مجاهد الصريمي / لا ميديا -

كلما مازجت النفس صنوف الأدب وخفق القلب لإيقاع قصيدة، وتملك النفس سحر بيان متكلم، اتسعت آفاق الفكر وترسخت قواعد الحرية، وتمكن الإنسان من تلمس جوانب إنسانيته وعناصر وجوده ودفق إحساسه وصدق مشاعره وجوهر روحه، وصورة مجتمعه الداخل ضمن نسيج ذاته..
ودعنا عزيزي القارئ نسلمك إلى عوالم الشاعر «المسلمي»، موصلين ما انقطع بنا من حديث بما تم لنا من متممات الخوض لعمق موهبته ونضج تجربته وتعدد ألوان إبداعه وتميزه.
هنا يطلق الشاعر العنان لذكرياته موازناً بين الماضي والحاضر، متخذاً من معركة «نصر من الله» البعد الروحي والنسق الوجودي لهوية كاد اليأس أن يشظيها، كيف لا وهي الاقتدار والمنطلق الوجودي لبلد اسمه اليمن، حضر في كل منعطفات التاريخ في السابق وتجلى اليوم ليقعّد أسس المحو لكل زيف، ويوضح شاهد كل حقيقة.
يقول: عاشت اليمن الاستلاب والنزوح وراحت صوب العدم، ولعل المرحلة التي باتت فيها اليمن ساحة مفتوحة أمام الغرب ومصالحه دون شعور بحرج من قبل الأنظمة العميلة، هي تلك المرحلة التي اعقبت حرب صيف 94م حين اتخذ «عفاش» سبيل أمريكا طريقاً وديناً وبشكل علني دون أدنى رادع، ومع أنه صنيعتها ولم يكن يوماً حراً لكن نقصد علنية العمالة لها، والانسداد لأفق الساسة، والعمل على تدويخ الشعب والإيغال في تجهيله، والسعي لتطويعه والنزوع نحو التوسيع لدائرة الفقر، والرغبة الجامحة لتدجين المجتمع وتطويعه لئلا يكون له صوت سوى صدى صوت الحاكم، ولي في ذلك قصيدة كتبتها في ذروة الزيجة بين عفاش والإخوان، أو لنقُل في شهر العسل بين المتزاوجين سِفاحاً، وهم يلاحقون المتنورين، ويحبسون ويخفون شباب الجامعات المحسوب على التيارات اليسارية، ويقتلون المفكرين ويعملون على جنون قادة الرأي وحملة مشاعل التنوير، بينما البنك الدولي وتوابعه يسرحون ويمرحون، والعصابة تتقاسم العائدات الناتجة عن صفقات بيعهم لليمن الأرض والأنسان، ويعملون على حد سكاكينهم المسلطة على رقاب الكادحين والمقهورين، ويراكمون أرصدتهم ويتوسعون في إيجاد مشاريعهم الخاصة...قلت في هذه القصيدة:
أأدّعي أن رأيي تحت سيطرتي
إن قلت هذا فإن الدجل من سمتي
بأي وجه وغيري قد تقاسمني
لم يبق مني يواسيني سوى لغتي
تكالب الطامعون الغلف حول يدي
وقرروا بترها والسيف متربتي
ثراؤهم لم يكن يوماً ليأسرني
لأنه كان أصلاً بعض أمتعتي
جرى إليهم بتخطيط وبرمجة
والحاكمون على جهل بمظلمتي
لأنهم منتهى ما يحتوي ألمي
وما استقرت به أشكال معضلتي
حتى غدا ما لديَ تحت قبضتهم
أتوا إلي لكي يستخلصوا ثقتي
سألتهم دون جدوى حين قلت له
متى أموت ولم يأبه بأسئلتي
ذليتني أيها الذمي في بلدي
أوغلت سُمّك في عظمي وأوردتي
أسلمتني لأكف الموت تنسفني
فناصرتني وشدت من مؤازرتي
عوالم الموت أسقتني شجاعتها
فكان حقاً عليّ حمل أسلحتي
سلوا إذا شئتم التاريخ ينبؤكم
أني سأهدي غزاتي كل مقبرتي
وعندما وجد الشاعر نفسه ضمن شريحة المكفوفين، إذ درس معهم وعمل أستاذاً لهم في مركز النور للمكفوفين، وكان قريباً من معاناتهم متلمساً لوجع الحرمان والتهميش من قبل الدولة لمطالبهم وحقهم الطبيعي. اتخذ من المناسبات العالمية والعربية، الخاصة بذوي الإعاقة البصرية، أداة لإيصال أصواتهم ومطالبهم إلى أذن النظام العفاشي الصماء، وكانت الوسيلة خشبة المسرح، بحيث يقوم بكتابة مسرحيات يقوم بتمثيلها طلاب من مركز النور، أذكر منها مسرحية «لأنك ابن أبوك يا منعاه»، كانت تطالب بفتح مكتبة سمعية بجامعة صنعاء للمكفوفين، وعرضت كذلك صنوف معاناتهم دون حرج أو خوف من تبعات النقد اللاذع للسلطة، وكانت تلك المسرحية في العام 99م. مسرحية أخرى في العام 2002م وكانت محزنة جداً وعلى جانب كبير من الجرأة والموضوعية، شرحت انعدام الملبس ورداءة المأكل وغياب الصحة في مركز النور، وكذلك شحة الوسائل التعليمية إلى درجة لا يكاد الطالب أن يجد ورقة واحدة من الورق المقوى التي تكتب عليها طريقة برايل الخاصة بالعميان، وكانت هذه المسرحية بعنوان «عواصف لا ترحم».
