بشرى الغيلي/ لا ميديا

الشارع المؤدي إلى بيتك يبكي خطواتك إليه، والشجرة التي تم اغتيالك تحتها تندبُ حظها العاثر أن كانت شاهدة على مسرح الجريمة... زوجتك الحنون تفتقدك حد اللهفة. أطفالك يترقبون طلتك بأرجاء المكان.
أن تحاول الغوص في خفايا وأسرار شخصية صحفية ووطنية مثالية ونادرة انتصرت لقضايا المظلومين والمسحوقين، وقلم قارع الظلم والفساد، من خلال تقارير حقوقية اعتمدت عليها كبريات الوكالات والصحف العالمية، التي انحازت للإنسان، ومع الإنسان فقط، فإنك ستظل في شاطئ بحر لا حصر لتفاصيله وثراء ما يحويه. ولقد عرفنا الكثير عن مسيرة حياة الشهيد الراحل عبدالكريم الخيواني، لكن ثمة خفايا وتفاصيل شخصية، كعاداته في منزله، وتعامله كزوج، وكأب، ما يحب وما يكره... وغير ذلك مما لا يعرفه إلا أقرب المقربين إليه. وهذا ما نحاوله من خلال هذا اللقاء الذي أجرته (لا) مع عقيلة الشهيد، السيدة إلهام محمد القشار، في أول حوار لها عبر الصحافة.
فتحت لنا بيتها وقلبها، واستقبلتنا بحفاوة معهودة بها منذ كان الراحل ما يزال على قيد الحياة، وتعاملها مع محبي الفقيد وزملاء مهنته. غصنا معها في أدق التفاصيل، لدرجة أن عُمّد هذا اللقاء بدموع موجعة، وكان موقفاً مؤثراً على التي فقدته سنداً، ورب أسرة في أوج عطائه وشبابه. لا أود الإطالة فكن عزيزنا القارئ مع تفاصيل ومفاجآت هذا اللقاء... 

كان مدرسة 
• أيمكنك سيدتي أن تحدثينا عن الجوانب الخفية في شخصية الراحل عبدالكريم الخيواني التي قد لا يعرفها أحد، أو يعرفها القليل من المحيطين به؟
عبدالكريم لو تحدثت عنه من الآن حتى بكرة فلن أستطيع أن أعطيه حقه من الوصف. كان إنساناً عظيماً بكل ما تعنيه الكلمة. وأنا شخصياً علمني أشياء كثيرة، علمني كيف أتعامل مع الحياة، مع أهله، مع الناس جميعاً، خاصة أنني تزوجته وأنا صغيرة، حيث علمني كيف أتعامل مع أطفالنا، ومعه شخصياً... كان بالنسبة لي مدرسة كبيرة، تعلمت منه الكثير والكثير جداً، فقد كنت الفتاة المدللة في بيت أهلها، وعندما عشتُ معه في بيت أهله عند خالته زوجة أبيه، لأن أمه كانت مطلقة حينها، وهو كان وحيد أمه وله إخوة ذكور من خالته، فعلمني كيف أعيش وأتأقلم مع هذه العائلة الكبيرة، وكيف أتعامل معهم جميعاً. وكان نعم المعلم بالنسبة لي.

زواج تقليدي
• كيف التقيتما قبل الزواج؟ وما هي تفاصيل هذا اللقاء؟
زواجنا كان تقليدياً. وبداية القصة أن أخته متزوجة عندنا في يريم ـ محافظة إب، وهو طبعاً من ذمار، وكان معنا عُرس أختي، وأخته التي هي متزوجة في تعز جاءت مع أختها التي في يريم ورأتني في العرس، ففاتحت أمي في الموضوع، وتم الرفض حينها، وبعد سنة عادوا وتقدموا لخطبتي مرة أخرى، وتكرر الرفض حتى في المرة الثالثة، حتى رأتني أمه عند أخته المتزوجة في يريم، وحينها كنت مع صديقتي فأرسلتنا إحدى الجارات لكي نجلب شيئاً من عند بنت الخيواني، فوجدنا أمه عندها، وبمجرد أن رأتني جلست تحدثني: عبدالكريم... وعبدالكريم... وأنا لا أعرف من هو هذا عبدالكريم! وكنت حينها ناسية الموضوع تماماً وأنه هو من تقدم لخطبتي وتم رفضه أكثر من مرة... فزواجنا كان عن طريق العائلة، لم أره أو يراني إلا ليلة الزفاف. بعد عقد القران حاول عبدالكريم رحمه الله أن يفتح باب التواصل معي، لكن دون جدوى. وكنت حينها أريد أن أسافر سوريا مع أخي وأختي وأكتسي من هناك للعرس، كون الملابس السورية كانت حينها هي الميزة لأي عروس، ولجودة البضاعة السورية، وبما أنني حينها كنت معقودة، لأن خطوبتنا وعقدنا كانا بنفس اليوم، وكانت حينها رغبتي بأن يؤجل عبدالكريم العرس كوني سأسافر معهم، فقال إنه سيؤجله في حالة واحد فقط، إذا اتصلت أنا وقلت له أجّل... هو كان متفتحاً، ونحن مع مجتمع يريم محافظ لدرجة كبيرة، فجاءت أخته وكلمته حينها بالتلفون الأرضي، فقال لها: تقول لي بصوتها كلمة واحدة: «أجّل» وأنا سأؤجل سنة لو تريد. مع أنه لم يكن أحد موجوداً أثناء المكالمة إلا أنا وأخته وأختي، ولكنني كنت محرجة جداً أن أكلمه قبل الزواج، ونتيجة لعنادي لم أسافر سوريا، ولم يتم تأجيل الزواج. 

يقومُ بواجباتي حين أقصّر
 • الشهيد الخيواني كأب، طريقة تعامله مع أولاده، وهل هناك أمور محددة كان يقوم بها، وأخرى كان يتجنبها في علاقته معهم؟ 
عبدالكريم باعتقادي لا يوجد أب في الدنيا مثله لأولاده، فمثلا أنا كنتُ أقصّر بحق أولادي، وهو يكمل ذلك النقص، فمثلاً الليل لا ينام، بينما أنا وكأي امرأة يأتي آخر الليل وأنا متعبة من أعمال المنزل، فكنت أنام، وعندما أكون نائمة كان عبدالكريم يقوم بالواجب، فيدخل إلى أولادنا في غرفهم، يدفئ هذا، ويغطي ذاك، ويغلق النوافذ المفتوحة من البرد، وكما يسميه التيار البارد، كان يخشى أن يصيبهم مكروه، وإذا مرض أحدهم يسهر معه حتى الصباح، وحتى في الصباح الباكر كان هو من يتفقد فطورهم أثناء ذهابهم إلى مدارسهم ويحرص على ذلك، وهو ليس إهمالا مني، ولكني مطمئنة أن هناك من يقوم بالواجب ويساعدني، وحتى خروجي أنا من البيت كان نادراً، لكي أجلس مع أطفالي وقتاً أطول وأعطيهم كامل الرعاية والاهتمام، ولم أكن أخرج إلا زيارات خفيفة إلى أهلي، كل ذلك حرصاً منه على عياله أن لا يصيبهم أي مكروه.

