علي نعمان المقطري / لا ميديا-

قبل عقود، وبعد قرن من الاحتلال البريطاني للجنوب، كانت الضالع آخر المناطق المحتلة من قبل البريطانيين، وفي العام 1929م نظمت بريطانيا مع سلطان الضالع آنذاك مؤامرة خسيسة لتسليم الضالع للإنجليز، وقيام الطائرات الحربية البريطانية بالإغارة على المواقع العسكرية للحامية اليمنية المتمركزة هناك، حيث أبادت أعداداً منهم، ودمرت تحصيناتهم المتواضعة بقذائفها، وكانوا مجرد جنود بسطاء لا سلاح لهم سوى بقايا البنادق القديمة، أرادوا الدفاع 
عن حياض البلاد، ووقف تقدم الاحتلال الأجنبي القادم من الجنوب بعد احتلاله آنذاك، وكانت الضالع بمثابة الحصن 
الجبلي القوي الذي يوقف تقدم البريطانيين نحو الداخل اليمني، ولذلك حاول الإنجليز دوماً انتزاعه من حضن الاستقلال.
وما إن حاول الحاكم اليمني أن يسترد المناطق التي توسع فيها البريطانيون، حتى سارعت بريطانيا عبر الوهابية السعودية من الشمال، بشن حرب احتلال عسير ونجران وجيزان المعروفة في الثلاثينيات، وإجبار اليمن على توقيع المعاهدات الجائرة لإضعافه وابتزازه عبر السياسة والرشاوى والتجسس والتخريب وتشجيع النزعات الانفصالية والجهوية والمعارضة السياسية الداخلية التي ظلت تحظى برعاية المحتل في عدن والرياض، وعبر تشجيع المرتزقة المحليين وتفجير البؤر التخريبية والحربية في كل مكان بهدف إضعاف الحكم المستقل وتقسيمه.

الضالع.. التاريخ وخيرة الرجال
كانت بريطانيا تعرف أهمية وخطورة الضالع بموقعها وتاريخها، ولذلك حرصت على انتزاعها مهما كلفها من قدرات، نتيجة لأهميتها الجغرافية والتاريخية والاستراتيجية.
الضالع هي مركز عدد من القبائل اليافعية الحميرية العريقة، نزحت من جبال يافع العليا خلال القرون الماضية، وتعتبر يافع هي مرجعها عند الشدائد، ومعروف أن سلطنة يافع العليا كانت توفر الحماية للسلطنات والمشيخات المرتبطة بها قبلياً، والتي تحولت إلى إمارات ودويلات محلية، مقابل أجور مالية معينة كانت تدفعها أسر الحكم إلى أيدي سلاطين يافع، اعترافاً بتبعيتها، بمن فيهم سلاطين لحج وردفان والضالع والشعيب، وغيرها من الإمارات الغربية، وقد استمدت الضالع قوتها من قدراتها على توحيد القبائل المحيطة بها في المنطقة الحميرية الأقدم في الفترة الحديثة من القرن الماضي وحتى نهايته، ومن سيطرتها الطويلة على تركيبة الجيش الجنوبي الشعبي، وعلى الإدارة والقيادة، ومن قدرتها على التجنيد والحشد العسكري الكبير، ومن مواقعها الجبلية الاستراتيجية الممتدة حتى مناطق يافع العليا والسفلى، ومن سيطرتها على المناطق الوسطى الشمالية السابقة، وارتباطها بها مصيرياً كامتداد مباشر تاريخياً وجغرافياً، وخاصة قعطبة ودمت ورداع ومريس والعود والسدة والنادرة وظفار وجوارها، وظفار هذه هي مركز وعاصمة سبأ وحمير وذي ريدان، وهي عصبية الملك الحميري الريداني العتيد.
هذه الخلفية التاريخية المعقدة للضالع تمدنا بمعرفة موضوعية لطبيعة المواطن اليمني في هذه البقعة العزيزة من اليمن، معرفة للخصم ومعرفة للذات في وقت واحد، وتسهل اختيار أفضل الطرائق في التعامل مع الآخر في المعركة والسياسة والواقع.
وإذا كان ذلك يعكس شيئاً مفيداً ولافتاً، فإنه يعكس الطاقة المعنوية والقوة النفسية الكبيرة التي تتمتع بها الشخصية الإنسانية في المنطقة، أي سكان قبائل البلاد الذين يمتلئون اعتزازاً بتاريخهم وكرامتهم وشرفهم الوطني الذي دنسته بعض القيادات المنحرفة التي أفسدت عليهم مشاعرهم السليمة وقيمهم الكريمة الأصيلة، بعد أن تمكنت الامبريالية والرجعية من اغتيال ألمع قادتهم ورجالاتهم ومعلميهم، أمثال الشهداء علي عنتر وصالح مصلح قاسم وسعيد صالح وثابت عبده ومحمود عشيش وجار الله عمر وصالح المولد وقبول الورد وغالب بن راجح لبوزة ومحمود قماطة وفيصل الشعبي وقحطان الشعبي وسلطان أحمد عمر وعبدالفتاح إسماعيل وعلي شايع هادي والشنفرى والزومحي وسالمين، والآلاف من أبطال الاستقلال الوطني والاجتماعي والجمهورية والوحدة.

