علي نعمان المقطري / لا ميديا -
كان أحد أسماء تعز القديمة هو "عدنة"، واسم عدن وعدين وعدينة ينتشر في إقليم تعز وإب بكثرة، وهو يعني في الموروثات القديمة الجنات الخضراء الباسقة الغناء النضرة الخصبة، وهو ينطبق مع جغرافية ومناخ "تعز-إب"، ولكنه لا يتفق مع واقع عدن الجنوب التي اعتمدت على موقعها البحري الصحراوي الجاف شديد الحرارة نادر المياه العذبة، ولا يتفق هذا الاسم مع طبيعتها، فمن أين جاءها هذا الاسم الجميل؟ لا شك أن أصله في الجوار الجبلي التعزي الإبي لليمن القديم، فقد كانت ميناء اليمن التجاري الشهير منذ القدم، كما كانت ثغر اليمن على الشرق والغرب.
وهناك رواية تاريخية تقول إن "عدن" هو اسم أحد الملوك العرب القحطانيين السبئيين القدامى الذين حكموها في الماضي، وقد منحها اسمه لتخليده فصار اسماً لها مثل ذمار وسام وعلام وحام ويام... وأياً كان الأصل فإنه مربوط بشدة بالجغرافيا المحيطة بها من اليمن الأم، وأقرب الأقاليم اليمنية المركزية إليها هو "تعز-إب"، فلم تكن لحج مركزاً تاريخياً رئيسياً خارج هيمنة القبائل الحميرية اليافعية التي كانت ترى فيها نقطة زراعية تستقبل العشائر اليافعية الأصل مساقط المياه القادمة من الشمال الجبلي إلى السهل الساحلي للحج، وتستفيد من الدلتا الغرينية الطينية المتكونة عبر الزمن على وادي بنا الكبير.
وظلت نقطة منافسة بين الأصابح واليوافع حتى تغلبت عليها يافع أخيراً بإقامة إقطاعيات زراعية استنادا إلى استغلال الأقنان والفقراء الذين تكفلوا برعاية الأرض وخدمتها لصالح الإقطاعيين والسلاطين لقاء سد الرمق.
كانت لحج هي أهم منفذ بين عدن وتعز وإب والداخل اليمني طوال الزمن، والتاريخ كما يقول علماؤه محكوم بالجغرافيا البشرية والطبيعية معا، ولا يمكن إحداث تغيرات منافية لقواعد وحقائق الجغرافية والتاريخ. ومهما طال الزمن فإن كل متغييرات مناقضة لواقع التاريخ والجغرافيا تصطدم وتسقط ولو بعد حين وتعود الأمور إلى الوضع الطبيعي الأصلي. وهذا ما حصل في عدن والجنوب، وما يزال يحصل، ومازالت عريضة بيعها الإجرامية السلطانية للإنجليز تصفع وجه التاريخ بوحشية وحقارة ونذالة وسفالة لم يعرفها تاريخنا من قبل، فلم يعرف التاريخ من قبل أن تجرأ أحدهم على أن يبيع قطعة من الأرض مهما كانت حالته وهزائمه وخسائره ومعاركه، كما لم يفعل أمراء وسلاطين بلاد ما فعله أولئك السلاطين الجنوبيون في ذلك الزمن، وإذا حدث مثله فقد كان ومازال محل لعنة الأجيال اليمنية، ومحل احتقار الأجيال من أبناء اليمن الغيارى عبر الزمن. وما فعله السلاطين الأنذال الخونة الأرجاس الأوباش ببلادهم اليمنية طوال قرن ونيف من الاحتلال والاعتناق والتواطؤ والتحالف السلاطيني القبلي الخياني قد بعثرته تعز العدنية بأجسادها العارية وهي تواجه الاحتلال والاستيطان البريطاني الهندوسي الآسيوي والأجنبي في ظل تعاون قبيح من بعض أهل البلاد الذين تسلموا سلفا قيمتها مصالح وهدايا ونقوداً ونفوذاً ورعاية وسياسة وشطارة ودعارة.
كان يمانية عدن العاملون المناضلون البائسون الفقراء المحرومون الواعون الوطنيون هم ملح الأرض كما سموهم في الصحافة الوطنية والموضوعية، هؤلاء الذين كانوا يفترشون الأرصفة والخيام والصفيح والأكواخ والشوارع، هم الذين ذاقوا مرارة المحتل المباشرة نيابة عن اليمن كلها، بمن فيهم أبناء الجنوب أنفسهم الذين كانوا غارقين في قبليتهم إلى الأذقان. فلم تشهد مناطق الجنوب جميعها ما حدث في عدن اليمنية طول قرن كامل، وما حدث بعد ذلك كان عدوى عدنية تعزية شملت اليمن كلها من أقصاها إلى أقصاها.
وهذا الدور التاريخي العظيم المجيد، والذي لا يقف عنده طويلا المؤرخون والكتاب، إما جهلا وإما حسدا وأنانية وجحودا، لهو دين في الرقبة العامة على اليمن كلها. وربما كان هذا أحد الأسباب التي شوشت على وعي قطاع كبير من أبناء تعز الحاليين، ذلك أن أهم ملاحم التاريخ الحديث في مواجهة الاستعمار والرجعية كان ذلك الذي خاضته تعز في ساحة وجبهات عدن المحتلة.
وإذا كان الدور الرئيسي في الصراع مع الغزو التركي العثماني وقيادته طوال قرن ونصف، لصنعاء وصعدة والأئمة الوطنيين طوال قرن ونصف، فإن الدور الرئيسي الأكبر في التصدي للإنجليز والاستعمار البريطاني من عدن -تعز ومن تعز- لحج كان لتعز اليمانية المركزية.
وهذه الأقوال ليس فيها أية مبالغة شعورية أو وجدانية، وإن اختلط الوجدان بالعقل والمنطق في هذه الملحمة الوطنية القومية التحررية العظيمة.
لقد حاولت الرجعية والاستعمار أن يشوشا على تاريخ الوطن وتعز وصنعاء وعدن وغيرها.

فشل المواجهات القبلية قصيرة النفس
لقد حاولت قبائل اليمن الجنوبية والشمالية أن تستعيد عدن من الإنجليز، غير أن الاستعمار كان قادراً بأسلحته الحديثة أن يقمع جميع التحركات الشعبية التقليدية المباشرة.
كما حدثت العديد من الانتفاضات القبلية المتفرقة غير الموحدة في عدد من المناطق، لكن المستعمر قضى عليها وكان مصيرها الإخفاق والفشل في مهادها.
لقد كانت تمثل نوعا من المواجهات قد تجاوزه العصر والظروف والزمن، فقد كانت غير موحدة وغير قابلة للتوحد، لأن كل قبيلة تنتفض كانت تصنع ذلك وفقا لتقديرها ومزاجها الخاص وعلاقاتها بالإنجليز والسلاطين المحليين، وكلها كانت تعتمد على دعم حكومة تعز وصنعاء وإسنادها اللوجستي بقيادة شيوخها القبليين، لكن وبسبب أسلوب تفكيرهم الضيق المحدود كان الفشل هو المصير الدائم لجميع التحركات القبلية المحلية، لذلك استقر في أذهان الجنوبيين -للأسف- أن مواجهة الإنجليز مهمة مستحيلة، لكنهم لم يفهموا متطلبات التاريخ الجديدة ولم يستوعبوا قوانينه الجديدة، ولم يفهموا الأهمية القصوى في الكفاح الوطني للمركز الشعبي والتمركز الاجتماعي في الساحة الرئيسية لقاعدة الاحتلال، ولم يدركوا بعد أهمية الدمج بين أشكال الكفاح الشعبي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والمسلحة.
إن البريطاني مادام يسيطر عسكريا وسياسيا على قاعدته الكبرى في عدن وحواليها سيظل قادرا على مواجهة وقمع كل تحرك يأتي من خارجها مهما كانت قوته المادية المباشرة، فلا يبقى سوى التفكير في أساليب كفاحية جديدة تنبع من داخل ومن قلب عدن وسكانها أنفسهم، ومن خارجها أيضا، ومن أطرافها في وقت واحد، وكانت هذه المتطلبات الجديدة هي التي تتوفر في يمانية "عدن-تعز" وحدهم، فهم الذين يسيطرون على الأرض بحكم حياتهم اليومية وارتباطهم بالأرض والعمل طوال القرن، وتكونت لهم قواعد وجذور ليست لأي جماعة أخرى، وكانوا هم الذين ينتشرون في جميع مسارات مناطق وقواعد ومعسكرات ومؤسسات المستعمر، كعاملين وأجراء وموظفين وشغيلة وتجار وكسبة ومثقفين وكتاب وفنيين، وكانوا مرتبطين بثقافة العصر الاقتصادي العالمي الجديد المسيطر ونقيضه الموضوعي الرئيسي التناحري القادر على مدافعته الطويلة لعقود وقرون عبر كفاح طويل النفس.
وحسب المنطق الفلسفي الجدلي الثوري الحديث يعني ذلك أن هزيمة العدو المستعمر المسيطر ليست تمكنة إلا إذا اخترقت قواعده ومؤخراته ومراكزه الاقتصادية والعسكرية وعانى من استنزاف كفاحي شعبي غواري انتفاضي منظم وواسع وطويل، ويمارسه الشعب كله في مركز الصراع الرئيسي وأطرافه. 
وهذا ما لم تكن تستطيعه أية قبيلة أو سلطنة من خارج عدن ومن داخلها، لأنه ليس لها امتداداتها الاجتماعية في عدن بعد بيعها للاستعمار منذ قرن وانعزالها من البداية عنها بحكم موقعها كميناء صغير بعيد في أقصى الجنوب الغربي للعالم أو في نهاية العالم كما سماها الفيلسوف الفرنسي (رامبو) الذي عاش فيها لفترة من الزمن، أو كما وصفها الشاعر العربي القديم بقوله:
فقالت وقد لاحت ربى الأعلام من عدن
امنتهى الأرض تبغي أم منتهى اليمن؟!
فعدن اسمها منتهى الأرض، ومنتهى اليمن في وجدان الأجيال المتعاقبة، ولكنها وقد صارت إلى سيطرة الاحتلال فقد انعزلت عنها قبائل الجنوب كافة، ولم تحاول سكناها أو العمل والبقاء فيها وتحدي الاحتلال، فقد سلموا له بالأمر الواقع، ولذلك لم تستطع توحيد قواها الوطنية، كما لم تنتج وعيها الوطني القومي التوحيدي الثوري الحديث، لأنها كانت منعزلة في الجيتوهات القبلية المتفرقة المتصارعة المتمثلة في الـ24 سلطنة ومشيخة ودويلة لكل منها حدودها وحكومتها ودويلتها الميكروبية الخاصة، وتنتج كل منها هويتها الخاصة الانقسامية العنصرية المضادة للهويات الأخرى.
وكان البريطاني قد حول عدن إلى مبغى كبير وماخور يستقبل كل من يحتاج إلى الغواية والفسق والفجور. كان يوفر ويشجع ويحمي وينشئ المزيد من الأندية والمواخير وأسواق بيع الرقيق الأبيض والأسمر والأصفر. وكان لكل أمير وشيخ قصره الخاص في شواطئ عدن يأتيه ليقضي أوقاته السعيدة في ضيافة المستعمر البريطاني وتحت حمايته وبإذنه، وقد نقل إليها كل الأسباب التي تجعل من السهل السيطرة على نفوس وغرائز وعقول السكان والنخب التي تخدمه والبؤساء الذين يستغلهم ويمتص دماءهم وحقوقهم.

سلخ عدن عن اليمن
نتيجة الوضع التاريخي لـ"تعز ـ عدن"، قررت مصير عدن التاريخي وهويتها الحديثة بحكم تأثيرها ودورها في مواجهة مشاريع الاستعمار البريطاني الانسلاخية لعدن المحتلة، حين تدفقت مئات الآلاف من أبناء تعز والمناطق المجاورة للالتحاق بمشاريع البناء والصناعات والعمل في المدن الجديدة التي أقامها الإنجليز خدمة لقواته ومتطلباته الاستراتيجية. وبهذا، وعبر الزمن الذي تواصل لأكثر من قرن، تكونت مع الوقت كتلة بشرية تعزية مشتركة تسكن ضواحي المدينة وتحيط بها إحاطة السوار بالمعصم بطرق تلقائية عفوية ودون تخطيط مسبق، وإنما توجهات تلقائية بحسب متطلبات العمل والحياة المادية والاجتماعية أمام استغلال متضاعف من الإنجليز ومن الجاليات الأجنبية المسيطرة على عدن بإسناد المستعمر لها ضمن مخططات لفصلها عن الوطن وضمها لدويلات الكومنولث البريطاني.
ولمن لا يعرف الكومنولث البريطاني فهو تنظيم بريطاني سياسي يضم جميع المناطق والدويلات والأقاليم التي استعمرتها بريطانيا وحين حانت لحظة فصلها عن أوطانها أعلنتها إقليماً مستقلاً يتبع الكومنولث البريطاني، وترأسها فخريا واستراتيجيا ملكة بريطانيا وحكومتها، وتدعي بريطانيا أنها صارت دويلة مستقلة لها حكومتها الخاصة.
وكانت بريطانيا قد أعلنت عدن مستعمرة مملوكة لبريطانيا وفقا لعقود شراء وبيع لها من جانب سلاطين لحج يافع العبادلة بمبلغ ثلاثة آلاف ريال "فرانصي" (فرانك)، دفعت للسلطان العبدلي سلطان لحج وحليف بريطانيا بعد احتلالها بقوة السلاح والأساطيل، وانتهزت بريطانيا اعترافا باستقلالها الخاص من جميع سلاطين الجنوب العملاء لبريطانيا وأولهم سلاطين لحج وأبين وشبوة وغيرهم، وتأسست مستعمرة عدن التابعة لوزارة المستعمرات البريطانية في لندن، وأصبحت رسميا مسلوخة عن الكيان اليمني منذ دخولها تحت الاستعمار الإنجليزي مطلع القرن لتاسع عشر الميلادي.
وواصلت بريطانيا شراء الأراضي المجاورة لميناء عدن في الشيخ عثمان ودار سعد والبريقة ومدينة الشعب وسواحلها وجوارها تدريجيا بالأموال من سلاطين لحج المتوالين الذين مكنوها بدون مقاومة من التوسع الجغرافي أكثر فأكثر حتى صارت لها تلك لمساحة بحجم دويلة.
لقد كانت عدن مباعة في الواقع من قبل سلاطين لحج وأبين تحديدا مقابل دعم الإنجليز لهم ضد منافسيهم من القبائل والأسر المنافسة وأولاد الأعمام والأخوال، وكان السلاطين يتعاملون مع هذا الواقع على أنه حقيقة قانونية، ولها حدود لا يستطيعون تجاوزها، فإذا قدموا إلى عدن يقدمون كضيوف على الحكومة البريطانية ولا شأن لهم بعدن ولا بأهلها ومشاكلها وامتيازاتها وطبيعتها الجديدة وخصوصياتها وأمورها ومجتمعها الداخلي وعلاقاتها، حتى صارت آنذاك قطعة من الهند البريطانية تحكم من الهند ومن كلكتا وحكومتها وتتبع حاكم الهند البريطاني.
 
فقدان الهوية العربية اليمنية الإسلامية مواجهة غربة وجحود
لم يبق في عدن ما يشي بانتمائها إلى الوطن العربي وإلى اليمن حتى وقت قريب، قبل سيطرة أبناء تعز اليمنيين العرب على أرضها وأرضهم واستعادة العروبة والهوية الوطنية مجددا عبر كفاح طويل عفوي.
إذ إن السلاطين كافة كانوا قد وقعوا معاهدات واتفاقيات تقر صراحة بانسلاخ عدن عن الجنوب وعن اليمن والبلاد العربية كما تقول الوثائق، وأنها بيعت شرعيا للإنجليز تتصرف فيها كما تشاء. وكان هذا متضمنا معاهدات الحماية والصداقة مع بريطانيا العظمى، سيدة نعمتهم الجديدة. 
ونحن إذ نستذكر هذا اليوم، فلأن المؤرخين قد مروا سريعا على تطور الأوضاع في عدن والجنوب ولم يقفوا طويلا وعميقا على حقيقة تطوراتها وظروفها والنتائج التي أحدثتها في مجرى التاريخ الوطني سلبا وإيجابا. ونحن نريد أن نذكر الجاحدين لأفضال تعز على الوطن وعلى الجنوب، خاصة الذين يتحدثون اليوم عن الانسلاخ عن اليمن كأنه حقيقة تاريخية، وقد كانوا كذلك في الواقع، لولا أن تعز اخترقته بجماهيرها العاملة في عدن التي خاضت مع المستعمرين والأجانب المستوطنين معارك ضارية باردة وحارة سياسية واقتصادية وثقافية طوال قرن ونيف من الاحتلال لاستعادة عدن وهويتها العربية والوطنية اليمنية، فأفسدوا على الحلفاء والعملاء والمستعمرين طبخاتهم في اللحظة الأخيرة حين دخلت المعركة ضد الجميع من سلاطين وأجانب ومحليين عملاء لبريطانيا ووكلاء لها، حين سيطروا على الأرض العدنية اليمنية العربية، وحاصروا القصور والعمارات الارستقراطية العميلة، ورفضوا التفريط فيها لحساب هويات غريبة عن الهوية الوطنية اليمنية العربية الإسلامية.

