما معناها أنه ينحاز إلى المولى الحسن دون ولي العهد البدر، وكانت تهمة كاذبة باطلة. وإثر ذلك غادرنا إلى هجرة الكبس الكائنة في مشارق صنعاء على بعد 30 كم، وهي موطن أجداد زوجي. 
أثار اعتقال زوجي هواجس في نفسي، فقلت: لم لا ترعوي المصائب من الإسراع إلي، فقد امتحنت وصبرت وصبرت، وبينما أنا في أتون التفكير فاجأتني زوجة أخي الحسين، رحمها الله، بزيارتي لمواساتي في اعتقال زوجي واستقصاء ما حصل، وكانت يرحمها الله مسموعة الرأي، يستجاب لها بين كل أفراد الأسرة لحنكتها ورجاحة عقلها، ولكن الغمة انقضت وما أسرعها، وأبطل الله أقوال المبلسين. 
في هجرة الكبس وضعت ولدي الصالح إبراهيم، واستقبلنا قدومه بفرح عظيم، وفيها احتفلنا بزواج أولادنا أولاد زوجي الولدين محمد وحسين. وفي هجرة الكبس أيضاً أنجبت أمة العزيز وليدها الثاني خالد، وفي غمرة المسرات والعائلة تزيد بنين وبناتاً، وما هو إلا حين من الدهر ويصاب زوج ابنتي أمة العزيز بمرض ينتقل على أثره إلى الرفيق الأعلى. 
حكمتك يا رب العالمين، أتضرع إليك، اللهم ارزق ابنتي صبراً كما أنزلته على أيوب عليه السلام، اللهم زدني صبراً جميلاً، وكفاني أن تكون مستغاثي. 
وعدنا إلى صنعاء حيث كانت وظيفة زوجي، وعشت وأولادي وأحفادي في بيتنا، زوجي هو الأب للجميع، أولاداً وأحفاداً، ذكوراً وإناثاً، وكان عند حسن الظن، ونعم الأب كان. 
يتبع العدد القادم