وتزامناً مع إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية أطلق أديبنا صرخته المدوية، ووجه صفعة قوية لرأس النظام وذلك في العام 2004م من خلال مسرحية «وطن وثقافة» التي قام بتمثيلها مكفوفون في مهرجان آفاق الروح، ذلك المهرجان الذي اتخذ من حديقة السبعين مكاناً لتدشينه. وقد عملت السلطة حينها، وعبر هذا المهرجان، على تلميع صورتها القاتمة وتزويق وجهها القبيح، بحيث جعلت هذا المهرجان خاصاً بجميع شرائح المعاقين فجاءتها أشد الضربات من أضعف المكونات المجتمعية.
مسرحية «وطن وثقافة» دارت أحداثها لإبراز ثلاث شخصيات متباينة؛ أولى هذه الشخصيات «وطن» ذات الثياب الرثة والأسمال البالية والهيئة المزرية، يبدو «وطن» على خشبة المسرح بصورة رجل يرزح تحت وطأة الفقر، ويعيش المعاناة والظلم، يتفاجأ بظهور فتاة شقراء ناصعة البياض ذات عينين زرقاوين، ترتدي لباساً غربياً وتتحدث بلسان أعجمي، تزداد الحسرة لدى «وطن» حين يرى ثقافة بهذا الشكل. وأما الشخصية الثالثة فهي «آزال» والتي لم تجد ما تقدمه لـ»وطن» سوى كأس مزجت فيه الدمع والدم وقدمته له حين طلب منها كأساً من الماء وليس عندها ماء، فأعطته خلاصة نحيبها وعصارة نزيف دمها.
كان يوم افتتاح المهرجان على موعد مع هذه المسرحية وبحضور عفاش والدنبوع ووزير الثقافة، وكان عفاش يستشيط غضباً وشرر الغيظ تنهال على العميان في خشبة المسرح، ولكنهم لم يروه وما شعروا بوجوده لأنهم عاشوا قداسة الانتماء إلى وطنهم، فكان من الطبيعي والمسلم به أن يبتعدوا عن الاكتراث بأي صنم وإن كان عفاش، وهكذا استمر الوضع لمدة نصف ساعة زمن عرض المسرحية. نصف ساعة، كاشفت النظام بحقيقته وعرفته بوزنه وقيمته. وما إن أُسدل الستار على وقع انتهاء مشاهد المسرحية حتى صعد عفاش على المنصة مبتدراً كلمته بصب وابل من الإهانات للمكفوفين، من مثل قوله: ما بال العميان يتشدقون على الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، ولولا الثورة والنظام الجمهوري لكانوا يتسولون على قارعة الطريق وفي أبواب المساجد.
لقد حاول أن يسترد هيبته ولكنه فشل. فكانت تلك الكلمات المتشنجة الساخرة والقاسية تعبيراً عن شدة الهزة العنيفة التي نتجت عن المسرحية، وإثباتاً واضحاً على وصول الرسالة المراد إيصالها، ولو كان لديه شيء من الفهم لأدرك أن زمن ما قبل الثورة صنع جهابذة من العميان أبرزهم البردوني ومحمد حسين عامر ومحمد حسين القريطي والشاعر سالم السبع، بينما في زمن ما بعد الثورة وخصوصاً في عهده عاش المبصرون والعميان حالة عمى مطلقة، وجهلاً مطبقاً، وغياباً للذات وهدماً للروح، واستعبادا للنفس. وقد سألت الأستاذ المسلمي: كيف اهتديت لفكرة هذه المسرحية؟ أجاب: عندما علمت أن بوش يرقص بالجنبية التي منحها له عفاش في البيت الأبيض أدركت حينها وبما تمثله الجنبية من رمز وقيمة حضارية، أنهم يسلمون مفاتيح اليمن للأمريكي، ويجعلون مصير اليمن بيد أمريكا، وما عاصمة الثقافة العربية إلا لمزيد من الغربنة والعبرنة. سألناه أخيراً عن معرفته بالبردوني، فقال: لم أستطع أن أقول فيه الا سطرين، كان ذلك وأنا بالمستوى الرابع قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة صنعاء، إثر إحيائه لأمسية شعرية بالجامعة، فجاء بعدها إلي أحد الكتاب وسألني: ماذا يعني لك البردوني؟ كان ذلك في عام 91م فقلت فيه:
يا وردةً ترعرعت على سفوح قلبي الجريح
يا كلمةً تترجمت فشكلت عواصفاً وريح
ووصل إلى البردوني قولي فيه واستدعاني إلى بيته، ذهبت، ولما وصلت قال: هذا المسلمي الذي يلمع. قلت له: وما الذي يصنعه اللمعان في ظل مجتمع لم يشعر بعبد الله البردوني وهو يحترق من أجله؟ فضحك كعادته -رحمه الله- ورحنا نخوض غمار الحديث ونتبادل بوح القصيدة.
وهنا نختم رحلتنا بهذه القصيدة التي قالها الشاعر في مجلس البردوني، يقول:
أنا نجم فوق ارتفاع النجوم
حُبيت من الله فن الوجوم
تغذيت بالصمت في وقته
وودعت صمتي بخير العلوم
عرفت الخداع وأصحابه
وأيقنت أني رهين الهموم
بنى الحقد في طيبتي داره
فأصبحت في بحر حقد أعوم
تراني أموت بلا ميتة
وأحيا لأسقى جميع السموم
درست المواويل في مهدها
ولم أتبعها فكنت الملوم
لعل الحقائق تضطرني
فأكشف زيف الكلام النعوم
ألا أيها الشعب كن نائماً
فمثلك ليس له أن يقوم...