وفي المقابل كان هناك الأيديولوجيات الاستعمارية التي استعانت بالهوية الطائفية المختلفة والتنافرات المذهبية التي اختلقها المستعمر فاستعان بالوهابيين والإخوان والسلفيين والبعث الاستعماري الأصنجي الشهير، الذين أضفى عليهم أسماء وشعارات مضللة على شكل أحزاب وحركات وجماعات مذهبية وإسلامية برعاية المستعمر نفسه، مثل "حزب رابطة أبناء الجنوب العربي"، بزعامة الشيخ والسلطان التاجر والعميل للمخابرات البريطانية عبدالرحمن الجفري وزميله العميل الشيخ السلطان شيخان الحبشي، وهما من كبار عملاء الاستعمار المشهورين، وهما من رجال الإخوان الوهابيين في الجنوب، ومن تربية الشيخ حسن البنا في مصر منذ الثلاثينيات خلال دراستهما هناك على يديه، ومعهما عبدالله الأصنج، رئيس "حزب الشعب" البعثي العميل للاستعمار، ومحمد سالم باسندوة تلميذ التربية البريطانية في مستعمرة عدن ولندن. وكان ياسين سعود آنذاك أحد أعضاء تنظيم الرابطة العميلة، وهي منظمة مخابراتية تقوم بتحشيد أتباع وأنصار بريطانيا وتكوين كيان استعماري مستقل عن اليمن، وقد تكفلوا بإيجاد رأي عام محلي بين السلاطين وشيوخ القبائل وعوام المواطنين العدنيين المضللين لإيجاد كيان منفصل عن الهوية اليمانية الأصلية برعاية بريطانية وإسنادها في مواجهة الدعوات الوطنية الاستقلالية التي نشطت خلال الأربعينيات والخمسينيات مع صعود موجة القومية العربية. وقد تصدت جماهير تعز في عدن للمؤامرة الاستعمارية من خلال تنظيم نفسها وتوحيدها في النقابات العمالية والشبابية والمؤسسات الشعبية والأندية القروية والجمعيات الأهلية والتعاونيات التي اتحدت كلها في تنظيم الجبهة الوطنية المتحدة، ورفعت شعار اليمنية الوطنية والوحدة والقومية العربية والانتماء لليمن الواحد والمطالبة بالاستقلال والتوحيد. وقد بطش المستعمر بعدد من قادتها وطاردهم وأجلاهم عن عدن إلى حدود لحج، ومنعهم من دخولها. وقد تناولت صحف تلك الفترة إلى تلك المعارك والأحداث باستفاضة، وكان في طليعتها المناضل العمالي محمد عبده نعمان الحكيمي الذي تعرض للمطاردة من قبل الإنجليز نتيجة دعوته الوطنية.

المنظور السلاطيني العميل
لقد نظر السلاطين والقبليون إلى عدن آنذاك كقرية قاحلة قفراء لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع، ولا يوجد فيها سوى الصيادين القلائل الضعفاء، وكان كل من فيها لا يزيدون آنذاك عن الـ500 فرد، فلم تكن في نظرهم تساوي شيئا ذا بال بعد أن أُقفرت وتراجعت خلال الاحتلال العثماني المتوحش، وقد كانت عبر التاريخ مزدهرة تصل المياه إليها عبر القنوات الصناعية الموصولة من لحج وأنهارها وسيولها القادمة من الشمال اليمني.
كما كانت في العهود الحميرية والسبئية القديمة الموغلة في القدم تتوفر على سدود وخزانات مياه ضخمة ما تزال معالمها باقية إلى الآن في جبل عر شمسان والطويلة، وكانت لفترة مدفونة تحت طبقات من الغبار والتربة والرمال، وكانت حدائق غناء في عهود ماضية قبل مجيء المحتل والغازي.
ولم يعرف لها حقها الحضاري وإرثها الثقافي الأثيل وماضيها الأصيل بعد أن اندرس لزمن وأحقاب سوداء إلا أبناء تعز حين هبوا سيولا لا تنقطع من البشر الناشطين العاملين الذين فاضت بهم الأرض اليمانية فتحركوا جنوبا في هجرة داخلية بين أقاليم الوطن للبحث عن الأعمال وأسباب الرزق والحياة في ظل الاستعمار العثماني (الأول والثاني) والبريطاني اللذين خلفا الخراب والدمار والأمراض والجوع والفقر لأقاليم اليمن الخضراء كافة، فتم تحطيم وسائل الإنتاج والزراعة والري وأسباب العيش والحياة.
ولذلك لا نلمس ذلك الانتماء للقبائل البدوية لعدن إلى اليوم، فهي منظور إليها كمساحة استغلال واستنزاف يجري تبادلها بين المستعمرين المختلفين وعملائهم، ومساحة حرب قبلية بينهم تصفي القبائل حساباتها السياسية والعشائرية بكل الأسلحة بما فيها الصواريخ والطائرات والدبابات كما حدث في أوقات قريبة ويحدث اليوم بطرق مختلفة ومتعددة.
مازالت الروح السلطانية القبلية العفنة الاستعلائية الانعزالية المسيطرة على مقاليد عدن والجنوب المحتل اليوم تنظر إليها النظرة القديمة نفسها في عهد الاستعمار القديم، وقد لاحظنا تلك الروح المتوحشة تجاه عدن في مختلف العهود، من الماضي والحاضر القريب والأقرب والآن، روح متوحشة ترى في عدن مجرد سبية زاهية مغلوبة على أمرها بعد أن غادرها حماتها ورجالها ومحرروها وصارت مستضعفة يتصارع للسيطرة عليها مختلف أمراء الحرب والعملاء والمستعمرين، بعد أن كانت حتى وصول البريطانيين في القرن التاسع عشر الميلادي مجرد قرية صيادين صغيرة بعد أن تراجعت الأنشطة الاقتصادية والتجارة الخارجية مع العالم عبر عدن بعد قرنين من الاحتلال العثماني المتوحش الذي اجتاح عدن في مطلع القرن السادس عشر الميلادي حين كانت ما تزال درة اليمن ومركزها السياسي والاقتصادي وعاصمة اليمن من قبل الدولة اليمنية الوطنية العامرية.

تحولت عدن إلى قرية صغيرة ملحقة بالسلطنة اللحجية العبدلية اليافعية ومركزها "لحج يافع"، وكانت تتبع سلاطين يافع العليا ويتكفلون لها بالحماية إزاء القبائل المنافسة، لقاء رسوم وضريبة مقررة تدفعها سنويا من خزانتها ومصادر دخولها لسلاطينها من أمراء الحروب الإقطاعيين، كما كانت العادة المتبعة آنذاك في ظل غياب الدولة الوطنية المركزية الموحدة، ولذلك فقد توحدوا مع الاحتلال في هدف واحد مشترك، هو تمزيق المكونات القبلية العشيرية في سلطنات إقطاعية متفرقة كثيرة يستغلها الأمراء والسلاطين، وقد نقلوا هذا النظام الإقطاعي الحربي من الإمارات والسلطنات الهندوسية الهندية الإقطاعية الاستبدادية عبر البريطانيين الذين هندسوا احتلالها.

تعز.. سر التعريب والتحرير والتوحيد
كيف عادت إلى عدن هويتها بعد ضياعها لزمن طويل؟ إنها تعز أولاً، وإنه الوطن اليمني كله الذي ساند تعز وجماهيرها روحيا وسياسيا وماديا خلال معارك الإنقاذ والاسترداد والاستقلال والتوحيد التي تواصلت لقرن ونيف.
كان الإنجليز يحتلون عدن عسكريا بـ150 ألفاً من الجنود المنتشرين عبر مساحات المستعمرة الواسعة وسواحلها وشواطئها وجزرها. وكان الإنجليز المستعمرين للهند قد استخدموا الكتلة البشرية الهندية الضخمة الوادعة كقوة إخضاع إدارية وأمنية وعسكرية واقتصادية وتجارية وحرفية وصناعية وفنية وثقافية للسيطرة على عدن واستيطانها ومحو كل أثر للعروبة والإسلام والهوية اليمنية الأصلية. وكانت الظروف والأوضاع الإقليمية والعالمية تؤكد وترسخ حلم البريطانيين في سلخ البلاد العدنية عن أرضها ووطنها الأم، وتجعل أبناءها يتيهون وهم يحلمون أو يعيشون الحلم فعلا لبعض الوقت.
فالتاريخ يوضح أن السلاطين القبليين لسلطنات لحج وأبين وشبوة وغيرهم قد عقدوا مع المحتل صفقات وصفقات أهمها أن يمنعهم وسلطناتهم ويحميهم من شبح اليمن الأم ومطالباتها بالاستقلال والتوحيد للجنوب اليمني، وهي اتفاقيات وصفقات محبوكة كانت عمان نموذجا ناجحا لها، حين استغل البريطانيون الصراعات الداخلية التي افتعلوها بين المناطق اليمنية وقبائلها ومنافساتها التي لا تتوقف، فأشعلوا فيها عوامل التمزق والتشظي والانقسام وتوسيعها وتحويلها إلى مشاريع محلية سياسية متعددة وإمارات تبدو مستقلة وخصوصية وإثنية وجغرافية متباينة تسمح بالتعبير عن الذات المحلية والقبلية المختلفة الخاصة وفقا لسياسة بريطانيا الشهيرة: "فرق تسد"، التي طبقتها في جميع البلاد التي احتلتها أو استعمرتها، ومنها بلاد العرب والمسلمين التي طبقت فيها هذه السياسة بجدارة وبأريحية وبتعاون من قبل زعمائها التقليديين وحكامها الأصليين وملاكها وسادتها عبر القرون الذين كثيرا ما تظاهروا بالغيرة على الأرض والعرض والشرف الرفيع الذي لا بد أن تراق على جوانبه الدماء. وقد استغرب المستعمر نفسه من السرعة التي تكيف خلالها الأمراء البدو مع المستعمر وأمزجته وطبيعته، وأدركوا بالسرعة المثالية مطالب وأهداف المستعمر وأهمية أن ينفذوا كل طلباته وأهدافه وأغراضه بدون تردد، فهي كلها تتطابق مع أهدافهم ومع مصالحهم الفردية والجماعية.
هكذا استطاع المستعمر بسهولة ويسر وبدون مقاومة أن يطبع أخلاق وطبائع الشريحة القيادية العليا للمجتمعات الجنوبية أهل الحل والعقد والسيطرة والهيمنة، فقد تطبعوا خلال العهد الاستعماري التركي أولاً، ثم جاء البريطاني وهم جاهزون تقريبا لكل طلباته ومغرياته.
فالعهد التركي قد أقنعهم طويلا بأنهم من طينة خاصة مختلفة عن بقية البشر واليمنيين والعرب والمسلمين، وأن المصلحة المباشرة للإقطاع والسلاطين مقدمة وفوق كل اعتبار، وأن المعبود الوحيد الذي يستحق العبادة هو فقط المال، والمال وحده، ومن أي طريق جاء. كان طريق الفساد الإداري السلطوي قد أصبح في ذلك العهد هو العقيدة المحترمة والصراط المستقيم الذي يقيسون به الحق والباطل والشر والخير والمليح والقبيح، فالاحتلال لا يولد إلا الاحتلال.
إن الحالة السوداء القديمة نفسها مازالت في جنوبنا الحبيب محمولة على أكتاف العملاء القدامى والجدد وأبنائهم وأتباعهم المضللين، والليلة شبيهة بالبارحة في امتداد تاريخي لم ينقطع رغم التطورات التحررية والوطنية والثورية العاصفة التي عصفت بالمنطقة والعالم خلال العقود الماضية من القرن الماضي ومازالت عاصفتها حية تثير الكثير من الأحداث.

