فرانك ميرمير - ترجمة: شهدي جمال -

كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية النظام الوحيد الذي انضوى فعلاً تحت لواء الماركسية في العالم العربي، وطيلة وجودها القصير الذي امتد من عام 1967 إلى عام 1990، أصبحت عدن عاصمة لحركات التحرير العربي، تحرير فلسطين وتحرير شبه الجزيرة العربية بخاصة، كما أصبحت ملاذاً للتنظيمات الشيوعية في الشرق الأوسط وأضحت مخبراً للتجربة الاشتراكية في أفقر بلد في شبه الجزيرة العربية. أجل لقد ولّى زمن البضائع والرحّالة المتهافتين على الأرصفة البحرية المكتظة في حي "التواهي" بالمواد المعفيّة من الضرائب. وأتى زمن الاقتصاد الاشتراكي والتأميمات وتحرر المرأة والمساواة؛ وبوجيز العبارة أتى زمن النجمة الحمراء التي تشرف على ساحة الملكة إليزابيت سابقاً.

 ومع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب"، أي الحزب الاشتراكي اليمني، الذي جعل أذان المؤذنين يخفت، حتى وإن اعتبر الإسلام كدين للدولة، خَبَتْ فجأة نيران الكوزوموبوليتية الاستعمارية، في مجتمع تميّز بهرميته الإثنية التي تجاذب فيها "السكان الأصليون" مع الدهماء، قبل الصوماليين، بينما بقي الأوروبيون غارقين في كابوس المدينة المناخي وقبعوا في نواديهم. وبعد رحيل الإنكليز استمر بعضهم هناك منضوين في النوادي التي كانت تفتح أبوابها ابتداءً من الساعة 18، وتقدّم بيرة محلية اسمها "صيرة" ينتجها مصنع تم تأسيسه بالتعاون مع خبراء من ألمانيا الشرقية، كان الهدف الأول الذي استهدفته الكتائب الإسلامية التي قدمت لتحارب مع نظام الحكم في صنعاء انفصاليي الجنوب و"الكفار" الاشتراكيين أثناء حرب 1994.

المرأة العدنية 
خلال السبعينيات من القرن العشرين، أصاب جو التحرر العالمي عدن عبر الماركسية التي تبنتها الدولة والتي قامت كنموذج معاكس للتيار المحافظ الاجتماعي والديني لجيل الآباء.
وفي عام 1974 صدر قانون الأسرة، وكان من القوانين الأكثر تقدمية في العالم العربي، منع بموجبه تعدّد الزوجات ومنح المرأة حقوقاً مهمة. وفي كانون الثاني 1981، أُجبر علي سالم البيض، نائب رئيس الوزراء وعضو في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، على الاستقالة من وظائفه لمخالفته القانون وتزوجه بإحدى رفيقاته في الحزب وكان الاختلاط بين الجنسين مرعياً في الأماكن العامة وفي أوساط الكوادر المهنية والحزبية، وكانت المليشيات الشعبية تستقبل الفصائل النسائية في صفوفها، وكذلك الجيش والشرطة.

وتنورات ومسدسات على الخصور 
ظهرت التنورة القصيرة والبنطال في عدن، وانزاح المنديل عن الشعر. وفي عام 1976، في ظل رئاسة سالم ربيع علي، نظمت مظاهرات كبرى في جميع المحافظات لإلغاء حجاب الوجه، واندلعت هذه المظاهرات في مناسبة اليوم العالمي للمرأة.
وما كان يُذهل المسافر القادم من صنعاء إلى مطار عدن، خلال الثمانينيات من القرن العشرين، هو أن يرى نساء بشعر متطاير يرتدين القمصان والبناطيل ويضعن المسدسات في أحزمتهن، ويقمن بتفتيش الحقائب.

مثاقفات ممركسة 
وكانت النقاشات داخل خلايا الحزب الاشتراكي اليمني توفّر انفتاحاً غير مسبوق على العالم ومثاقفةً ممركسة مثلت الجانب الآخر الذي بدأ في الفترة البريطانية. وكان الكتاب المقدس لدى المناضلين الشباب في اليمن وغيرها كتاب جورج بوليتزر "المبادئ الأولية للفلسفة"، ولكن بترجمة عربية. وكانت دور النشر اليسارية في بيروت تترجم إلى العربية أدبيات هذه الثقافة الأوروبية، المرادفة للتحديث والتحرير. ويذكر فواز طرابلسي في مذكراته -وكان المسؤول عن منظمة العمل الشيوعي في لبنان- أن فرعاً من جبهة التحرير الوطني في حضرموت، ذات الاتجاه الماركسي، خصّص جزءاً من الأموال لشراء كتب ماركسية لينينية كُلّف طرابلسي بشرائها من بيروت.

تعايش أممي وتأهيل 
كانت الأممية تُعاش ثقافياً في اجتماعات الحزب، وتناقش فيها قضايا أفريقيا وآسيا والأمريكيتين. وبفضل المنح الدراسية التي كانت تعطيها شتى البلدان الاشتراكية، ككوبا والاتحاد السوفييتي، درس عدد من الطلاب الشباب وأُعدّوا لتأهيل النخبة الجديدة في البلاد.