أجلسي جنبي لتفتحي نفسي
 • ما الذي كان يحبه أو يفضله، سواء في الأكل أو الملبس أو غيرها من الأمور الحياتية؟! وبالمقابل ما الذي كان يزعجه؟
أكثر ما كان يعجبه الأكلات الشعبية، تأتي السلتة والهريش في رأس قائمة اهتماماته، حتى أثناء مؤتمر الحوار الوطني ورغم الأكل الذي كانوا يقدمونه لهم في موفنبيك إلا أنه حينها كان يتصل لي ويقول: خلي حقي السلتة.
 سواء كان في ضيافة أحد، أو في مطعم، كان لا يفرط في السلتة... (وتدخل معها في الحوار ابنتها الإعلامية آلاء عبدالكريم الخيواني التي كانت بجوارها: والدي لم يكن يحبُ الأكل خارج البيت، وإن أكل في عزومة فإنه يأكل شيئاً بسيطاً ليعود بعدها إلى البيت ويأكل أكلته المفضلة، ومن كثر تعلقه بأكل أمي حدثت قصة أثناء ما كان معتقلاً في السجن المركزي وهو أول سجن له. كان أحد أصدقائه المقربين يأتي له بكل أنواع الأكل، سواء من المطعم، أو من أكل البيت... وأكملت والدة آلاء) كان يكتشف أن هذا الأكل ليس من طبخي، لدرجة أن صديقه اتصل لي وسألني: بنجيب له كل أنواع الأكل ولا بيعجبه شي، ما هو الذي تفعلوا له من أكل؟ فقلت له: ولا شي، نفس الأكل، لكن السلتة أكثر شي، غير الأكلات الشعبية الأخرى. وحدث أنني حينها كنت في حالة نفاس واليوم الرابع من وضع حملي، أخذوني للمطبخ وأجلسوني فوق الكرسي أعمل أكل عبدالكريم وأنا تاعبة وحالتي حالة، وأرسلناه له للسجن، ثم اتصلت بصديقه وسألته: كيف الأكل؟! ايش قال لكم عبدالكريم؟ فرد: كأنه عارف أن الأكل أنتم عملتوه! عرف أنه طبخك... كان يعرف طبخي كيفما يكون، حلو أو «شوعة» المهم من يدي، ومن طبخي، حتى لما أكون أنا شابعة وما لي نفس آكل كان يقول لي: أجلسي جنبي على شان تفتحي نفسي، وإلا ما أقدرش آكل، (ثم التفتت نحو آلاء وشقيقتها إباء وسألتهما) صح يا بنات أو لا؟ (فأكدتا شدة تعلقه بأمهما حتى أثناء تناوله للأكل. وتستطرد الأم) وأحياناً أكون متعبة، أو أود أن أخرج، أو تاعبة أريد أن أرتاح، فكان لا بد أن أجلس جنبه حتى يكمل أكله... (فسكتت وهي ترسل تنهيدة حرّى من أعماقها المكلومة، فأخذت آلاء زمام الحديث) لدرجة أن مرة من المرات سافر والدي إلى لبنان لدراسة اللغة، فعاد بأسرع وقت، فلم يحتمل سوى 3 أشهر فقط، بسبب الأكل الذي لم يعجبه هناك، ولأنه لا يأكل إلا من يد أمي، (فابتسمت والدتها قائلة) مع أن أكلي كان عادياً جداً، لا شيء جديد، ولكن الفرق البسيط أنني كنت أراعي ظروفه الصحية وأطبخ له حسب حالته. 

فوبيا الحناء 
بعد أن حدثتنا زوجته الفاضلة عن أكثر شيء يحبه، كشفت عن شيء آخر كان يكرهه الشهيد الراحل الخيواني، وهو الحنّاء، وأنه عند رؤيته لأي يد فيها حنّاء كان يشعر بالغثيان، وحكت لنا عن موقف حدث له نتيجة رؤيته ليد طفلة صغيرة فيها حنا، فقد كان معزوماً عند عائلة في صعدة وبعد أن انتهوا من تناول الغداء هو وأبو علي الحاكم وآخرون، دخلت طفلة محنأة اليدين، فما إن رآها تقيأ كل ما أكله، وأصيب بوعكة صحية تم إسعافه على إثرها إلى المشفى، وانتشرت أخبار سوء حالته الصحية حينها إعلامياً، ولم يعلم الجميع أن ذلك نتيجة رؤيته ليد طفلة بها حناء... وتضيف زوجة الشهيد الراحل: 
عبدالكريم ظن حينها أن اللواتي طبخن الأكل بأيديهن حناء طالما البنت في يدها حناء، ولهذا السبب كان يرفض أن يكون بضيافة أحد خشية أن من يطبخن الأكل يكون بأيديهن حنّاء، لدرجة أنه في مرة من المرات أثناء ولادة ابننا محمد، وأثناء خروجي من النفاس أصرت خالته أخت أمه، وخالته أم أبيه، حسب العادات والتقاليد، أن يعملن لي حنّاء، وأنا كنت أقول لهن لا، فأخذن الحنّاء وأحرجنني ووضعن الحناء على يديّ، ولأنني لم أكن أقوم بأعمال منزلية حينها بقي الحنّاء بيدي فترة طويلة، وبعد أن أكملت الأربعين يوماً جاء عبدالكريم من تعز ليسافر بي إلى ذمار، فقمتُ مسرعة ولبست الجوانتي (القفاز) لكي لا يرى الحنّاء بيدي، وكان قد اتصل لي وأخبرته بأمر الحناء، فسألني: اتحنيتي؟ فقلت له: ببداية الولادة، فقال: ألبسي الجوانتي... لدرجة أني كنت آكل معه السلتة وبيدي الجوانتي، فقطع لي الخبز وتناولته بالشوكة لكي لا ألمس الأكل بيدي... (تضيف ضاحكة) تخيلي السلتة تؤكل بالشوكة! فالحنّاء كانت عقدته الكبيرة التي لا أدري لها سبباً. حتى عندما سافر إلى صنعاء وأنا بذمار، كان يسألني هل ما يزال الحنّاء بيدي أو راح؟ فيكرر: اغسلي يدك بكلوركس، أو فلاش أو أي شيء، المهم يروح من يدك. 

عُقدة الكرفتة!
من ناحية اهتمامه بالملبس، تحدثت زوجته أنه كان أنيقاً ويحب انتقاء أجمل الثياب، ما عدا الكرفتة، فقد كان يتضايق من لبسها، ويكره الرسمية الزائدة، حيث كان وسطياً في ملبسه. وتشاركها آلاء قائلة إنه كان يكره كثيراً ارتداء الكرفتة، وحين تأتي مناسبات رسمية يلبسها على مضض.
• ما هي الأمور التي كانت تشغل أوقاته وتأخذ الحيز الكبير من اهتماماته في الحياة؟
 أكثر شيء كان يأخذ وقته هي القراءة والكتابة، بالذات في الليل، كان لا ينام وهو يقرأ منذُ تزوجنا، وهذه عادته التي لم تتغير. (تشاركها آلاء وتضيف: في بداية دراسته الجامعية كان يكتب الشعر ويستهويه أكثر من غيره).