لقد كانت الفترة الاحتلالية التركية الأولى التي امتدت 100 عام متواصلة، من جانب الشعب الثوري المقاوم المضحي، مرحلة تضحية وفداء وبذل ومعاناة ومكابدات جماعية وفردية من أجل التحرير والاستقلال، وكانت في الوقت نفسه لفئة أخرى من الناس فرصة للتكسب والتربح والتجارة والنفوذ والتعاون مع المستعمر ومساعدته لتحقيق أهدافه مقابل الخدمات والمكاسب المالية والمادية التي يمكن كسبها منه. وخلال تلك الفترة نشأت طبقات في ظل الاحتلال مختلفة عن الطبقات الماضية، من حيث طبيعتها وأخلاقها وفسادها وانحلالها وتفلتها عن القيم الدينية والروحية والوطنية، وقد كونت ثروات على هامش خدمتها للاحتلال التركي وأضحت جاهزة لخدمة الاحتلالات اللاحقة، وفقا لأفضل الإتيكات والأصول المعتمدة. وتعتبر الفترة الفاصلة بين المرحلتين مرحلة انتقالية حاسمة في الإعداد للمشاريع الاستعمارية الجديدة، حيث كان السلخ الأجنبي لأقاليم معينة بعينها عن الوطن واحدا من تلك المشاريع الشيطانية. وكان المفتاح الجهنمي لتلك المخططات هو تقسيم اليمن وتشظيتها بين استعمارات غربية وتركية عديدة متعاونة ومتحالفة في الجوهر مهما اختلفت سحناتهم ولهجاتهم وعقائدهم.

عبقرية الشعوب الأصيلة وتوجهاتها
كيف تستطيع أمم أو شعوب عزلاء ممزقة وفي لحظات صعبة أن تتماسك وأن تواصل وحدتها وتواجه بمرونة شديدة كافة التحديات وبنجاح شديد يفوق مخططات الاستعمار وتحدياته وقدراته ومكائده ومخططاته وعملاءه، وأن تحقق في النهاية أهدافها العامة والوطنية ومطالبها الأساسية الاجتماعية والثقافية والعقيدية والديمغرافية دون إرادة الاحتلال، وإنما رغما عنه ومن خلال صراع طويل المدى بين الجانب الوطني الشعبي العام وبين الاحتلال الأجنبي وقواه وأجهزته ونظامه المسيطر والمهيمن؟
رب قائل قد يقول: إن تعز أو عدن لم تخطط لكل ذلك الذي حققته لليمن وللجنوب، كما لم تدركه أيضاً في وعيها بعد بشكل كامل.
أجل، هذا قد يكون صحيحا، ولكنه لا ينفي التاريخ وصناعه وذواته البشرية، الذين لا يدركون من البداية حجم ما يفعلونه ويحققونه ومدى أهميته وخطورته إلا من النتائج المتحققة الصادمة والمؤثرة. وهم يفعلون ذلك كرد فعل يومي ولحظي على كل إجراءات الاحتلال وسياساته، ومقاومتها ورفضها بطريقتهم وفقا لتجاربهم وخبراتهم. وهم يفعلون ذلك انطلاقا من أوضاعهم التاريخية الموضوعية والعامة، أي انطلاقا من شروط حياتهم وظروف معيشتهم ومواجهاتهم اليومية مع العدو الرئيسي، من صراعهم المستمر مع العدو الوجودي الذي يهدد وجودهم كل يوم وكل لحظة من وجوده الطاغي على حياة الشعب والناس الذين يضطهدهم ويستغلهم. وكانت الطبقة التعزية اليمانية الكادحة العاملة في المستعمرة ومؤسساتها تتعلم منه أسلحة المواجهة خلال الصراع الدائم ضده، لأنه هو أيضاً كان ينظر إليها كعدو يهدد وجوده في المنطقة.

وسائل الكفاح والتحرير
كان الوعي العفوي اليماني العروبي للتعزيين في عدن يتجلى في السعي لامتلاك موارد القوة ووسائلها ومنظماتها وينياتها، ونعرف ذلك من النتائج، كما يتركز حول عهد قطعوه على أنفسهم بإجماع بامتلاك العلم والمعرفة ووسائله، هو ألا يجعلوا أولادهم شقاة وأميين وجهلة بؤساء مثلهم، فيشقوا ويتعسوا ويتعذبوا مثلهم، وأن يحرروا أنفسهم ووطنهم من الاحتلال بشتى الطرق والوسائل المتوفرة تدريجيا وعلى امتداد زمني طويل.
كانوا يفهمون أن المدخل هو التسلح ببنية تعليمية وسياسية وطنية شاملة مستقلة خارج سيطرة الأجنبي وإدارته، استغلالا للثغرات الليبرالية في أيديولوجية المستعمر نفسه وادعاءاته والتزاماته كبلد محتل لأرض وطن آخر وأمة أخرى من حقها الحفاظ على هويتها وحقوقها الأساسية في أن ترفض الاحتلال نفسه ولو سلميا في البداية التي لا بد منها كمرحلة مؤقتة أولية تهيئة للمراحل الصدامية التالية القادمة، ولذلك فهموا أهمية الوسائل التعليمية والعلم الحديث العصري وأهمية الحصول عليه والنهوض به من أحدث مستوى وأجدد طراز، ولذلك توحدوا حول مشاريع بناء الصروح التعليمية وتبرعوا برواتبهم وأجورهم وأموالهم لأجل بناء الصروح التعليمية الكبرى في عدن الشمالية المهمشة المحرومة من التعليم الحكومي العام، فراحوا يبنون كلية بلقيس وكلية النهضة وبازرعة والمعهد الإسلامي والكلية الأهلية ويدخلون أولادهم للحصول على التعليم وفق المناهج المتعددة الإنجليزية والهندية والمصرية والعراقية واللبنانية.
ثم ركزوا على نقل التعليم والمدارس إلى القرى والأرياف التعزية، فكونوا جمعيات أهلية لكل تجمع قروي محلي لإسناده بالأموال والتبرعات، وواصلوا بناء المدارس في قراهم ومناطقهم وعشائرهم وقبائلهم. وهكذا منذ وقت مبكر عرفت مناطق الحجرية المدارس والتعلم الحديث، وكانت في طليعة تلك المناطق مناطق حيفان والأغابرة والأعبوس والأحكوم وذبحان والأصابح والمقاطرة والقبيطة وشرجب وأديم وقدس ودبع وبني عمر وشرعب وبني شيبان والمذاحج وبني حماد والأثاور والزريقة والعزاعز... وكانت تلك العشائر النشيطة المتواجدة في عدن كعمال وموظفين وطلاب وتجار، قد شكلوا مجتمعا عربيا يمنيا مسلما مقاوما وطنيا ضم مختلف الشرائح الطبقية الحديثة. وكانت فئات عديدة قد كونت ثروات لها من اغترابها ومن أنشطتها التجارية والفنية واستثماراتها وطنيا في العمل الوطني العام. وقد ارتبط في الوعي العام وثبتت حقيقة ألا أمل بأي تغيير أو تحسين أو استقلال أو تحرر بدون التعليم الشامل لشباب الأمة وامتلاكهم القوة والوسائل السياسية والعامة والوحدة الوطنية.