غسيل الدماغ
مؤامرة يناير 1986م أكلت أنبل رجال اليمن من الضالع أو أغلبهم، فلم ينجُ من المذبحة إلا قليلو التجربة، ضعاف الأفهام والأفكار من الشباب العسكريين الذين لا يفهمون الكثير بعد عن ذاتهم وتاريخهم وأمتهم ووطنهم الكبير، واستلمت القيادة عناصر منها مدسوسة ومنها مغروسة ومنها سقيمة العقول انحرفت بعقول الشعب في الجنوب وأوردته موارد الردى والهلاك والتبعية والانفصال والتعصب والطائفية والأحقاد والثارات والمذهبية والغرور القبلي والسلالي المريض، وكان هؤلاء هم رسل الوهابية والإخوانية والسلفية الرجعية المغلفين بأغلفة الوطنية المزورة.
وجاءت الوحدة والحرب العفاشية عليها وعلى رجالها وقواها والمؤامرات، فكانت نهاية مرحلة وصدمة لها ضاعفت من السخط والكراهية وانحراف العقول والنفوس، واستغلها المنحرفون من القادة الفاسدين الانتهازيين الذين تاجروا بمعاناة أمتهم وشعبهم، ومازالوا يقامرون بها ولن يرتدعوا حتى يُردعوا.

السيطرة على العقول
لقد اعتقد الناس خيراً بأشخاص فاسدين عملاء للأجنبي، وإن كانوا يمتون بصلات نسب أو قرابات لزعماء أبطال ووطنيين استشهدوا وهم يناضلون من أجل الوطن والوحدة والحرية، إلا أنهم كانوا في حقيقتهم أبعد ما يكونون عن الوطنية، وأبعد ما يكونون عن الوفاء للقادة الأماجد الشهداء، ومن أمثال هؤلاء: شلال والزبيدي وياسين سعود وبن بريك وهيثم قاسم وجواس والمحرمي وأبو اليمامة والجفري والبيض والعطاس، فأين الثرى من الثريا! فهؤلاء هم من تواطؤوا على الخلاص من القادة الأبطال، وهم من ذهب إلى حضن الرجعية السعوديةـ الإماراتية ـ الأمريكيةـ البريطانية، ليسلموا لها مفاتيح الوطن لاحتلاله واستعباده مقابل دراهم معدودة.
وقد أراد هؤلاء الأقزام السياسيون الحصول على مقاعد في أروقة أية سلطة تابعة للأجنبي أياً كان، وللأسف فهم عملاء وقحون وسياسيون محترفون مأجورون لمن يدفع لهم، ومايزال قسم كبير من الناس البسطاء لا يعلمون حقيقة دوافعهم، لأنهم يروجون لشعارات ديماغوجية ومعلومات مضللة يصدقها للأسف البعض.
وأفضل الأساليب لكسر هذه الحلقة الميتة هي الاستعانة بالقيادات الشريفة من أبناء هذه المناطق ذات المصداقية العالية بين الجماهير، وهم الأقدر على إقناع أهاليهم وجماهيرهم، وتخليصها من تأثيرات المزورين والدجالين والمشعوذين ودعواتهم.

الوعي يسبق الرصاصة
لا توجد شعوب خائنة، وإنما توجد قيادات خائنة ومنحرفة في كل شعب، ولكن يستحيل حرف بوصلة كل الناس وإفسادهم ومغالطتهم وتزوير وعيهم مؤقتاً إلا في ظل الأزمات الشديدة وحالات القهر القاسية بالغة الأثر التي تتعرض لها الأمم وشعورها بالانسحاق النفسي والضعف والهزيمة إزاء أعدائها، واليأس من التحرر والانعتاق في مناخ وأجواء تحيط بها سيطرة مطلقة للرجعية والاستعمار على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي، حتى تغدو المسألة الوطنية التحررية في أعلى درجات اليأس والقنوط، واستحالة التحقق، وهنا يأتي دور عملاء النفوذ الأجنبي من القادة المزورين الخونة، ليعيدوا هندسة روح الشعب، وليعالجوا عقول ونفوس المقهورين، ويرسموا لهم طرق الخلاص بالرجوع إلى إيمان مزور بدلاً عن الإيمان الحقيقي السابق، وتكفير الماضي والحاضر، وتصوير معاناة الشعب عقاباً على ما ارتكبوه، وعليهم الاستغفار والتوبة وتصوير كفاحهم ونضالهم بأنه لا طائل من ورائه سوى العذاب والعقاب والشقاء، وأن السلفية والوهابية هي الشفاء والبترودولار، والحج إلى واشنطن هو المَخرج، خاصة إذا صاحبت الأوضاع درجة من الاستبداد والفساد والظلم شملت كل المجال الوطني السياسي والاجتماعي والديمغرافي، وهذا ما تكفل به نظام صالح.
وكما أفسدوا عقول ونفوس أقسام كبيرة من الناس في الجنوب والشمال والوسط، فإن العلاج يكون من نفس الداء أو من بعضه، أي بالصدمات الوطنية الكبيرة، بكشف أوراق الجميع، وتفجير المعركة الشاملة من جميع الجوانب والملفات والقضايا العادلة، ووضع جميع القادة والزعماء والأدعياء والحقيقيين أمام القضايا التي يدعونها ويدعون خدمتها، ونشر وفضح كل الأوراق الثبوتية التي تمس الجميع دون استثناء، والهدف هو تخليص الناس من تحت تأثير الشخصيات الكبيرة المدمرة والمؤزرة والكاذبة العميلة الخائنة في أثواب الوطنية الانتهازية الملفوفة في شعارات الفضيلة المدنسة بالخيانة وفي أردية العفاف، وهذا دور المحاربين الدعاة الوطنيين الواعين القادرين على مخاطبة شعوبهم وجماهيرهم الذين يحملون راية الدعوة والتوعية في يد، وفي الأخرى السلاح، دون ملل أو كلل، وأقدر على الأمر أكثر ممن عانوا واكتووا بنيران القهر والتزييف طويلاً، فالحروب الوطنية التحررية هي حروب من أجل الفوز بالوطن وبنفوس المواطنين الأحرار أولاً.

