مثلما تورق الكروم وتزهر في الروابي؛ تورق أغنياته فينا وتخضرُّ حباً، وتزهر عشقاً.
ومثلما تتبرعم عناقيدها في قلوب محبيه وتثمر، تتعنقد فينا إبداعاته الفنية أشواقاً ومحبة.. حنيناً ولقاءً.. أنيناً وصفاءً.. ترانيم وجد، وألحاناً آسرة.
تغسل الأرواح، وتنقي القلوب، وتشفي أوجاعها.
تشجي النفوس الحائرة، وتطهر أحزانها.
مع كل نغمة حب، هفت أرواحنا، سفراً ورحيلاً، وفي كل ترنيمة شجن، هامت قلوبنا فرحاً وحزناً، تحملها تقاسيم لحونه الماطرة، نحو مدارب فيوضها، حين يشدو بجمال الكلمة وعذوبتها، ويزيدها عذب صوته الآسر رقة وانسياباً، وتمنحها رخامته رونقاً وبهاءً، ليسافر بنا نحو فضاءات الكلمة وعوالم رحابه، وصلاً وانكساراً، بوحاً وجرحاً، بلسماً وهياماً، تباريح عشق، وتسابيح محبة..!
في الجزء الثالث الخاص بأغاني تراثنا اليمني وإسهامات الفنان أيوب طارش فيه تجديداً وإبداعاً، تواصل (لا) نشر تفاصيل محطات أسفاره الجميلة سفراً سفراً ورحيلاً يليه رحيل، وفي كل محطة نتوقف فيها معه ونرتشف بعضاً من تفاصيلها.
وإلى جانب هذه الغنائية التراثية الجميلة، تأتي أيضاً غنائيته الأخرى (يا رعى الله أيام منها الدهر غار)؛ التي كتب كلماتها هي أيضاً هذا الشاعر الجميل نفسه؛ والتي لا تقل روعة وجمالاً في كلماتها ولحنها العذب عن أغنية (زمان الصبا)؛ وهي الأغنية الثانية للشاعر التي اختارها الفنان أيوب ضمن نخبة أغانيه التراثية التي شدا بها ـ كما يقول ـ في إطار مشروعه الشخصي وحبه لهذا التراث، وبحثه الدؤوب عن كنوزه الفنية بهدف إحيائه أو تجديده بنفس أدواته، بصورة تليق بهذا التراث الغنائي الجميل. وكلمات هذه الأغنية تقول:
(يا رعى الله أيام منها الدهر غار
والليالي تقضّت لنا أعراس
بالغنا والغواني وبالكأس المدار
في البكر والأصايل والأغلاس
والزمان لي مساعد على جلب المسار
واغتنام الهنا والتنفّاس
هكذا كل عذري مع خلع العذار
لا يبالي بما قاله الناس
يا فؤادي تصبر وهيم واحرق بنار
واضرب أخماس في مضرب أسداس
كم نصحتك وكم قلت لك خف القطار
قبل ما يحنب الفاس في الراس
وتحملت ما لا يطاق حمله فجار
وحملته على غير مقياس
وعشقت البنيّات الأبكار الصغار
سالبات الخواطر والإحساس
سامح الله من بالتجني والنفار
والتجافي وكثر التحماس
شل عقلي وهو راس مالي والضمار
وطواه في يديه طي قرطاس
من لوجدي وشوقي وأشجاني أثار
ظبي نعمان مسكيّ الأنفاس
من شهر من لحاظه لقلبي ذي الفقار
ورشق نبل من طرف نعاس
نور الإصباح بدر الدجى شمس النهار
ساجيَ الطرف من كل نبراس
من جمع في الخدود الندية ما ونار
وعليها من العين حراس
وابتسم عن لآلي عليها الخمر دار
يسكرك من لماه لا من الكاس
منه كل الظبا إن ثنى جيده تغار
وله الغصن يسجد إذا ماس
يا حبيب راقب الله وخل الاعتذار
ما عليك عار في الوصل أو باس
فإن تساعد محبك بوصلك فالبدار
وإن تمنعت فاقطع له الياس
وأنت داري بأني قليل الاصطبار
ليس لي صبر أيوب وإلياس
وأنت أنت المقلد بظلمي والضرار
والغريم يوم يحشر الناس)
أما الابن الثاني فهو الشاعر القاضي محمد عبد الرحمن الآنسي، الذي يعد من أهم شعراء القصيدة الغنائية أو ما يسمى الموشح اليمني أو الشعر الحميني، وله أيضاً مساجلات عديدة مع أخيه الشاعر أحمد، تغنى بقصائده الغنائية العديد من الفنانين أبرزهم المسلمي والفنان القدير محمد سعد عبدالله، بالإضافة إلى الفنان أيوب طارش الذي تغنى له بقصيدة جميلة تقول كلماتها: 
(السعيد الذي ما عرف كيف الهوى 
لا الذي فيه قد صار ناشب
فاحتكم له سواء كان حكمه أو غوى
فالمحبة لها أمر غالب
تجعل السمح معوج والمعوج سوى
أمرها في الخواطي صوائب
ما بها ضعف يرحم ولا ينفع دوا
فاسأل اسأل أهل التجارب
كم ملك صار لما عشق يشكو النوى
بعدما كان يدفع نوائب
ويرى أن ملكه وجملة ما حوى
محتجر في عيون الحبائب
بعد ذا وامغرد على بان اللوا 
كل هذا غرائب عجائب
أنت تبكي على غصن استوى
وأنا أبكي على غصن كاعب
غير ما لي سوى الصبر يا المضنى دوا
إن في الصبر حسن العواقب
لا لنا الخلق لكن لمن شق النوى
يقبل التوب ممن كان تائب)
ومن روائع وجماليات الشاعر القاضي (الآنسي الأب) وإبداعات ابنيه الشاعرين القاضيين أحمد ومحمد عبد الرحمن بن يحيى، إلى شاعر الشوق والحنين المعلق بحبل جمال الحب والغواني؛ الشاعر المميز (علي بن أحمد محمد إسحاق)، حفيد الإمام محمد بن إسحاق أحد علماء اليمن وشعرائها المميزين الذين أسهموا في الشعر الحميني.
وتعد قصيدته الشهيرة (وامعلق بحبل الحب) إرثاً فنياً في تاريخ الأغنية اليمنية واللون الغنائي الصنعاني تحديداً، وقد تغنى بقصيدة هذا الشاعر الجميل، المتوفى عام 1805، الكثير من فنانينا، ومنهم الفنان الكبير أيوب طارش الذي أبدع إبداعاً لا مثيل له في غناء هذه القصيدة وصوتها الصنعاني، كما أبدع من قبل في غناء غيرها في مختلف ألوان تراثنا الغنائي. وكلمات هذه الغنائية الجميلة تقول:
(وامعلق بحبل الحب إن كنت ترتاح 
للغواني مثالي 
لا تبالي بروحك في هوى الغيد إن راح 
أو تقل ذاك غالي 
إن قلب المعنى طار من غير أجناح 
في هوى ظبي حالي
قامته إن تثنى كالعوالي والأرماح 
أو طلوع الهلالِ
والجبين إن بدا لي قلت ذا نور الإصباح
في سواد الليالي
في خدوده وصدره ورد قاني وتفاح
سلسبيله دوالي
وابتسامه تظنه كالبوارق إذا لاح 
والثنايا لآلي
وشذاه إن تنفس عطر أو مسك نفّاح 
والقمر إن بدا لي
ما سماع المزاهر لا ولا خمر القداح 
مثل نطقه حلا لي
والتصبر على هجر المليحات يا صاح 
مر لكن حالي
والتذلل في باب الغيد للوصل مفتاح 
ليس من عز سالي
ليس لي ذنب إلا الدمع في الخد سفّاح 
أنت أشفق بحالي
لا ينال الأماني غير من كان سمّاح 
بالجفا لا يبالي
وأنت طولت حبل الهجر يا روح الأرواح
ما فؤادك رثى لي
والصلاة تبلغ المختار ذو الفضل ما ناح 
طير في غصن عالي)
وفي المقابل لهذا الجمال تأتي أغنية (يا من عليك التوكل والخلف) للشاعر محسن بن محمد علي فايع، من شعراء القرن الـ12 هجري الـ18 الميلادي.
يقول عنه زبارة في كتابه (نشر العرف) إنه كان شاعراً جيداً يقرض الشعر لاسيما الغزلي منه، وعالماً ومصلحاً اجتماعياً ومحسناً ومعيناً للفقراء والمساكين ومدرساً لطلاب العلم، وقد بنى العديد من المساجد في مدينة صنعاء.
ولاه الإمام العباس بن الحسين على مدينة جبلة، وكذلك على مدينة زبيد، إلا أنه استقال منها، وتفرغ للعمل الخيري وتدريس القرآن الكريم، وتفقد أحوال الفقراء وإعانتهم وقضاء حوائجهم. توفي في صنعاء عام 1781م، ودفن فيها في مقبرة الروض.
يقول أيوب إن عدداً غير قليل من الفنانين اليمنيين قديماً وحديثاً، تغنوا بهذه الأغنية التراثية، وهي أغنية قديمة وطويلة في عدد أبياتها الشعرية التي تتجاوز الأربعين بيتاً، وقد كانت تقدم في حفلات الأعراس في عدن، إلا أنها كادت أن تنسى وتندثر كبقية الأغاني التراثية وألحانها الجميلة، لذلك كان اختياره لها ـ ضمن أغانٍ تراثية أخرى ـ للحفاظ عليها وعلى لحنها التراثي الجميل الذي توارثته أصوات الأجيال الفنية جيلاً بعد جيل، ويعد الفنان أيوب أجملهم، فبالرغم من أنه عند تقديمها لم يغير فيها ولا في لحنها، إلا بشكل طفيف جداً، وبما يتوافق مع خامة لحنها الأصل، إلا أن السامع عند مقارنته لكل الأصوات التي تغنت بها سيجد أن أيوب قد أعاد للحن هذا الأغنية روح التجديد، وبعث في مقاطعها الرائعة حياة التجدد كما هو حال هذه المقاطع التي اختارها وقام بتقديمها للجمهور من هذه الغنائية الجميلة التي تقول: 
(يا من عليك التَّوكُّل والخلف
يا من لك ألطاف فينا سارية 
يا من إذا تاب عبدك واعترف
تغفر جميع الذُّنوب الماضية 
نسيم بلِّغ إلى الروضةِ شرف
سلام يُزري بعرف الكاذية
إلى قضيب الرشاقة والهيف
الخشفِ مولى العيون السَّاجية 
مَن سَهمها لِلمُهج يرمي نَصف
يريم ورود الخدود الزَّاهية 
مُكمَّل الحُسن يُعجز من وَصف
مَن حاز في المجد رُتبة عالية 
إن هزَّ لَك رمح قدِّه وانعطف
وصافحك بالصِّفاح الماضية 
فقبِّله قُبلتين في كُلِّ كف
وأربع قُبل في الخدود مِتوالية
وإن قال علمك كما اللُّقيا صُدف
مادام عين المراقب ساهية
قل له مُحبَّك تِقلص وانحرف
حين جت له أخبار ما هي شافية 
قالوا كثر من لديك المُختلف
إلى مواطن وخيمة واطية
والحُسنِ كالمال يفنيه السَّرف
ويذهِبُه ما يبقِّي باقية
والجهل كالبحر يغرف من غرف
توَّهت فيه كم مِن ساعية
لمَه لمَه مال طبعك واختلف
وأنا أعهدك إن نفسك سامية
وصاحِب النَّفس يوردها التَّلف
إن لم تكُن لِلمعالي راضية
هل صاحب الأمر تلقى فيه شف
يسكن محل الخدم والحاشية
ذهبت في البز واخترت الملف
قطفت في القطف غير الرابية
ومن بنفعه وضره ما عرف
فهي عليه الحقائق خافية 
ومن تهاون بنفسه واستخف
لابد تمضي عليه الكاوية 
ومن حضر موقف التهمة وسف
مدامة الكاس باع العافية 
من ينقذه من يرده إن هتف 
وأين أين الجبل يا سارية 
فمن يخاف النَّدامة والأسف
يلبس مِن الحِرز قُلدة واقية
والنذل إن لاحت الفرصة وقف
ما عاد يراعي لبيعة ثانية 
والدُّرِّ ما يستوي هو والصدف
وإن جُمِع فالرُّتب متنافية
وأزكى صلاتي على مولى الشَّرف
طه مُحمد إمام الناجية 
وآله الغُّرِّ سادات السَّلف
والصحبِ ما هب فوج الذَّارية)