أرض الحداثة الوطنية
عاشت عدن تحت الاحتلال أكثر من قرن ونيف، وحتى وصول الإنجليز إليها كانت قد انقطعت عن تطور الحالة التاريخية السلاطينية الإقطاعية السائدة في جميع القبائل المجاورة لها، فقد كانت مجرد قرية صيادين فقراء مدقعين في عهد العبادلة، هامشية تقبع في طرف العالم القديم، لا ماء فيها ولا حياة ولا زراعة، جبال جرداء تحيط بها على حافة بحر العواصف الكبير جرى بيعها للإنجليز كبقايا قطعة أثرية من الماضي، وبعدها صارت تحت الإنجليز قطعة ملونة مزركشة هندوسية الطابع، جاليات أجنبية متعددة، حتى صارت إقليما أجنبيا غريبا في لغته وهويته وثقافته المستوردة وقومياته المسيطرة على المنطقة، مستوطنة كولونيالية بحق وحقيقة، مستعمرة آسيوية ـ بريطانية ـ مهجنة.
ويمكن تقسيم فترة الاحتلال لعدن إلى قسمين أساسيين:
أولهما: فترة سيطرة الأجناس الأجنبية على عدن برعاية الإنجليز وتخطيطاتهم، وهي فترة تمتد من ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين، وكانت فترة سيادة الأجنبي بشكل كامل.
ثانيهما: الفترة الممتدة من مطلع القرن العشرين إلى الاستقلال في نهاية الستينيات.
ويمكن التأكيد على فترة نهاية الحرب العالمية الأولى ونتائجها وتحقيق استقلال القسم اليمني الداخلي الشمالي من نير الاستعمار التركي وقيام دولة وطنية حرة.
فقد هبت رياح التحرير في كافة أرجاء الوطن العربي الواقع تحت الاحتلال الأجنبي والغربي بعد فضيحة مؤامرة "سايكس بيكو" و"وعد بلفور" البريطاني الإجرامي وثورة أكتوبر 1917، وانكشاف الخداع الغربي للعرب، فقد شهدت البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى العديد من التحركات الثورية والتحررية الاستقلالية التي عمت الوطن العربي خلال العشرينيات والثلاثينيات، ففي مصر قامت ثورة عام 1919 بقيادة سعد زغلول والوفد الوطني واستمرت حتى عشرينيات القرن بنتائجها التي ختمت بقيام حكومة مصرية من أعيان مصر وباشواتها. وفي العراق اندلعت ثورة العشرين الشعبية الوطنية التحررية ووجهت ضد الاحتلال الأجنبي عام 1920، التي هزت الوجود البريطاني بعنف شديد واضطرته إلى الاعتراف بحكومة محلية وإعلان دستور متواضع. وفي الشام وسورية اندلعت الثورات العنيفة ضد الاستعمار الأجنبي (البريطاني ـ الفرنسي) في كل مكان واستمرت حتى قيام تسوية سياسية مؤقتة والاعتراف لهم بحكومة محلية في ظل المستعمر، ومثلها في غيرها من البلاد العربية الأخرى. وكانت خمسة أقطار عربية قد تمكنت من الحصول على اعتراف لها بحكومات محلية رغم وجود المحتل الغربي في بعضها وأغلبها. وقد اندلعت الثورات والتحركات في الكثير من البلاد العربية، غير أنها لم تتمكن في حينه من تحقيق تقدم على الطريق إلى الاستقلال والحرية، رغم التضحيات الضخمة المبذولة في كفاحها ضد الاستعمار، مثل ليبيا مع عمر المختار والحركة السنوسية والجزائر والمغرب وثورة القسام في فلسطين.

عصر الثورات التحررية الوطنية والقومية
لقد كان عهد ما بعد الحرب الأولى عصر ثورات عالمية، فقد شهد العالم كله ثورات تحررية، من أوروبا إلى روسيا إلى الصين إلى الهند إلى تركيا والمجر وآسيا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وإلى المكسيك. وكانت عدن في مركز العواصف والأحداث من موقعها الجغرافي الاستراتيجي الجيوبوليتيكي والتاريخي بالنسبة للمستعمر وبالنسبة لليمن والوطن، وكانت كل التيارات التحررية والحداثية والاستقلالية والقومية والعربية والإسلامية الثورية تؤثر عليها مباشرة، فقد كانت النقطة المركزية الواقعة وسطا بين مختلف الأقاليم والبلدان والمناطق المشتعلة وفي القارات، وكانت حصيلة احتكاكها بالعالم العربي والدولي وصراعاتها اليومية مع المحتل وتأثرها بما يجري في العالم العربي والعالم، أنها نقلت ما يناسبها من أيديولوجيات ثورية وفكرية تتناسب ووعيها العام التجريبي المتكون من حياتها وتقديراتها الواقعية وظروفها، وقد ضاعف نهضتها العربية اليمانية التحررية الاستقلالية والفكرية والنفسية والوجدانية مجموع الأحداث الكبرى التي كانت تعتمل وتتفجر في المحيط العام العربي والعالمي.

عواصف التاريخ
وكانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حبلى بالأحداث والتطورات، وكان أبرزها وأكثرها تأثيرا في الوجدان الوطني اليمني العدني مجموعة من الأحداث التاريخية القاسية التي ألمت بالأمة العربية وشكلت الوعي الجديد، وهي:
ـ نكبة فلسطين في 1948. 
ـ ثورة يوليو 1952.
ـ محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر وهو يخطب على الهواء مباشرة في الإسكندرية عام 1954 من قبل تنظيم الإخوان الوهابيين الإرهابيين الذين كلفهم الإنجليز بالقضاء على الثورة وقيادتها انتقاما منها 
ـ تأميم قناة السويس.
ـ العدوان الثلاثي على مصر عبدالناصر في العام 1956.
ـ بناء السد العالي في مصر.
ـ قيام الوحدة العربية المصرية السورية عام 1958.
ـ الثورة الجزائرية 54م 62م ثم الثورة العراقية 58م.
ـ الانفصال المشؤوم في العام 61م من قبل الانفصاليين بدعم السعودية والاستعمار الأنجلوأمريكي والأردن و"إسرائيل".
ـ قيام الثورة اليمنية في صنعاء وتعز، ودعم القاهرة لها بإرسال قواتها إلى اليمن، وإعلان عبدالناصر من تعز في خطابه الشهير أن على بريطانيا أن تأخذ عصاها وترحل من عدن والجنوب اليمني، وأن الثورة الشعبية سوف تدفنها في رمال وجبال ومدن وأقاصي الجنوب وعدن.
إن تلك الأحداث العظيمة الكبرى المتسارعة وكثيفة التأثير التي شهدتها حقبة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، قد فجرت بنية الوعي القومي العروبي المستتر الغامض إلى ذلك الحين، وكشفت طبيعة الصراع وحقيقة أعداء العرب والمسلمين ومن هم وأين هم وبماذا يفكرون ويضللون.
وتلاقت تلك الأحداث وآثارها والأفكار الثورية الحارة التي كانت تطلقها إذاعة "صوت العرب" من القاهرة التي كانت موجهة لاستنهاض الأمة العربية المقهورة المستضعفة ومنحها الوعي والإدراك والإحساس بكرامتها وعزتها وحقوقها وأراضيها المغتصبة وإعدادها وتعبئتها وتحريضها على النهوض ومواجهة المستعمرين وعملائهم وعبيدهم وإسقاطهم في كل قطر عربي، وتبلورت آثارها في مختلف المجالات الحياتية التي تواجهها في مواجهة المستعمر البريطاني الذي كان يسيطر على أغلب الأقطار العربية.
كان الصراع مع المستعمر في الماضي يتم ببطء، أما الآن ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي فقد تسارعت الأحداث وتكثفت الأفكار المرتبطة بها، وخلقت الكثير من الأحداث المتولدة عنها وبدونها، فقد اشتد الصراع مع المستعمر مع اشتداد وتائر الثورة القومية ضد الاستعمار البريطاني الصهيوني والرجعية المحلية التي جردتها مصر وثورتها التي اتسعت أبعادها ومؤثراتها ومفاعيلها لتشمل العالم العربي الإسلامي وأفريقيا الحرة. وبتأثير الثورة المصرية وريادتها القومية تفجرت العديد من الثورات الوليدة لها، كالثورة الجزائرية والعراقية واليمنية واللبنانية والسورية والسودانية والليبية وغيرها.
كل تلك المؤثرات والأحداث كانت تستقبل بحماس وعزم في البيئة التعزية اليمانية العدنية الحرة التي كانت تواجه المستعمر من خلال المظاهرات الشعبية الجماهيرية اليومية والإضرابات السياسية والصدامات مع الشرطة الاستعمارية، وكانت تتصدى للإنجليز وعملائهم وتنادي بالحرية والاستقلال والوحدة العربية واليمنية وبعبدالناصر زعيما قوميا للعرب كافة، وتطالب الشعب العربي في عدن والجنوب بالوحدة مع الجمهوريتين اليمنية والمصرية.

أزمة الفكر المحلي الوطني من أين نبعت أزمة الفكر الوطني المحلي؟
لقد عبر الفكر الوطني عن عجزه التام في مواجهة الاستعمار من خلال مجموعة من المظاهر، أبرزها:
ـ عجزه عن الحفاظ على استقلال وسيادة القسم المستقل أمام المطامع الاستعمارية الأنجلوأمريكية والسعودية، وفقدان السيطرة على أهم أقاليم الشمال اليمني المعروفة والوقوع في شرك القوى العميلة المتغلغلة داخل الحكم نفسه.
ـ التنازلات أمام المستعمر البريطاني عن الجنوب والاعتراف بالمستعمر لأربعين عاما قادمة وتقييد محاولات الحركات الوطنية ونشاطها ودعمها من القسم المستقل.
ـ تنازلات الحركة الإصلاحية المرتبطة بالمستعمرين عن الجنوب بشكل نهائي في وثائقها وأدبياتها، واعتمادها على مساعدات المستعمرين وهباتهم في عدن والرياض.
ـ خيانات الحركات المسماة بالأحرار للقضية اليمنية الاستقلالية التحررية، وتعاونها مع البريطانيين في كل مجال.
وهكذا أضحى أهل السياسة إما عاجزين وإما خائنين. ونتيجة ضعف البدائل المحلية الأخرى فقد وجدت الحركة الشعبية التحررية نفسها أمام وتحت تأثير القوى القومية الثورية العروبية واليسارية التي كانت قد ملأت فضاءات ومجالات الإعلام والثقافة والفكر والثقافة.
 