لن أسكت قلمي
 • هلا تصفين لنا أجواء القلق الذي كان يعيشه، والتهديدات التي تعرّض لها، سواءً بشكل مباشر أو عبر اتصالات التهديد التي كان يتلقاها، وما تعرّض له من مضايقات حتى لقد اضطر لنقل سكنه أكثر من مرة؟
 من ناحية القلق كان يشعر أنه سيقتل اليوم أو بكرة، من خلال الاعتقالات التي تعرّض لها والتهديدات، وبين الوقت والآخر كنت أهدّئه وأقول له أن يتجنّب الكتابة التي تعرّض حياته للخطر، من أجل أطفاله ومصيرهم من بعده، فكان يقول لي: لهم الله، وأنا لن أسكت قلمي. حتى التهديدات والمضايقات لم يكن يهتم لها، واستمر في إيصال رسالته. (وتضيف آلاء: لم يكن والدي يشعرنا بمعاناته وما يواجهه من تهديدات). أنا كنت قلقة أكثر منه، حتى أيام صحيفة «الأمة» التي كان فيها كاتباً، ثم رئيس التحرير، وكذلك ما قام بنشره عن السفاح السوداني محمد آدم وقضية اختفاء طالبات من كلية الطب، الراحل هو أول من أثار القضية، وساند أم الطالبة العراقية (زينب) ووقف معها ونشر قضيتها في الصحف. حتى أنا تعرّضت للمضايقات والتهديدات على خلفية نشره للقضية، حتى أن ابني محمد تعرض لمثل هذه المواقف، ففي أحد الأيام وبعد صلاة المغرب حيث كنا مستأجرين سابقاً كان محمد يلعب في الشارع مع عيال الجيران، فجاءت سيارة هيلوكس وخرج منها أحد الركاب ووضعه داخل «الجونية» وهرب به، فصاح أصحابه بأن شخصاً أخذه، وكان عمره حينها 5 أعوام تقريباً، فلحق به أطفال الجيران وهم يصيحون، فلفت صياحهم أحد الجيران كان متجهاً للصلاة، فتبع الذي أخذ محمد في الجونية مما اضطره إلى تركها ولاذ بالفرار.
ومرة أخرى اتصلوا على رقمنا الأرضي في ليلة إصدار جريدة «الأمة»، وكان عبدالكريم الله يرحمه في العمل، وحينها كان هناك تحويلة بيجر وعلمني كيف أحوّل أي رقم فيه تهديدات لعنده، وأنا كنت نائمة ومش مركزة ايش يقول المتصل... فكرر: أصحي فقلت: صاحية، وقد شعرت حينها أن هذا الصوت مختلف ولا يشبه صوت عبدالكريم، فقلت له: أنا أسمعك، قال: بكرة بيجيك طفل لابس بدلة سوداء، وقميص أبيض، أو أحمر، وفي يده كرتون خذيه منه، وأنا صحيت أكثر لما نطق الكلمة الأخيرة فقلت له: ايش تقول؟! وقمت بتحويل الرقم لعبدالكريم وهو فهم أنني كنت أحوّله وقال: ما بش داعي لهذا، وأغلق السماعة مباشرة. بعد ذلك اتصلت مباشرة لعبدالكريم وحكيت له ما حدث، فجاء فوراً إلى البيت، حيث وصل الساعة الثالثة والنصف قبل الفجر، وقال: انتبهي تفتحي الباب لأحد، أو تردي على تلفون أياً كان، حتى أرجع أنا. وكان برفقته الشاعر محمد منصور، لأنهما كانا يعملان معا في صحيفة «الأمة»، وكذلك محمد المقالح، وحسن زيد، وزيد الذاري، وآخرون. هذا الموقف كان من حالات القلق التي عايشتها، لدرجة أن الذين كانوا يضايقوننا يجلسون تحت باب البيت بالشارع يراقبون من يدخل ومن يخرج، ومن يأتي عندنا، ومن يذهب، وحينما كنّا نخرج كانوا يمشون وراءنا، وإذا جاءنا زوار للبيت بسيارتهم الخاصة يفتحونها ويفتشونها، وحتى في النقاط أثناء السفر يضايقوننا بشكل مستفز، وكلما حاولنا اكتشاف بعض الوجوه يتم تغييرها.

لأنه كان يوجعهم
• الشهيد الراحل تعرّض لمداهمات واعتقالات من قبل السلطة، ما أسباب ذلك؟ وكيف تصفين لحظات الاعتقال التي كانت تتم ليلا أو مع الفجر؟
لأنه كان يقول الحقيقة، وكان ضد الفساد والفاسدين (تشاركها آلاء قائلة: كان والدي يوجعهم، لذلك تعرّض لكل أنواع المضايقات والتهديدات).
عندما تعرّض عبدالكريم للسجن أول مرة أرسل له علي عبدالله صالح بعض الأشخاص ينصحونه بأن يتوقف عن الكتابة وسيقوم بتسفيره إلى لبنان، ويعطيه أي منصب، أو يسفره إلى أي دولة وسيعطيه أي شيء يريده، فرفض عبدالكريم أن يتنازل عن قلمه ورسالته التي حملها على عاتقه، واستشهد في سبيلها.