معارك الضالع تفقد العدو رشده
لا شك أن العدوان وقيادته فقدت رشدها خلال معارك الضالع الجارية، فهي كانت تعتقد أن الجمود سيطول على هذه الجبهات كأمر واقع يتكرس على شكل انقسام وانفصال، وأمل العدوان أن تقف قوات الجيش واللجان الشعبية على الخطوط الشطرية السابقة في تقدمها وتحركها، ولكن الواقع جاء مغايراً وصادماً لتصورات العدو ومحلليه.
ومن مؤشرات غفلة العدوان الاستراتيجية وتفاهة تفكيره، اعتقاده أنه بمناورة السويد يفرض علينا أن ننصاع لإرادته للقبول بوجوده، حيث وصل من مواقع ومناطق، وفقاً للعقلية الاستعمارية المموهة وتقاليد نفاقها السياسي والبروتوكولي، مراهنة على قدر كبير من التزلف للغرور الوطني المصحوب بسذاجة سياسية إنسانية تعمد إلى الحصول على ما تريده بوسائل لينة، متخيلاً أننا مهما صمدنا فلن نستطيع الاستمرار إلى الأبد، ولا بد أننا قاب قوسين من الاستسلام، وهي حسابات باطلة مبنية على تضليل مفاده أن الثورة اليمنية الجارية الآن في وجه العدوان تبدأ من عهد قريب من السنوات، وأمام الحصار الكوني فإن النفاد هو نهاية كل مخزون مهما يكن حجمه، وقد راهن العدو على الوقت، غير أن وقت العدوان نفد قبل أن ينفد وقت الوطن.
وما إن طرق الرفاق الأحرار أبواب قعطبة منذ أسابيع قليلة، حتى بادر المبعوث الأممي كعادته إلى تحريك المياه الراكدة حول ستوكهولم، وعندما تناهى إلى سمع العدوان أن الرفاق قد تجاوزوا الخطوط السابقة التي سيطروا عليها على جبهة الضالع في ناصة والفايق واليوبي، إلى سلاسل تالية جديدة في عمق الضالع، مسقطين عشرات القرى والمواقع والبلدات، ومعها قعطبة وجبال العود وحمك وجبال مريس ودمت وجبن والنادرة وظفار، واخترقوا الخط الشطري القديم، حيث يتمترس بقية العملاء وقواعد العدوان.. ما إن تناهى إلى سمعه ذلك حتى قامت قيامته وأطرافه ومرتزقته، وراحوا يرمون بعضهم بعضاً بالبيض الفاسد والطوب والاتهامات بالخيانة وبيع المناطق.
ورغم الألوية الجرارة والأسلحة الفتاكة والمدرعات والمدافع والدبابات والصواريخ وعشرات الطائرات الحربية الأمريكية الأحدث التي تعمل ليل نهار، راحوا يتهمون المشغلين بعدم توصيل الأسلحة ونقص القوات، وهذه مجرد حيلة إعلامية تقلل من أثر الهزائم التي تلاحقهم، وكانت الـ15 لواء التي ينشرونها على المحاور مجرد ديكورات لا غير.
والحقيقة العسكرية هي أنهم قد تجاوزوا ما هو مسموح في القواعد العسكرية من نشر للقوات بهذا الحجم، والأعداد التي لم تحقق سوء الانكسارات والهزائم أمام قوات شعبية ليس لها من قوة سوى معنوياتها العالية وإيمانها بعدالة قضاياها، ولكنه الرعب والخوف والتخاذل أمام الحق.