النظرة القومية البديلة للاستراتيجية المحلية
يتحدثون كثيرا عن الدور الخارجي للثورة اليمنية التحررية خلال الستينيات ونهاية الخمسينيات، ويقولون: لولا الدور الخارجي العربي لما تقدمت الثورة اليمنية (شمالا وجنوبا). وهذا واقع تاريخي لا يمكن إنكاره، والمهم هو استيعاب نتائجه والتمسك بأساسياته الوطنية الثورية.
وتفسير هذا الواقع هو أن الحركة الشعبية المحلية الوطنية كانت قد عانت من العجز والخيانة الذاتية معا، فالقوى التي رفعت رايات الحرية والتقدم والإصلاح وسمّت نفسها "الأحرار" قد ضبطت وهي مع المستعمر والإمبريالية والرجعية في سرير نوم واحد بكل ما تعنيه الكلمة، وقد ثبت أنها قد غيرت جلدها وانكشفت على حقيقتها كمرتزقة سياسية في أفضل الأحوال، إضافة إلى أن الكثير من القادة، بل أغلبهم وأهمهم، كانوا قد تكشفوا عن شركاء للاحتلال والرجعية، وهم كانوا ينشطون اعتمادا على إسنادات وأموال المستعمر في عدن والرياض، مستغلين حالة الجهل والتخلف وسذاجة الناس الدينية والثقافية.

إذا عرفنا أن حالة الجهل والتخلف قد هيمنت على وعي الشعب وحركاته المضللة لعقود طويلة حتى نهاية الستينيات وما بعدها، سندرك أن الحركة الوطنية ساذجة وقليلة الإدراك النظري، وقد كانت شديدة الضمور الخلقي في أجهزتها الذاتية وتعاني من قصور مزمن، مقابل تطور الرجعية من حيث قدراتها الفكرية ومناوراتها الاستراتيجية وإمكاناتها، وبالتالي لم يكن ممكنا لها أن تكون ندا سياسيا فكريا واستراتيجيا. وكان هذا الخوف يسيطر عليها بعدما كابدت الكثير من الإخفاق والفشل، لذلك انتقلت القضية من أيدي الكبار التقليديين الذين عانوا من بؤس تجاربهم وفقرها المدقع مع الانتهازيين والخونة فرموا بالقضية نحو الشباب الباحث عن المعرفة خارج القطر اليمني ليفهم كنه القضية اليمنية والتعامل معها، فلم يكن مسلحا بعد سوى بمعارف محدودة، وكانت المسائل الرئيسية التي تشغله آنذاك هي قلب أوضاع الحاضر وبناء المستقبل... ولكن كيف؟!
لم يكن ذلك الجيل يملك إجابات حقيقية واضحة حولها، ولم تكن الأفكار في الداخل قد نضجت وتقدمت، فهي مازالت تراوح حيث كانت قد أخفقت بالأمس، وهذا كان يعكس حالة الأمة الاجتماعية والثقافية والسياسية وتخلفها العام وحالة المعارضة المخترقة التي ولدت اليأس والقنوط واستعصت في كل مجال، فقد دفعت للبحث عن مخارج من الخارج العربي، المحيط الأقرب إلينا وإلى معاناتنا، وكان هذا يبدو حلا تلقائياً، فلم يعترض عليه أحد كما لم يقدم أحد بديلا عنه.
لقد كان الأمر المطروح كمهمة تاريخية ثورية عظيما وكبيرا وجسيما وفوق طاقة كل القوى الوطنية الداخلية غير المرتهنة للأجنبي وللأعداء تحديدا، ولذلك ففي بعض المراحل كان هذا التوجه نحو الخارج القومي هو الوحيد الذي يمكنه تجنيبنا الاختراق الهائل للاستعمار والرجعية عبر المعارضة العميلة والمخترقة، ولذلك سعت إليه بنشاط حركة التحرير الشعبية الجديدة التي كانت تنمو ومازالت بحاجة إلى نوع من الحماية والرعاية والدعم والإسناد الشامل.

كانت القوى الثورية العربية الجديدة تتمثل آنذاك بالقوميين العرب وبثورة يوليو 52 في مصر عبدالناصر، وقد مرت مصر بمرحلة حاسمة كانت خلالها في أشد الحاجة للدور العربي الشامل في مواجهة الاستعمار والرجعية، وكانت مصر هي نصف السكان العرب وأكبر قوة فيهم جميعا، وكانت قد فتحت مع الاستعمار العالمي معركة حريتها واستقلالها هي والأمة العربية معا، وكان الرد هو العدوان الثلاثي عام 1956 عليها وعلى الأمة معا، وكان اليمنيون أكثر الشعوب العربية تأثرا بمجرى المعركة المستعرة، ولم يكن يمكنهم الحياد والوقوف خارج الصراع الجاري، فالعدو البريطاني السعودي هو نفسه العدو الذي يواجهه عبدالناصر ومصر والجمهورية العربية المتحدة، وهو نفس العدو الذي تواجهه اليمن جنوبا وشمالاً. وعليه فإن المنطق الاستراتيجي الوطني هو نفسه المنطق القومي الاستراتيجي ويتطابق معه تماما في الأساسيات الكبرى الحاسمة، ولذلك كان طبيعيا ولا يمكن تجنبه في ظل تلك الظروف التاريخية المعقدة المتشابكة.
فالصراع مع الاستعمار والرجعية التابعة والتماهي بين الاثنين قد أزال الفواصل والتمايزات الجهوية والجغرافية والقطرية أمام شمولية وسيطرة وقوة العدو العالمي المهيمن ووحدته ومركزيته وطاقاته الشمولية التي كانت تشمل العالم بقاراته ومواردها. وكانت المواجهة مع الاستعمار مستحيلة إذا لم تكن موحدة وتشمل العالم العربي والتكتل التحرري كله. وكانت المعركة معه في اليمن مستحيلة سلفا إذا لم تكن بكل القوى العربية المتوفرة والمركزية، أي من مصر والشام والعراق، ومصر أولاً وفي المقدمة. كانت بريطانيا من مواقعها وقواعدها الاستعمارية في الجزيرة والخليج والبحر الأحمر وقواتها في عدن وبحر العرب والجنوب المحتل مستعدة وقادرة على سحق أية تحركات حربية وثورية وطنية داخلية شمالا وجنوبا.
وكانت التحديات التي تواجه اليمنيين استراتيجيا تُطرح على شكل يكون فيه التحدي العسكري الاستعماري البريطاني الرجعي الجاثم بقوة هو الغالب على مشهد الصراع في المنطقة، فلم تعد الحكومات القطرية المحلية التابعة والعاجزة إلا ظلالاً باهتة لأشباحه هو، ومن هنا تأكدت حقيقة أن المواجهة مع الاستعمار لتحقيق الاستقلال والحرية تعني الحرب المسلحة بكل أشكالها، وليست المناورات السياسية والمفاوضات التي ولى زمانها. والحرب المسلحة ضد القوى المستعمرة في القطر مستحيلة بدون قوة تكافئها إلى جانب اليمنيين تكسر التوازن السلبي القائم بين القوى، وكان معنى هذا أن تنتقل القوات القومية المصرية إلى الجوار الوطني كشرط لإطلاق النار على القوات البريطانية والرجعية وإجبارها على الخروج من الوطن، وكان هذا مستحيلا بدون توحيد القوات القومية كلها تحت قيادة قومية عربية واحدة مشتركة هي مصر وعبدالناصر.

طلائع الثورة الوطنية التحررية
من الكفاح العفوي التجريبي يتولد الوعي والتنظيم والتخطيط والتوجيه وقيادة الحركة الجماهيرية الشعبية. وقد توسعت أشكال الصراع الوطنية ضد المحتل وضد المستوطنين الأجانب وضد السلاطين العملاء. وكان عدم وجود تنظيمات موحدة تلتقي حول فكر موحد شامل نقطة ضعف، فقد كان المستعمر يقمع الأفكار والمنظمات السياسية الوطنية القومية الحرة بالأساليب البوليسية القاسية والفاشية، وقد أراد استغلال الفراغ التنظيمي الوطني من خلال تكليف عملائه السريين والعلنيين بأن يسيطروا على النقابات والمنظمات الشعبية والاتحادات والصحف، وحرف توجهاتها لصالح المستعمر مباشرة وغير مباشرة. وكان في طليعة عملاء الاستعمار في هذا الجانب الخطير المستر عبدالله الأصنج والمستر محمد سالم باسندوة وسالم علي عبده، الذين أقاموا تنظيما استعماريا باسم "حزب الشعب" الذي سيطر على النقابات العمالية والمنظمات الاجتماعية بدعم مالي وسياسي بريطاني مباشر ليتسلم قيادة المؤتمر العمالي الشعبي؛ أكبر كتلة جماهيرية وطنية تضم جميع عمال وموظفي القطاع العام والخاص في المستعمرة من مختلف فئات الكادحين. وقد عمل الأصنجيون على نشر الثقافة الاستعمارية والموالية للاستعمار وتزيينه في نظر الناس العاديين بأنه ينقل التقدم والتحضر والرخاء لأهل البلاد المستعمرة وأنه يقوم بمهمة حضارية ويجب عدم مقاومته أو التظاهر ضد وجوده، لأن وجوده شرعي حسب القانون الدولي، وأن الاستقلال الذاتي لعدن يمكن الحصول عليه سلميا عبر المفاوضات مع بريطانيا العظمى.
كان الأصنج قد أعدته بريطانيا ومخابراتها سياسيا وأمنيا وفكريا ومهنيا وتشرب العمالة لبريطانيا العظمى، وكان ينحدر من دبع تعز، من أب تاجر مقرب من الإنجليز لخدماته نحوهم، وقد تمكن وزملاؤه من اختراق حزب البعث العراقي في عدن واليمن واستغلاله لصالح المستعمر، بحجة أن ناصر يطارد حزب البعث في مصر وسورية بسبب دوره في انفصال سورية عن الوحدة مع مصر وتعاونه مع الرجعية السعودية ـ الأردنية والبريطانيين ضد قيادة عبدالناصر للثورة العربية. وقد اعترف حزب البعث في الجنوب واليمن في وثائقه اللاحقة بدور قيادته الأصنجية في خيانة القضايا العربية والقومية واليمنية والوطنية وتعامله مع الاستعمار، وكانت قيادته تضم: محسن العيني، محمد أحمد نعمان الابن، سالم علي عبده، محمد سالم باسندوة، والأصنج.
عشية قيام الثورة في صنعاء وتأييد الشعب لها وإعلانها في مبادئها محاربة الاستعمار في الجنوب وعدن وتحريرها وتوحيدها مع الجمهورية الأم الحرة المستقلة، انفجرت المقاومة الوطنية الشعبية ضد المستعمر مستندة إلى التراكم الواسع الذي كونته الحركة الشعبية خلال العقود السابقة.
وكانت قد تكونت سرا عدة منظمات ثورية قومية وطنية انتشرت في عموم الوطن العربي بعد نكبة فلسطين 1948 وجعلت الحرية والاستقلال والوحدة مبادئها الرئيسية، وقد تعاونت مع الزعيم جمال عبدالناصر في تحقيق تلك المبادئ والأهداف في عموم الوطن العربي، وخاصة في اليمن والجنوب اليمني المحتل.
وقد تكونت منظمة قومية جبارة موحدة بقيادة المناضل العربي الفلسطيني الدكتور جورج حبش، ونايف حواتمة (قومي أردني) والمناضلين العراقيين الدكتور/ باسل الكبيسي وقيس السامرائي، والمناضل الفلسطيني هاني الهندي، والمناضلين اللبنانيين محسن إبراهيم والدكتور/ فواز الطرابلسي، وقد تكونت فروع لها في كل البلاد العربية ومنها اليمن ومصر ولبنان وفلسطس والعراق والكويت والخليج والسودان وليبيا والأردن وعُمان والبحرين والحجاز ونجد، وغيرها.
كما أن مصر عبدالناصر كانت قد قررت دعمهم في تحرير اليمن والجنوب وعدن، وقد عادوا ليؤسسوا فروعا للتنظيم القومي في اليمن وعدن والجنوب، ويستعدوا للشروع في الكفاح المسلح ضد الاستعمارالبريطاني، واستمروا خلال الفترة (1958 ـ 1962) يعملون على نشر الفكر الجديد وبناء خلايا ثورية جديدة سرية وتدريبها على السلاح والكفاح الثوري عبر عقد دورات عسكرية فدائية في القاهرة ثم في تعز ولحج وعدن فيما بعد.

وفي عدن تشكلت أول قيادة قومية وطنية للحركة القومية الثورية على مستوى اليمن ككل، تضم من أبناء عدن والجنوب والشمال في حركة ثورية مسلحة موحدة تؤمن بالمواجهة المسلحة مع الاستعمار والرجعية والعملاء والسلاطين وحلفائهم عبر أسلوب حرب العصابات الشعبية السرية والعلنية الثورية كأسلوب رئيسي يفهمه الاستعمار ولا يفهم غيره. وجعل النشاط السياسي الفكري والجماهيري في خدمة الكفاح المسلح الثوري العسكري ضد الاحتلال والاستبداد والإقطاع، بما يحقق تعزيز التنظيمات الثورية الشعبية والجماهيرية والوطنية، والإيمان بوحدة الوطن وحريته وبوحدة الأمة العربية القومية وقيادتها الثورية المجسدة في جمال عبدالناصر وقيادة حركة القوميين العرب الثورية المجيدة المركزية وتوجهاتها. وأصبح للحركة الجماهيرية الشعبية قيادة ثورية قومية ووطنية وفكر سياسي ثوري تقدمي وحدوي اشتراكي اجتماعي ومنهج علمي للتحليل السياسي والتخطيط التنظيمي والحركي والتكتيكي والاستراتيجي.

الفرسان الأحرار الثلاثة
في العام 1956 انتسب الشباب الأحرار الثلاثة، القادمون من عدن واليمن، وهم سلطان أحمد عمر وعبدالحافظ قائد وفيصل عبداللطيف، إلى تنظيم حركة القومين العرب في القاهرة ولبنان خلال دراستهم هناك التي استمرت لسنوات، وكلفوا أن يعودوا ويؤسسوا فروعا في اليمن والجنوب.
وقد تمكن الفرسان الثلاثة الكبار المؤسسون من استقطاب عدد من الشباب الوطني الغيور من أبناء عدن وتعز والأرياف القبلية الجنوبية المحيطة بعدن والمناطق اليمنية ومن الجيش والضباط والجنود الأحرار في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمخابراتية والسياسية والنقابية والثقافية والشبابية والنسوية والمهنية، كان أبرزهم عبدالفتاح إسماعيل وسعيد أحمد الجناحي وعبدالقادر سعيد وعبدالرحمن عمر وعبدالله الخامري وراشد محمد ثابت ومحمد سعيد عبدالله وعلي علي عشيش وعبدالرحمن محمد سعيد وفضل محسن ومحمد صالح مطيع وعلي ناصر محمد ومحمد علي هيثم وعلي صالح عباد وسالم ربيع علي والحاج صالح باقيس وعبدالقادر أمين وعبدالقادر إسماعيل وعبدالرحمن غالب المقطري وحسن القاضي وعلي أحمد ناصر عنتر وطه مقبل وسالم زين والسلامي وسيف الضالعي وصالح مصلح وعبود مهيوب الشرعبي وبدر الدبعي وعبدالقوي اليافعي وعبدالعزيز قادري وعبدالنبي مدرم ونجوى مكاوي وأحمد عبدالله عبدالإله وعلي إسماعيل وعبدالعزيز عبدالولي وسعيد عبد الوارث الإبي وقائد قاسم عبدالحكيم المجيدي وعبدالله أحمد مرشد وفؤاد راشد وناصر سعيد عبدالله وصالح الصماتي وعلي شايع هادي وعلي عبدالعليم وقحطان الشعبي وعلي سيف مقبل ومالك الإرياني ويحيى الإرياني وعبدالله الذبحاني وأحمد فارع النجادة وحسن الجراش وأحمد حسن سعيد وعلي محمد زيد وجار الله عمر وأحمد نعمان المقطري وعبدالرب نعمان وعبدالحميد حنيبر وأحمد أمين زيدان وأحمد يوسف ومحمد أحمد منصور ومحمد ناصر العنسي وصلاح هزاع وسعيد مقبل العبسي ومنصور العبسي وعبدالحليم محمد عبدالله وعلي قاسم سيف وعبدالجبار عبدالحميد ود. حمود العودي ومحمد صالح الحدي وزيد مطيع دماج وعقيد محمد الإرياني والأستاذ عبدالله الكميم والأستاذ محمد علي ناجي الكميم.
ومن العسكريين الشباب، كان المقدم سعد الأشول وحمود ناجي سعيد ومحمد مهيوب الوحش وعبدالرقيب عبدالوهاب وعلي مثنى جبران وعبدالرقيب الحربي ومحمد علي عبدالله وصالح المولد وأحمد عبدالوهاب الآنسي وعبدالرحمن عبدالوهاب الآنسي ومحمد عبده ناشر شيخ لله وأمين أحمد سيف القدسي وعلي شبيط الأصبحي وثابت اليافعي وإبراهيم الحمدي وعبدالله الحمدي وحسين الصرفي وأحمد عبدالوهاب وعابد حاشد وعمرو القدسي.
وخلال أربعة أعوام (1958-1962) من التحضير والاستعداد الكثيف لإطلاق الثورة المسلحة في عدن والجنوب من قواعدها في تعز وإب والبيضاء وصنعاء، كانت قد تكونت القواعد الأساسية لتنظيم الثورة القومية الوطنية في مختلف المناطق الرئيسية. وقد تلقى التنظيم دعما ملموسا وكبيرا من قيادة الثورة القومية في القاهرة، أسلحة وأموالاً وخبرات ودورات وبعثات تعليمية وثقافية ومساعدات مختلفة ومتنوعة ومستشارين وموجهين ومدربين للعمليات العسكرية الثورية والتكتيكات المختلفة، بناء على الخبرات العالمية للثورة ضد الاستعمار والإمبريالية في مختلف بقاع العالم من الصين وكوبا والجزائر وروسيا وفيتنام وكوريا وإيرلندا ومصر.