يصحو على صوت فيروز
 • عبدالكريم الخيواني اسم حُفر في ذاكرة الصحافة اليمنية والعربية والدولية، وله أسلوبه الخاص. كيف كان يكتب؟! هل كان له طقوس خاصة أثناء الكتابة؟
كان يسهر الليل ويقرأ، ويكتب في ذلك الوقت، وعند الصباح يناديني ويسمعني ما كتب، سواء قصيدة شعرية، أو مقالة، أو تقرير. وكذلك كان يصحو على صوت فيروز ويبدأ يومه بالاستماع إلى أغانيها، ويداعبُ أطفاله قبل أن يذهبوا للمدرسة ويمازحهم. وكان مبتسماً حتى وهو في أشد اللحظات وجعاً. وكان ينوّع في انتقاء ما يستمع إليه، أحياناً يزومل، وأحياناً قصائد شعر، وأحياناً يستمع للتراث... إلخ، وكان لا يبيّن لنا أي هموم يعانيها، ويكتمها عنّا، وكانت روحه مرحة جداً رحمه الله.

ودع أطفاله في آخر يوم من حياته
• هل تنبأ الراحل بتوقيت استشهاده؟ أو هل كان يشعر بدنو أجله؟
في الفترة الأخيرة كنّا نلاحظ عليه بعض التغيرات. طبعاً عبدالكريم أينما سافر لم يكن بيننا غير «مع السلامة»، وتكون الأمور طبيعية جداً، لكن آخر يوم خرج فيه من عندي كان يتأمل وجوه أطفاله واحداً واحداً، يتأملهم بصمت، واختفى المرح الذي تعودوه منه، وكأن شيئاً ما سيحدث.(تشاركها آلاء في هذه الجزئية وتقول: أنا حينها كنت أجهز لفعالية في الجامعة، وفي الصباح صحيت على رسالة sms منه، وأيضاً أرسل لي  إيميله، واستغربت، فسألته، فقال إنها عن طريق الخطأ، وهو في حقيقة الأمر كان يساعد أحد زملاء دفعتي كان معه مشكلة وطلب منه يرسل له إيميله لكي يرسل له قصته كاملة، وعندما سألته قال لي: لأني حسي عندك رسلت على رقمك. وكالعادة تجهزت لمغادرة البيت بالتاكسي الذي كان يقلني أنا وزميلتي إلى الجامعة، وتبعني إلى الباب وقال لي: ضروري تسيري اليوم الساعة 8؟! طيب ممكن تتأخري نفطر مع بعض، ونجلس مع بعض، مش ضروري تسيري الآن... أشعر بوجع كبير أنني قلت له: لا، وتلك المرة الأولى التي قلتها له والأخيرة).
(تواصل آلاء وبغصة: كنت أتصل له الظهر ولا يرد، وكانت الطريق إلى حارتنا مغلقة، وتلك الفعالية أخذت وقتي وأنا كنت أدور في الشركات، والطرق مغلقة من كل الجوانب، وخطر ببالي أن ذلك بسبب مسيرة العصر في ذكرى جمعة الكرامة، ولم أتوقع أبداً أن الطريق مغلقة بعد وقوع جريمة اغتيال والدي المغدور به، ورجعت للجامعة أبحث عن القاعة، وفي تلك اللحظات تلقيت اتصالاً من أمي تقول لي: تعالي، أنا تعبانة. وصديقتي اتصلت لي بنفس الوقت تقول لي: ارجعي البيت. فاستغربت لماذا كلهم مهتمون بعودتي للبيت؟! وقلت: أنا منتظرة أبي يجي لي، لأنه وعدني يأتي للجامعة، أو التاكسي الذي يوصلني دائماً... وأثناء عودتي وجدت الطريق إلى البيت مغلقة. كنت خايفة وأقول في نفسي: لو كانت أمي تعبانة فكانت ستتصل لأخي أو أبي لكي يسعفوها بالسيارة، فلماذا اتصلت بي؟! وأثناء دخولي البيت وجدت كثيراً من النساء كثير في بيتنا، وأمي بخير واستقبلتني، ووقتها فهمت كل شيء، وحينها انهرت وسألتهم: ما حصل لأبي، فقالوا لي إنه أصيب في رجليه فقط، وأنه بخير، ويحلفوا إنه كان يمشي... وفي الساعة الثالثة عصراً عرفنا الخبر الأكيد، وحينها لم أفق إلا في المستشفى).
(تضيف آلاء قصة أخرى تقول فيها إنها طلبت من والدها في الفترة الأخيرة أن يأخذ العائلة إلى مطعم، أو مكان ما ليغيروا جو، فقال لها: أنا سأخرج بالسيارة لوحدي، وأنتم خذوا تاكسي ونلتقي في المطعم... حتى بطلت أكرر عليه طلبي، لأني شعرت بأن هناك شيئاً. وفي أحد الأيام خرجوا كلهم وبقيت أنا وهو بالبيت فقلت له: نخرج نتمشى مع بعض فرصة، فرفض تماماً أن نخرج مع بعض، لدرجة أنني مرة اقترحت عليه أن يأخذ معه مرافقين، فقال: لو فعلت ذلك لشعرتم بجو من القلق أكثر، وستشعرون أن عيون الناس تراقبكم، فهكذا الأمور طبيعية أفضل). 
تضيف أم آلاء في هذه الجزئية: لدرجة أنه كان يقول: الرصاصة فيَّ، ولا في عيالي، أو المرافقين أو أحد ما.

لحظات صعبة
وتسترسل الأم: جاءت لزيارتي ثلاث من جاراتي، واستغربت أن الثلاث يأتين مرة وحدة، لأنني كنت متعودة أن كل واحدة تأتي في زيارة خاصة، وإحداهن كانت مدرسة، لما رأيتها معهن خشيت أن يكون حصل لعيالي مكروه، خاصة أن المدرسة قريبة فسألتها: ليش جيتي؟ وسؤالي كان من خوفي على عيالي، فقالت: ما في شي. بينما جارتي الثانية قالت لي: ما وصلكم الخبر؟ قلت لها: ايش حصل؟ فقالت: عبدالكريم رموه في رجله. بس جزع ما فيه شي. مع أنني سمعت الرصاص، لم أكن أتوقع أنها كانت في تلك اللحظات في صدر رفيق دربي، وكان حينها قد اتصل لي أن أجهز له الغداء، وحقيبة ملابسه من أجل أن يكمل معاملة سفره إلى لبنان، فقد كان هناك شخص في الحارة متعود أن يطلق الرصاص، فقلت يمكن هذا حق يومياً، وابني لؤي كان في النافذة حينها كان عمره 3 سنوات، فهرب لعندي وقت إطلاق الرصاص، وقلت له لا تخف، هذا الذي يومياً يطلق الرصاص بالحارة.

دمعةُ وفاء
 • بإمكانك سيدتي أن ترسلي كلمات إلى روح الشهيد الراحل عبر صحيفة (لا) كون هذا اللقاء نادراً واستثنائياً، كلمات عن زوجك الشهيد ستذكرها الأجيال جيلاً بعد جيل، فماذا تقولين لمحبي الفقيد في هذه السطور؟ 
(تنهدت بعمق) ما أقدرش أقول غير كلمة واحدة، وهي أنني وجهالي فاقدين له قوي... (وانهارت باكية).
(كانت لحظات موجعة جداً بالنسبة لي كمحاورة لعقيلة الشهيد الخيواني. ومن أصعب المواقف خلال مقابلاتي الصحفية أن أرى حواراً يُختم بالدموع وبثلاث عبارات فقط!!).