علي نعمان المقطري / لا ميديا

إن الإدارة الأمريكية هي التي تشكل القيادة الاستراتيجية للعدوان، وهي الآن قيادته العليا العامة في الميدان الرئيسي، ومن يفشل الآن في الميدان ليس السعودي ـ الإماراتي، بل هو الأمريكي ـ الإسرائيلي مباشرة، ولم يعد أمامها إلا القبول بصفقة (الحاصل) المتوفر على الأرض كما هو الآن، فالوقت في غير صالح العدوان الخاسر، إنها صفقة مؤقتة تناصف ما هو قائم بين الطرفين المتصارعين بصفقة سياسية تحفظ ماء الوجه للسعودي الأمريكي، تقاسم النفوذ السياسي الاستراتيجي للإقليم محل النزاع، وإن كان ذلك مستحيلاً من جانب الوطن وقواه فإنه يريد استثماره في صفقة هدنة سياسية مؤقتة تعطي الطرف العدواني وقتاً لمداواة جراحاته الراهنة التي أصابت الرأس بالمعنى المادي المباشر، فلم يعد هناك من يقود المعارك والحرب والعدوان سوى المنطقة الأمريكية الوسطى وإداراتها، وبعد فضيحة المنشار وجريمة قتل خاشقجي الوحشية التي أفزعت العالم الغربي، أصبحت مناشير سلمان وبنيه أشباحاً تقض مضاجع الرأي العام الغربي، وتفضح بلا حياء الطبيعة الحقيقية لسياسييه وقادته ومدى بشاعتهم.

هل العدو مستعد للاستمرار في الفشل؟
وتتقاطع تلك الفضيحة مع الحروب الذاتية السياسية والانتخابية والبرلمانية المؤجلة بين ترامب وخصومه في الإدارة والمخابرات والقضاء والبرلمان ومجلس الشيوخ والنواب والديمقراطيين والجمهوريين والصحافة والشركات والمؤسسات المتنافسة التي تطمح إلى إمبريالية تروج للنموذج والنمط الأمريكي، وليس للقوادين والمقامرين ومستثمري بيوت الدعارة ورؤساء العصابات الكبرى وأجلاف أمريكا الأسوأ في التاريخ.
ما هو مؤكد الآن هو أننا سنشهد خلال أشهر معدودات فقط عدة تطورات وأحداث مدمرة للبنية العدوانية في مستوياتها العليا، ولا يعني أنها سوف تقدم بديلاً أفضل للحرب العدوانية الحالية، بل ما سيحدث هو العكس، فبعد فشل مغامرته العدوانية فإن العدو ليس مستعداً للاستمرار في المسار الفاشل الحالي، ومعنى هذا إما أن يوقف أسلوب المواجهات الحربية الميدانية التي يخسرها، أو أن يرسل بقواته لإيقاف الهزيمة المروعة التي تنتظره، وهذا الخيار صعب وانتحاري، ويحتاج إلى إعلان من البرلمان الأمريكي، وهذا غير متاح الآن للإدارة الحالية، فالغالبية أصبحت ضد ترامب وإدارته، وهناك مستجدات أفرزتها الجلسة البرلمانية المغلقة المخصصة للاستماع لشهادة مديرة الاستخبارات الأمريكية التي تحدت ترامب في إدانتها الصريحة لابن سلمان في جريمة قتل الصحفي السعودي خاشقجي، كما أن أغلبية مجلس الشيوخ الأمريكي عبروا عن تحديهم لسياسة ترامب ومواقفه، وشككوا وطعنوا في نزاهته المالية، وكالوا الشتائم الوقحة لأول مرة لابن سلمان، وأجمعوا على إدانته، وربطوا بين جريمة قتل خاشقجي وبين حربه في اليمن، مما يعني إعادة النظر في دعم سلمان وابنه.
وإذا افترضنا أن حاكماً جديداً سيأتي إلى السعودية الآن أو بعد أشهر أو عام، فالمؤكد هو أن البديل سيأتي حتماً، إلا إذا انفجر صراع طويل داخل الأسرة الحاكمة، وهنا سيكون على الإدارة الأمريكية الإمساك بخيوط اللعبة، ولن يكون البديل إلا مطابقاً للحالة الأمريكية الجديدة التي لا تزال في بدايتها، لكنها تكشف عن أبعادها من خلال ترشيح رجلها المقبل وإرساله إلى الرياض، وهو الآن يعمل حثيثاً على تجميع الخيوط بين يديه، ويحتاج إلى الوقت والدعم، ولن يستمر موقف ترامب على ما هو عليه الآن، فهو ملزم بأن يواكب مزاج الكونجرس والرأي العام الأمريكي الذي بدأ يتسع بعد الانتخابات النصفية.

الهزيمة المدوية لأكبر دولة عسكرية في العالم
الفشل العسكري المتوالي والمتكرر للعدو أمام الحديدة وفي الساحل الغربي قوض الإدارة الأمريكية التي تقود العدوان، كما أن أجواء الهزيمة المدوية لأكبر دولة عسكرية في العالم وضعتها أمام حقيقة وضعها الاستراتيجي وميزان قواها الحقيقية على الأرض، مما يظهرها عارية مكشوفة أمام القوى المنافسة في المنطقة والعالم، ويذهب بهيبتها ويدحر وجودها الاستراتيجي القديم الذي كان قائماً على توازنات القوى، فلم يعد الآن للولايات المتحدة وحلفائها تلك القدرة على السطوة والبطش والتحدي التي كانوا يتمتعون بها في القرن الماضي، مما يعني أن هناك تغييرات طرأت على موازين القوة لم تكن موجودة في السابق، مما يجعل القوة الأمريكية تمر بمرحلة من الضعف والانحلال جراء تراكم الهزائم العسكرية والسياسية أمام محاور المقاومة الممانعة في الشرق الأوسط والمنطقة.
وهناك مجموعة من الشواهد تبرز في المنطقة تدل أكثر على هذه الحقيقة وتؤكدها، وأهمها:
1. إعلان أمريكا سحب قواتها من سوريا قبل أيام وترك المنطقة لوكلاء محليين يقومون نيابة عنها بالدور المطلوب، نتيجة عجزها المدوي أمام محور المقاومة وما حققته من انتصارات على أدوات أمريكا وحلفائها من أمثال السعودية والإمارات وقطر والقاعدة وداعش وبقية الأدوات.
2. انفضاح وقوف محمد ابن سلمان وراء قضية اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول التركية، وما أحاط بالجريمة من ممارسات بشعة أرعبت الرأي العام الأمريكي والغربي والعالمي عموماً.
3. فضح دور الرئيس الأمريكي ترامب وصهره في التعصب لابن سلمان وملاحقتهما للصفقات التجارية الشخصية على حساب أمن ومصالح أمريكا والغرب، ومحاولتهما حجب المعلومات المخابراتية الحقيقية عن دور ابن سلمان في جريمة القتل البشعة.
4. انعقاد مجلس الشيوخ الأمريكي ووضع مشروع قانون يدين ابن سلمان لإصداره الأمر بقتل خاشقجي وفقاً للتقرير المخابراتي المعروض على المجلس، وتشريع قانون ملزم لترامب بوقف كل أشكال الدعم الأمريكي للسعودية في الحرب على اليمن، ووقف صفقات السلاح إلى السعودية والإمارات، وهو ما يعني أن الغطاء السياسي الاستراتيجي الدولي للعدوان السعودي الإماراتي على اليمن أصبح غير موجود، وهو ما يعني عجز ترامب عن المضي قدماً في قيادة العدوان واستمرار دعمه من وراء قرارات الكونجرس حسب النظام الأمريكي الراسخ.
5. اقتناع غالبية أعضاء الكونجرس والشارع الأمريكي بأن انتكاسات أمريكا المتوالية في المنطقة سببها ترامب وابن سلمان وابن زايد والسياسات المتطرفة التي تتبعها الإدارة الأمريكية، وأن هزائمها في الميادين أضحت نهائية غير قابلة للتعديل والتعويض كما كانت خلال الأعوام الأربعة السابقة، وغير قابلة للإخفاء خلف دعوات مختلفة أضحت مفضوحة.
6. تأجج الصراعات داخل الأسرة السعودية الحاكمة، كما أن افتضاح حقيقة ابن سلمان ودوره البشع في جريمة خاشقجي كسر الصمت القديم حول الجرائم ضد الإنسانية في اليمن ودور أمريكا في العدوان وقيادته.
7. انتخاب سلطة تشريعية جديدة في أمريكا أغلبها معادية لترامب وسياساته، خاصة في رفضها للدور الأمريكي في العدوان على اليمن، ورفضها أيضاً سياسة التوتر مع إيران حول الملف النووي وصفقة القرن وحصار قطر والعلاقات الدولية المتوترة مع العديد من الدول، كلها مواقف مبنية على حسابات المصالح الاستراتيجية العليا لأمريكا كأمة ودولة.
8. خسارة ترامب التأييد داخل مجلسي النواب والشيوخ تعني أن أغلبية الجمهوريين قد نفضوا يدهم من ترامب وإمكانية إعادة ترشيحه للانتخابات القادمة في المنافسة مع الديمقراطيين الصاعدين الآن بقوة، ويحظون بأغلبية محترمة في الكونجرس، لأن ترامب تورط في الكثير من المصائب، وأضحى حصاناً أعرج لا يقوى على المنافسة في أي سباق قادم، بعد تلوث سمعته، وتنتظره الكثير من الفضائح التي مازالت ملفاتها مطوية لدى عدد من المحققين، وهي ضمن خطط حرب سياسية تجري وتفتح حسب التقدم نحو المعارك الكبيرة في المجال السياسي الداخلي، ولن يكون أمامه سوى الترشح مستقبلاً كما فعل المرة السابقة، ولكن حظه ميئوس منه الآن بعد كل هذ التطور المليء بالعار والشنار، فلم يصل من قبل رئيس قبيح ووقح وقميء السلوك والسياسات مثله إلى البيت الأبيض.
معاني هذا الواقع على العدوان وعلى الحرب الرئيسية في الحديدة والساحل الغربي هي: أن العدوان وقيادته الأمريكية السابقة في ظل الإدانة الشاملة في الكونجرس والصحافة والرأي العام، سيكونون في وضع صعب جداً لا يستطيعون ممارسة اللعبة السابقة بأمان، ولا يستطيعون تقديم المزيد من الدعم الأمريكي للعدوان وقيادته، ولا مزيد من الصفقات الضخمة للأسلحة الأمريكية المتطورة والدقيقة، وإن فعلوا فسيقعون تحت الرقابة والمحاكمة البرلمانية، لأن كلاً من المخابرات الأمريكية والدولة العميقة تريدان الآن فضح ترامب واضعافه بعد جرائمه الأخيرة، وتسهيل التخلص منه، وهو نفس الدور الذي فعلته مع نيكسون قبل إسقاطه وطرده من البيت الأبيض قبل نهاية مدته القانونية.

تجريم ابن سلمان وتحريم العلاقات معه
إن تجريم ابن سلمان وتحريم العلاقات التحالفية معه ومع السعودية مادامت تحت قيادته، يعني أن ترامب وابن سلمان لا يستطيعان القيام بأي تعاون مشترك بينهما في العدوان، وعليهما التراجع سريعاً عن جميع الخطوات التي تمت خارج القانون الأمريكي، وهي كثيرة، بما فيها قرار الحرب ومبرراتها والأسلحة المحرمة دولياً التي تم منحها للسعودية واستخدمتها في العدوان على المدنيين في اليمن وبأوامر من ابن سلمان وأبيه مباشرة، وهي موثقة لدى المؤسسات الدولية، وتضع أمريكا أمام المساءلة والمحاسبة والمسؤولية القانونية ولو بعد حين، علماً أن أحد الأسباب التي دفعت ابن سلمان لارتكاب جريمة مقتل خاشقجي وتقطيعه، هي جمعه مواد موثقة حول استخدام السعودية أسلحة محرمة في اليمن، وتسجيلات لتعليمات ابن سلمان التي يوجه فيها باستخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين لترهيب وترويع المدنيين اليمنيين وإخضاعهم للعدوان السعودي، وهذا ما كشفته قبل أسابيع صحيفه (الإندبندنت) البريطانية.
إن كل خطوة جديدة لتأييد ابن سلمان من ترامب بعد القرارات البرلمانية الأخيرة، تعني خطوة أكبر نحو سقوطه المدوي، وهناك ملفات قابلة للفتح لاحقاً، ومنها الرشاوى التي تسلمها ترامب من ابن سلمان له ولأسرته ولأعضاء مقربين له في الكون
جرس مقابل مساعدته في الحصول على تأييد الإدارة الأمريكية للسعودية لمواصلة حملتها المتوحشة على اليمن ولتسهيل وصول ابن سلمان إلى سدة الملك. إنها لعنة الدم، وهي لعنة تشبه لعنة فيتنام على أمريكا ورئيسها آنذاك نيكسون، وهذه يمكن تسميتها لعنة ابن سلمان والمنشار، وتذكرنا باضطرار الرئيس الأمريكي نيكسون إلى التخلي عن تأييده للجنرال الفيتنامي العميل في جنوب فيتنام وللحكومة العميلة التي ظل الأمريكيون 10 سنوات يدعون شرعيتها، وأنها تمثل الشعب في الجنوب، وأن الشمال شيوعي مع السوفييت معادٍ لأمريكا وامبرياليتها وأطماعها، وأنها خطر على الأمن القومي الأمريكي وعلى القيم الأمريكية.. كل هذا تبخر في ساعات بعد أن كشفت وسائل الإعلام واقعة تجسسه على مقرات الأحزاب المعارضة في أمريكا نفسها، مدللاً بذلك على مخاطر الفساد الرئاسي على أمريكا نفسها ومن داخلها.
ظهور التقرير العدلي الذي أعده القاضي مولر المحقق العام في القضايا الموجهة كتهم محتملة ضد ترامب، والتي بدأت بإقالة وسجن المحامي الخاص بترامب والحكم عليه بالسجن عدة سنوات، وهي تهم متهم بها ترامب نفسه، وهو ما يضيف إلى النار المشتعلة المزيد من الهشيم المستعر.
(*) المركز الاستراتيجي الوطني