وفكريا ونظريا فقد تولى القادة المؤسسون الثلاثة وقد حصلوا على التأهيل النظري والعملي اللازم في القاهرة وبيروت ودمشق خلال تنظيمهم هناك في سنوات التأهيل الجامعي التي قضوها قبل عودتهم، وقد تولت القيادات المسؤولة إعدادهم كقادة متكاملين، حيث كان الفرسان الثلاثة الكبار كباراً فعلا في قدراتهم ومواهبهم وإيمانهم وتعاونهم وحماسهم وإخلاصهم الثوري وانضباطهم وصلابتهم الأخلاقية والعقيدية، وقد أهلوا تأهيلا عاليا للثورة اليمنية ومنحوها كل طاقاتهم وتفرغوا لها واحترفوها احترافا، وأضافوا إلى صفهم القيادي بعد فترة من التجربة شخصيات قيادية كانت مؤهلة وقادرة على مستوى القيادات الميدانية في الأقاليم اليمنية المختلفة والمؤسسات، منهم عبدالفتاح إسماعيل وعبد القادر سعيد طاهر ومحمد علي هيثم وعبدالله الخامري وعلي سالم البيض وعلي عنتر وسالم ربيع ومحمود عشيش وعلي صالح عباد. وكان هؤلاء يشرفون على ساحة مركز عدن والجنوب للحركة القومية العربية، وعلى رأس قيادتهم الفرعية الإقليمية للجنوب كان يقف فيصل الشعبي وسلطان أحمد عمر وعبدالفتاح إسماعيل وعبدالله الخامري، وقد توزعت المهام بين القادة، حيث تحمل سلطان أحمد عمر مسؤولية قيادة التنظيم الثوري القومي في مستعمرة عدن، وتحمل عبدالفتاح إسماعيل مسؤولية قيادة القطاع الفدائي العسكري المقاتل في مستعمرة عدن، وتحمل فيصل الشعبي مسؤولية قيادة تنظيم خلايا سرية للأفراد والضباط الأحرار في الجيش العميل والمؤسسات الأمنية الأخرى.

الحركة القومية الثورية في تعز والشمال اليمني
منذ عام 1958 تحمل المناضل الكبير عبدالحافظ قائد ومعه المناضل الكبير عبدالقادر سعيد مسؤولية قيادة الفرع القومي الثوري في تعز وصنعاء والحديدة والشمال عموما، وتشكيل قاعدة ثورية واسعة وجماهيرية هناك تكون سندا للثورة وخزانا للتجنيد لمعاركها ضد الاستعمار والرجعية شمالا وجنوبا.
وكانت تعز المحطة الرئيسية، حيث كانت ما تزال عاصمة البلاد. وفي العام 1958 تكون الفرع الشمالي اليمني برئاسة كل من عبدالحافظ قائد وعبدالقادر سعيد وعبدالرحمن محمد سعيد ومالك الإرياني ويحيى الإرياني وعبدالكريم الإرياني وعبدالله محمد ثابت وأحمد فارع النجادة وعبدالله الأشطل وعلي قاسم سيف وعلي سيف مقبل وحسن الجراش وسعيد الجناحي ومحمد الإرياني وسعد الأشول وعبدالرحمن غالب ونعمان عبده وعبدالله الزغير ومحمد حمود وعبدالجبار سعد ومنصور العبسي ومحمد سعيد المعمري وأحمد الحربي وعبدالحليم محمد أحمد وعبدالحليم هزاع وعبدالحليم ياسين وأحمد نعمان وعبدالرب نعمان وعوض الحامد وسالم صالح اليافعي وثابت اليافعي وإبراهيم الحمدي وعبدالله الحمدي وآخرين، وبعدها تفرعت الكوادر في كل من صنعاء والحديدة.
وتضم هذه الكوكبة الكفاحية عدداً من المناضلين القياديين الموزعين على مجالات عديدة، عسكرية وسياسية وجماهيرية وشبابية وطلابية وفلاحية عمالية ومثقفين وفقهاء ووجاهات ونساء.
تم تكليف سلطان أحمد عمر مشرفا تنظيميا عاما على الفرع القومي للحركة القومية العربية اليمنية، إضافة إلى مشاركته الميدانية في العديد من المهمات القيادية، وكان هو صاحب أسرار حركة القوميين العرب اليمنية وصندوقها السري الخاص وعلاقاتها القومية والعربية والسياسية وناظم الاتصالات العليا مع مصر عبدالناصر وأجهزته المسؤولة عن السياسة العربية ودعم الثورات والحركات العربية التحررية، ثم مع الرئيس السلال وعبدالغني مطهر في تعز وصنعاء، وأشرف إلى جانب عبدالغني مطهر من تعز على الإعداد والتحضير للثورة السبتمبرية 1962 منذ فترة طويلة، منذ تشكلت منظمات الحركة القومية في الإقليم وانتشرت في الجيش اليمني وبين الضباط الأحرار، وشكلت منظمات وخلايا في الجيش وبين الضباط الأحرار تولت في صبيحة الثورة مهمة إسقاط محافظة تعز وأريافها لصالح الثورة بالتعاون مع الضباط الأحرار من القوميين الأحرار الآخرين والوطنيين، كما تحملت مسؤولية اقتحام القصور الحكومية في تعز عبر الكوادر القومية بقيادة المقدم سعد الأشول، قائد المدرعات، القوة الرئيسية للجيش في تعز، ومعه عدد من القيادات القومية الحركية منهم المقدم أحمد الناضر والمقدم عبدالله وسعيد الجناحي عسكريا وأمنيا.
وفي صباح الثورة وبعد نجاح مهمتها في صنعاء، العاصمة الجديدة للجمهورية، كانت الحركة القومية ومنظماتها الشعبية جاهزة للاندفاع في المناطق والأحياء والمديريات والمدن للسيطرة سياسيا على الأوضاع ومطاردة القوى المعادية للثورة والجمهورية، ثم تحشيد الجماهير للالتحاق بكتائب الحرس الوطني الجمهوري بعد تعبئة جميع أعضائها ومؤيديها وأنصارها للالتحاق بكتائب الثورة والرحيل نحو صنعاء للدفاع عن العاصمة بعد أن بدأت اعتداءات الرجعية السعودية البريطانية من كل مكان على الحدود مع اليمن الجمهوري شمالا وشرقا وجنوبا منذ اليوم الأول والثاني للثورة.


الهيكل التنظيمي للحركة القومية الثورية
تكونت الحركة الثورية القومية من عدة مستويات قيادية:
- القيادة العليا لعموم الحركة القومية شمالا وجنوبا: وتضم الفرسان الثلاثة المؤسسين (سلطان أحمد عمر وفيصل عبداللطيف وعبدالحافظ قائد).
- القيادة العامة: وهم مسؤولون عن قيادة الفرع اليمني في الجنوب والشمال وتضمهم قيادة عامة موحدة من الشطرين، وقد ضمت عدداً من المناضلين القياديين.
- قيادة الفرع القومي في الجنوب وعدن، وأبرز مناضليه وقادته: فيصل عبداللطيف وسلطان أحمد عمر وعبدالفتاح إسماعيل وعبدالله الخامري وعلي عنتر وعلي البيض وسالم ربيع وعلي صالح عباد وعلي عبدالعليم وسيف الضالعي والحاج صالح باقيس وعبدالعزيز عبدالولي وعبدالوارث الإبي ومحمد سعيد عبدالله وراشد محمد ثابت وفضل محسن ومحمود عشيش وسلطان الدوش وأحمد عمر بيضاني وعبدالنبي مدرم وعبود الشرعبي وبدر الدبعي والمقدم عبدالقوي اليافعي ومحمد علي هيثم وعلي ناصر الحسني ومحمد صالح العولقي ومحمد صالح مطيع وعوض الحامد وقحطان الشعبي.
بإنشاء تنظيمات حركة القوميين العرب في اليمن وعدن والجنوب خلال السنوات التحضيرية بين (1958-1963) كانت القيادة القومية الإقليمية المركزية في القاهرة وبيروت وعدن واليمن قد تلاقت جميعها في إرادة واحدة وعلى قيادة واحدة مشتركة برئاسة عبدالناصر نفسه وعضوية القيادات الإقليمية المركزية التي شملت قيادات الحركة القومية العربية الثورية التحررية الميدانية المباشرة والعامة، وكانت هذا  القيادة السرية آنذاك قد باشرت التحضير لتنفيذ خطة ثورية عسكرية وسياسية وشعبية وإعلامية وفكرية وتنظيمية وتدريبية شاملة اضطلعت بها الأجهزة السرية لتضمن عدم اختراقها وإعاقتها من قبل العدو وأطرافه وعملائه وامتزجت جهود القوى الوطنية المحلية والقوى القومية العربية والتنظيمية والأجهزة السرية المركزية العربية في بوتقة واحدة، وتشكلت الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل.