حين تستبدُّ اللوحة، وتصيرُ عبئاً على الريشة، فإن لغة الخبز هي الأعلى صوتاً، تجعلُ عاشق الريشة يبحثُ عن بديلٍ لها، ليعود إليها حالما يجدها، ذلك هو الفنان التشكيلي عدنان جمّن، الذي عُرف بفنه ولوحاته في الوسطِ الفني، حيث تفاجأ به جمهوره الفني وهو يبيعُ الطعام الذي تطبخه زوجته، ليتغلبا على الوضعِ الاقتصادي، والحصار الجائر الذي فرضته دول العدوان على بلادنا طيلة 3 أعوام، حالته تلك ليست هي الوحيدة، بل هناك أيضاً الكثير ممن يمتهنون الفن التشكيلي، أخذوا منه الفكرة، كفنانات تشكيليات يبعن الحلويات بالمحلاتِ الصغيرة، وهنا استضافت (لا) جمّن كنموذج، والتقته هو وزوجته، جمّن أكد أن فكرته تركزت حول كيفية التغلبِ على الوضعِ المعيشي فقط، وتحولت إلى مطعم صغير يحمل اسم (أكل بيتنا)، تميزا ببيعِ الأكلات العدنية الشهيرة ذات المذاق المميز، رغم أنه قد لا يبيع أحياناً إلا نصف الكمية، مما اضطره أحياناً لإغلاق محله الصغير... تفاصيل أكثر خلال السياق.
من اللوحة إلى (أكل بيتنا)!
تشدك دماثة أخلاقه وهو يرحبُ بك بحرارةٍ في محله الصغير الذي حمل اسم (أكل بيتنا)، لا غرابة في من سكنته روح الفنان، أن يقدم خدمته لزواره بحبٍّ وأناقة كبيرة... حملتُ أوراقي وأنا أفتش عن المكان، واتجهتُ أسأل عن ذلك المطعم الذي صار حديث الأوساط الثقافية والفنية، التقيت التشكيلي جمن ليوضح لــ(لا) وقرائها عن قصة تحوله من الفن إلى بيع الأكل العدني الشهير، فيقول: أنا قبل كل شيء فنان تشكيلي، ومصمم جرافيك، وكان شغلي الأساسي الذي أعيّش عائلتي منه (الرسم)، وبسبب الحرب والوضع الاقتصادي ساءت الظروف، خاصة أن المنظمات الدولية مع الأوضاع صارت تشتغل في الجانب الإغاثي، والطوارئ، فخف الدخل لدي إلى أن انتهى بالنسبةِ لي كرسام مع المنظمات في مجال الرسومات التوعوية، كالتحصين، والتوعية الصحية، لأن معظم مصدر دخلي من الرسم مع المنظمات توقف، بسبب أن هذه المنظمات توجهت للأعمال الإغاثية بالدرجةِ الأولى، أما التوعوية، والبوسترات فقد اختفت من اهتمام المنظمات، وفي هذه الحالة كان عليّ أن أفكر بحل.

زوجتي (طاهيةٌ ماهرة)
يحكي جمّن أن الفكرة خطرت بباله وهو في قمة (الحِراف) والمعاناة، ويباهي أن زوجته بالأساس طباخة ماهرة، فعرض عليها الفكرة، حيث قال لها: ما رأيكِ ونحن في موجةِ حراف نفكر بعملٍ كــ(بيع الأكل من البيت)، خاصة أن الفكرة موجودة في أكثر من دولةٍ عربية، فقمتُ حينها بعمل التصميم، واستلفتُ 100 دولار من أحد أصدقائي، واشترينا بعض الأشياء التي نحتاجها، و(مقاضي)، وبدأنا العمل من ثاني يوم والحمد لله.
ويضيف أن فكرته انتشرت بين الناس، وأنهم صاروا يتحدثون عن الفنان التشكيلي عدنان جمّن الذي يبيع الأكل من البيت، وأنهم شجعوا فكرته ويقولون: (يلا نساعده)، بينما آخرون اكتشفوا أن هناك جهداً كبيراً وراء صناعة هذا الأكل، وليس فقط لمجرد شخص يريد أن يعيش، فأعجبهم الأكل، لأنه نظيف، ومذاقه حلو، والخدمة نظيفة، والسعر في متناول الجميع.

بنت ناس
يتحدث جمّن بمرارة أنه عائل البيت، ومن يصرف عليه قبل سوء الأوضاع الاقتصادية، بينما تحول الأمر إلى زوجته التي صارت تعيل البيت، فيقول: لأنني لا أريد أن أتعب زوجتي، عملت لها عملية المرارة، واكتفينا بعمل وجبة واحدة في اليوم، من الوجبات العدنية الكثيرة جداً، فعملت القائمة وأرسلتها لأصحابي بالفيسبوك، ومعظم تلك الأكلات لوجبة الغداء فقط، لكي تتخصص زوجتي بإعدادها وتبدع فيها، واشتغلنا على هذا المنوال لمدة 4 أشهر، جمعنا خلالها مبلغاً بسيطاً، ودفعنا إيجار البيت، ولكن زاد العبء على زوجتي، لأني كنت أنا المعيل.. وبعد برهةِ صمتٍ يستدرك جمّن: مسكينة هي الآن أصبحت من تعيل البيت، وكان الوضع بالنسبةِ لي مؤلماً، لأنني طول عمري أنا أعيلها هي وأولادها، غير أنها بنت ناس وأصيلة صمدت وعانت الكثير، فاستلفنا فوق المبلغ الذي وفرناه، وفتحنا محلاً صغيراً نبيع منه الأكل، وصرنا نستقبل فيه زبائننا، وبدأ الناس يتوافدون، ويتذوقون الأكلات العدنية: زربيان، سمك، طفاية، وغيرها، أكلات متنوعة شعارها النظافة، وتجسّد عبارة (أكل بيتنا)، وأنها ليست مجرد اسم أو شعار، وإنما اسم على مسمى، لأنه أكل بيت، والنظافة هي الأساس، والأسعار معقولة.
 
30 وجبة باليوم
يوضح جمّن لقراء (لا) أنه بعد تنفيذ تلك الفكرة تحسنت أوضاعه المعيشية، وتمكن من الوفاء ببعض إيجارات البيت المتراكمة عليهم، يستدرك: لأننا نعمل وجبات محدودة في اليوم، تصل إلى 30 وجبة، وفي أحسن الأحوال 40 وجبة، ومن هذا الدخل اليومي يخرج إيجار المحل و(المقاضي)، وأجور العمال، وما تبقى النزر اليسير، وبالأساس أنا لا زالتُ أرسم، لأنني سابقاً كنت أبيع معظم لوحاتي للأجانب، ومصمم جرافيك، بالإضافة إلى تصميم اللوحات التجارية للمحلاتِ الكبيرة، والمنظمات الدولية في مجال التصميم التوعوي.

صار جزءًا من حياتنا
اللوحات الفنية التي هي جزء من حياة وشخصية الفنان المبدع جمّن، أيضاً المطعم الصغير الذي صار يساعده على مواجهة معاناةِ الحياة ووضعها الاقتصادي، صار جزءاً من حياته وحياة عائلته، فقال: صرنا كل يوم نبكر صباحاً، وقبلها بيوم نشتري مقاضي، لأننا نعتمد على دخل اليوم الواحد، ونشتري مصاريف يوماً بيوم، لأننا لا نستطيع توفير ذلك بكميات كبيرة، فالوضع لا يسمح وحتى أوضاع الناس سيئة، ففي بداية فتح المطعم، كان يأتي إلينا الموظفون والإعلاميون ليتذوقوا أكلاتنا العدنية، وبعضهم كانوا يأتون، واختفوا بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يعاني منها الجميع، فأكثرهم قد لا يستطيع توفير أكل يومه، وأحياناً لا نبيع إلا نصف الكمية، وأحايين أخر لا نلاقي مصاريف اليوم التالي، ونضطر لإغلاق المحل، وحدثت معنا الأسبوع الفائت، وكانت الظروف صعبة جداً، وتلك قصة كفاح بدأت ولم تنتهِ.

حاجز الخوف
لم تفوّت (لا) على قرائها اللقاء بصاحبةِ المذاق الرائع، والدينامو المحرك لذلك المطعم الصغير، والتي اشتهرت بين زبائنها بــ(أم ماجد)، تصف شعورها عن نجاح فكرتهما التي بدأت من المنزل، وتقول: سعيدة للغاية بالطبع، لكن كل ذلك وراءه الكثير من التعب والجهد، ومازلنا في بداية المشوار..
وعن ردة فعل من حولها وهي تكسر حاجز الخوف بتنفيذ الفكرة على أرض الواقع، قالت: الجميع استحسن الفكرة وباركها، بل ونوعية الطعام بنظام الوجبة الواحدة يومياً كان شيئاً خارج المألوف. وهنا تقصد أن مطعمهما الصغير ليس كبقيةِ المطاعم التي تعتمد نظام 24 ساعة.

نطمح لسترِ الحال
وتتحدث أم ماجد عن زوجها الفنان عدنان جمّن بقولها: شريك حياتي كان هو من يتكفل بكل شيء قبل هذه الأزمة، وهو رجل عزيز نفس ومكافح، وواجبي أن أساعده وأساعد نفسي وأسرتي.. الحياة الزوجية تكافل وليست اتكالاً.. المرأة اليمنية من أقوى النساء العربيات شكيمة، وأنا أعرف كثيرات فعلن ما فعلت وأكثر لينتشلن أنفسهن من دائرة العوز..!      
وتختم عن طموحاتهما المستقبلية عن المشروع، فتقول: صدقيني لو قلت لك إنني لا أطمح حالياً سوى إلى الستر فقط، طالما نغطي مصاريف يومنا في هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها بلادنا الغالية، والتي نرجو أن يفرجها الله علينا بالخير، فإننا نحمد الله.