مكافحة الأمية 
وكانت مكافحة الأمية هي القضية الوطنية الكبرى في بلاد ورثت نظاماً تربوياً نخبوياً في عدن بقي جنينياً وبدائياً في المحميات السابقة. وكانت تعتمد على متطوعين شباب انخرطوا بحماس في حملات نقلتهم إلى المناطق النائية في البلاد. وكانت المشاركة الشعبية والتعبئة المستمرة، خلال السنوات الأولى للنظام، ناتجاً من نتاجات الأيديولوجيا الاشتراكية وشرعنةً لنظام الحكم الجديد، كما كانت وسيلة لجميع التيارات المتنافسة في الحزب الاشتراكي اليمني كي تشكّل قوّة داعمة لها.

تخفيض الراتب واجب 
في أغسطس آب 1972، طالبت هذه الأيام السبعة المجيدة التي شهدت تظاهر آلاف الريفيين في شوارع عدن، طالبت الرئيس سالم ربيع علي بتأميم المساكن وبتخفيض جديد لرواتب الموظفين، ونظّم هذه المظاهرات تيار الجبهة الوطنية أثناء المؤتمر الخامس للجهة القومية الذي عُقد في آذار 1972، والذي اتخذ منحى ماركسياً ازداد تأكيداً (6). وحرك هذه المظاهرات الرئيس ليضغط على سكان المدن وخصومه السياسيين في آن. وقدّم الكاتب العدني حبيب عبد الرب وصْفاً لها بتهكم لطيف، قال:
"كان صخب الأصوات الهادرة والحادة والراقصة يهزّ أركان مدينة وادعة وراضخة، ويغمرها خلافاً للعادة، فنزل المتظاهرون، الذين هاج بهم الطابور الثوري، إلى عدن من بطاح اليمن الجنوبي بشاحنات الحزب، فشُدهت العاصمة بهذه المسيرة الأولى والطويلة والمعلنة بمسرة. ووصل إليها متظاهرو الموجات الأولى قبل أسبوع، فأسكرتهم الحميّة. وهدرت الحناجر مطلقة عبارات مسجوعة، وقرر المتظاهرون في شعاراتهم أن حرق الملاءات النسائية كان واجباً وطنياً (كما لو أن الطقس لم يكن محرقاً)، وأن تخفيض الرواتب كان كذلك. وطلبوا من "الزعماء التاريخيين" الثلاثة التشدّد في الخط المعادي للرجعية، لأن الشعب "برمّته ماركسي".
كانت مخلفات الحكم البريطاني، كالنوادي والفيلات والثكنات العسكرية والحدائق، عالقة بالمدينة، فأعطتها هذا الطابع الخاص جداً والفريد من نوعه، لو لم تشبْهُ مسحة من الانطواء الطوعي. 

منع السفر
كانت عدن عاصمة معزولة ومنكفئة على نفسها، علماً بأنها محصورة بين البحر والجبال، ولكنها أصبحت منقطعة عن باقي العالم الغربي بفعل سياسة أمنية تقنن بشدة منح تأشيرات السفر وتمنع الاتصال بالأجانب بموجب قانون صدر عام 1975. 
كان عجوز يمني في عيد الأضحى يبحث عن شاحنة لينقل عليها خروفه، دون جدوى، فقرر استيقاف أية سيارة مجاناً، فركب بسيارة شخص سوداني. فأوقفته الشرطة عند أحد حواجزها، فأمضى يومين في السجن لأنه تكلّم مع رجل أجنبي.
انكفأت عدن على منطقتها الخلفية، فأدارت ظهرها للبحر، ولم يعد ميناؤها يستقبل سوى بواخر البلدان الشقيقة، فانطوت المدينة على نفسها وانقطعت عن باقي العالم الغربي، ولكنها أصبحت معقلاً للعروبة والاشتراكية في بيئة معادية تحكمها الملكيات النفطية.
لقد غادر الأجانب البلاد، وكذلك غادرها العسكريون والموظفون البريطانيون، وغادرها أيضاً كبار التجار من أوروبا والهند بعد صدور قوانين التأميم في عام 1969، فحلَّ محلهم المقاتلون والمناضلون التابعون للجبهة القومية، ومعظمهم أتوا من مناطق القبائل وتوزع المسؤولون فيلات النخبة الأوروبية القابعة على الشاطئ، في حين أن الريفيين أقاموا في مباني "المعلاّ" وراحوا يتخلصون تدريجياً من ثيابهم الريفية الزاهية.

* فرانك ميرمير: مختص في الشأن اليمني المعاصر، عمل مديراً للمركز الفرنسي للدراسات اليمنية في العاصمة صنعاء في الفترة ما بين 1991 إلى 1997، ثم المدير العلمي للدراسات المعاصرة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في العاصمة اللبنانية بيروت في الفترة ما بين 2009-2002، ويشغل حالياً منصب مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي.