علي نعمان المقطري / لا ميديا -
خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تواصلت أطماع الغرب الأوروبي للسيطرة على المنطقة التي تشكل مركز العالم الاقتصادي والاستراتيجي بثرواتها ومواقعها المتحكمة بطرق التجارة البحرية والجوية والبرية بين شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه وبحاره ومحيطاته ومضائقه وممراته وطاقاته، وزادت المنطقة أهمية وتضاعفت خطورتها بعد انقسام العالم إلى كتلتين استراتيجيتين جيوسياسيتين متواجهتين في مطلع القرن العشرين عندما انفجرت الثورة السوفييتية التحررية، وأقامت نظاما جديدا يقوم على مشاعية الملكية لعموم الشعب، وقضت على الطبقية الإقطاعية والرأسمالية الإمبريالية والعبودية، وحررت الشعوب المستعبدة والطبقات المظلومة الفقيرة والمحرومة، وقضت على احتكار المال والثروات العامة في أيدي قلة صغيرة من المتميزين من الأمراء والسادة المسيطرين الأوتوقراطيين، كانت قائمة في روسيا القيصرية السابقة.

وبذلك افتتحت الثورة السوفيتية الروسية عام 1917 عالما مختلفا اجتماعيا وسياسيا، وعصرا تاريخيا جديدا للبشرية، وتواصلت انتصاراتها بعد الحرب العالمية الثانية حتى أقامت بقيادتها كتلة تحررية كبرى تشمل ثلث سكان الكوكب الأرضي خلال فترة قصيرة جدا، تمتد من الصين إلى كوبا في غرب العالم، أمست القوة التي تقف في وجه الاستعماريين والإمبرياليين، وقوة لاجمة في وجه المستعمرين الغربيين الذين كانوا يسيطرون على أجزاء واسعة من العالم الشرقي والعربي والإسلامي، ولم يكن هناك مفر أمام القوى الوطنية والشعوب التي ترزح تحت الهيمنة الغربية من التحالف والتعاون مع هذه القوة الجديدة التي برزت على الساحة العالمية كند للقوى الغربية الاستعمارية بعد أن تعاونت القوتان خلال الحرب العالمية ضد الفاشية والنازية التي هددت بفناء البشرية جمعاء بغير تمييز أيديولوجي أو فكري، وتطورت موازين قوى الأسلحة الذرية الهيدروحينية الجديدة والصاروخية، مما خلق توازنا حرجا بين القوتين الأعظم لم يسمح باستفراد إحداهما بمصير العالم لوحدها، بل فرض وألجم الميول العسكرية الحربية الإمبريالية القديمة وفرض مسارات للصراع تمنع التصادم المباشر بينهما، وتفرض قبول التعايش حفاظا على مصير العالم من الفناء الحراري النووي.
وفي هذا المناخ الساخن، وفي ظل التوازن الكابح للإمبريالية النووية، انطلقت ثورات التحرر الوطني الاستقلالية عبر القارات الثلاث مستندة إلى الدعم النزيه من جانب الكتلة السوفييتية التحررية التي ساعدتها على الاستقلال. وقد حصلت عشرات الشعوب والدول والأمم على الحرية والاستقلال من ربقة الاستعمارين القديم والجديد، وكان للسلاح والمال والدعم السياسي والاقتصادي الذي قدمته الكتلة السوفييتية التحررية، الدور الحاسم والأهم في تحقيق الغلبة في معاركها ضد الاستعمار.
وكانت منطقتنا العربية الإسلامية ميدانا هاما من ميادين الكفاح والصراع المحتدم ضد الاستعمار والإمبريالية، فقد انطلقت وانبعثت وتواصلت بنجاح الكثير من الثورات الشعبية والانتفاضات والانقلابات العسكرية الوطنية والهبات الجماهيرية التحررية، أبرزها الثورات الجزائرية واليمنية والمصرية والسورية والعراقية والسودانية والإثيوبية والإريترية والإيرانية والصينية والفييتنامية والكمبودية واللاوسية والمنغولية والأوزبكية والأذرية والكازاخية والطاجيكية والتركمانية والهندية... ولم تأت نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات إلا وقد تحررت عشرات الشعوب من ربقة النظام الاستعماري الدولي القديم، وشكلت كتلة في الأمم المتحدة، وتواصل كفاح بقية الشعوب التي ختمت كفاحها بنجاح على أعتاب السبعينيات والثمانينيات، فقد انتصرت الثورات الفييتنامية والكمبودية واللاوسية والجنوب أفريقية والأنجولية والغينية والموزمبيقية والكونجولية والليبية والإسبانية والبرتغالية والنيكاراجوية والتشيلية والكولومبية والفنزويلية والبوليفية والهندية... وكل هذا تحقق بفضل الدعم النزيه للكتلة السوفييتية، المباشر وغير المباشر، وهو نتيجة لوجودها الدولي وانتصاراتها.
وبهذا التطور المتلاحق فإن الإمبريالية والاستعمار قد أصيبا بالتراجع والانكسارات وضيق مجالات النفوذ والاستغلال والنهب والطغيان القديمين، فقد امتلكت الشعوب إرادتها وأصبحت قادرة على الدفاع عن حقوقها ومصالحها وثرواتها ومصيرها ومستقبلها، ولذلك سعى الاستعمار الإمبريالى إلى النيل من مكانتها وتدمير وجودها الجيوسياسي منذ وقت مبكر، وإلى العمل المكثف لزعزعة وزلزلة المنظومة السوفييتية التحررية والدول المستقلة والقوى الوطنية الجديدة بمجموعة من الاتجاهات والاستهدافات للنيل منها وتدمير وجودها الجيوسياسي والاستراتيجي والفكري والاقتصادي والثقافي، عبر شنه الحرب الباردة والساخنة في وقت واحد، وقد وظفت استثمارات غربية هائلة الكثافة وصلت إلى أكثر من 200 مليار دولا سنويا، حسب الأبحاث الأمريكية، وجهت لإسقاط الوضع السوفييتي من الداخل فقط لإحداث التخريب الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والتجسسي، وإثارة الصراعات والتناقضات الداخلية بين القوميات المختلفة، التي تولتها المخابرات الأمريكية وحدها، ناهيك عما استثمرته في المجالات العسكرية والاستراتيجية الأخرى الموجهة ضد الاتحاد السوفييتي وحلفائه والبلدان المستقلة والتي في طريقها للاستقلال والتحرر، كما استدرج الاتحاد السوفييتي إلى المنافسة في سباق تسلح هائل التكاليف كسر ظهره في نهاية المطاف، لأنه اعتمد سياسة تسليح مجاني للشعوب المقاومة للاستعمار وذات الاستقلالية التحررية، وترتب على منح المساعدات الضخمة للكثير من الشعوب النامية مجانا تقريبا، مساعدات عسكرية واقتصادية وثقافية، وهو ما حمله تكاليف هائلة تراكمت على مديونياته الداخلية والخارجية وساهم في انهياره لاحقا وتفككه وخروج الجمهوريات عن الاتحاد السوفييتي وتشكيلها دولاً مستقلة منفردة ومتعارضة المصالح بفعل مناورات الغرب ومؤامراته.
كان الغرب مجتمعا يخوض الحرب والصراع ضد السوفييت بكل ثرواته التي ينهبها من البلدان النامية، ومازال يخوض الصراع بكل ثقله المالي والاستراتيجي. وكان السوفييت في الموقف المالي الأضعف في التنافس والمواجهة الباردة. ولعبت السعودية دورا كبيرا في ضرب الاقتصاد السوفييتي والروسي الذي اعتمد على الريع المالي للإنتاج البترولي الذي كان يستخرجه بتكاليف كبيرة من شمال سيبيريا الثلجية حين استجابت لتعاليم المؤسسات الأمريكية بتخفيض أسعار البترول وإغراق الأسواق بكميات هائلة من الزيت الرخيص القيمة الذي وصلت أسعاره إلى مستوى الخمسة دولارات للبرميل الواحد، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد السوفييتي القائم على دخل البترول والغاز.

المنطقة المركزية الأهم
ظلت منطقتنا العربية الإسلامية المركزية التي تشكل مركز ثروات الطاقة العالمية والممرات التجارية الكبرى والمواقع الاستراتيجية المتحكمة والتي ترسم مستقبل العالم من أهم جوانبه، ظلت هذه المنطقة في مركز اهتمامات وأطماع الاستعمارين القديم والجديد، لأنها تقوم على حقائق ثابتة موضوعية تجعل المنطقة المركزية العربية الإسلامية صاحبة الطول والحول في تعديل ميزان القوى العالمية وترجيح كفة الصراعات الدولية هنا في آسيا والشرق، مما يجعلها مطمعا إمبرياليا حاسما تفتحت عليه عيون الغرب الاستعماري وأساطيله الجوالة منذ وقت مبكر من القرنين الماضيين، لذلك تسابقت للسيطرة عليها أكثر من إمبراطورية متنافسة.

الغرب ضد الشرق
وكانت القاعدة الأولى في استراتيجية الغرب للحرب ضد الشرق السوفييتي آنذاك هي ضرورة حرمانه من الخروج نحو المياه الدافئة في البحر الأبيض والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب، وعدم السماح لأي نفوذ سياسي أو وجود مؤثر سوفييتي في المنطقة، ولذلك أنفقت الكثير من الأموال والمساعدات والمؤامرات لكي تبقيه بعيدا بأي طريقة كانت، واستخدمت كل الوسائل والقوى المتوفرة للسيطرة على المنطقة وأنظمتها وثرواتها وسياساتها.

رأس الحربة الإمبريالية الغربية
كان موقع الكيان الصهيوني يأتي في مقدمة تلك الوسائل الحامية للنفوذ الاستعماري الغربي والأمريكي في المنطقة، ولذلك تباهى الجنرل شارون أيام مجده بأن "إسرائيل" هي أكبر حاملة طائرات أمريكية وغربية، وهي أكثر من كونها حاملة طائرات فقط، بل هي أكبر موقع عسكري متقدم في جبهة الصراع ضد الشرق والقوى التحررية الاستقلالية، وحارس المصالح الاستعمارية في المنطقة والمخزن التسليحي واللوجستي الأعظم لـ"الناتو" والولايات المتحدة الأمريكية، ومركز التجسس الإقليمي الأكبر للغرب ضد الشرق، والرديف الأهم للرجعية والتخلف والتجزئة والاحتراب والاستبداد والاستغلال، وحامي الوكلاء الإقليميين ومناطق الثروة النفطية في المنطقة، والداعم الأشد تطرفا لكل القوى والحركات الإرهابية والرجعية، وطليعة الحرب والعدوان ضد الشعوب العربية الساعية إلى الوحدة والاستقلال والحرية. وكانت "إسرائيل" دوما قد أقيمت بهدف استعماري أنجلو-أمريكي محدد هو أن تكون رأس الحربة في الحرب ضد الشرق والقومية العربية، وأن تمنع وحدة العرب والمسلمين وقوى التحرر.

عواصف موسكو ونيران الجليد
كان الاتحاد السوفييتي حتى نهاية القرن الماضي معقد آمال الشرقيين والتحرريين والاستقلاليين والمُستَغَلين المقهورين عبر العالم، من المسلمين والنصارى والبوذيين والقوى التقدمية والقومية والإسلامية والحركة الاستقلالية وغيرها من المضطهدين فوق الكوكب، كانوا جميعهم يعقدون الآمال على الاتحاد السوفييتي الصديق وحليفه الصيني. وكانت موسكو محجة الثوار الأحرار من مختلف دول وشعوب العالم، لا تكاد تعرف الهدوء ليلا ونهارا، رغم صعوبة الطقس وقسوة البرودة الشتوية الشديدة، فقد كان الأحرار يحجون إليها بحماس شديد، فقد كانت الأمل الأهم في ذلك العالم القاسي الذي تسيطر فيه قوى الاستعمار والإمبريالية على مصائر الشعوب والأمم.

وكانت انتصاراته الضخمة العظيمة التي أحرزها على الفاشية والديكتاتورية لإنقاذ البشرية من تغول هتلر والفاشية والنازية الألمانية والإيطالية واليابانية والاستعمار البريطاني والأمريكي والفرنسي وتحطيم النظام الاستعماري العالمي القديم الذي كان مهيمنا على أغلب مساحات الكوكب الأرضي منذ عدة قرون من الاحتلال والاستقلال والنهب المسلح واللصوصية الدولية، ولم تنسَ وقفته إبان العدوان الثلاثي على مصر العربية نهاية الخمسينيات، وعلى الدول العربية الثلاث إبان نكسة عام 1967، وفي معارك تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كما وقف مع سورية والجزائر واليمن ومع المقاومة الوطنية الفلسطينية ومع الثورات العربية التي وجهت ضد الاستعمار الأجنبي والرجعية المحلية.
وفي مواجهة التوحش الإمبريالي وتغوله ضد الفقراء والمستضعفين لم يكن هناك بعد الله ملجأ إلا إليه، فأدعياء الإسلام البريطاني الغربي البدوي جعلوا من الإسلام مجرد مطية بريطانية للاستعمار والرجعية المتحالفة معه وأساسا لعروشهم الماجنة الخاوية، حتى عكسوا صورة خاوية للإسلام من كل جوهر، وأثاروا الشكوك حوله لصالح أعدائه، لإيصال الشعوب إلى حالة من القنوط الكامل من كل رحمة ربانية أو نجدة أو إغاثة إلهية وروحية، حتى شككوا الأجيال بكل شيء مقدس وروحي، بهدف تطويعها وإملاء إرادتها عليها. وفي تلك الظروف البائسة التفتت الشعوب وطلائعها فلم تجد في الميدان سوى المستعمر وعملائه، وفي مواجهته الكتلة السوفييتية وحدها، وحولها شعوب من كل القارات المُستضعَفة.
وبعد النكسة العربية في فلسطين وقبلها "وعد بلفور" البريطاني الغربي، وتقسيم أراضي العرب بين الضواري الغربيين الكبار الذين شرعوا في الزحف على بقية الأقاليم التي لم تكن قد احتلت بعد إلا من العثمانيين الذين كانوا يحكمونها باسم الخلافة العثمانية وباسم الإسلام المزور، كان هناك فراغ كبير بين النخب والشعوب، فراغ هائل صنعته قرون الاحتلال والسيطرة الأجنبية التي دامت خمسة قرون وأكثر، جلها كانت قرونا عثمانية بغيضة، والبقية كانت قروناً أوروبية غربية، وفي كلا الحالين لم تُعامل شعوبنا إلا كعبيد وأرقاء يخدمون الأجنبي ويوفرون أسباب ازدهاره ونهضته، وهم يغرقون في لجج الجهل والتخلف والإفقار، ولم يكن هناك فارق كبير بين الأجنبي مدعي الإسلام وبين الأجنبي النصراني العلماني، فالكل تصرف كمحتل يخدم أولويات دولته وأمته. وكان من الطبيعي والمنطقي أن تورث قرون من الاحتلال كل تلك المعاناة التي مازلنا نرزح تحتها وآثارها إلى الآن، فالاحتلال لا يولد إلا العقارب والحيات، هذا نرد فيه على أساطير يرددها أتباع المستعمرين وشركائه من أن الأجنبي قد نقل البلاد من حال إلى حال أفضل، كما يقولون، ويعددون لنا عدد الشوارع والتماثيل التي أقامها والبارات والملاهي الليلية التي نشرها والمدارس والجامعات الأجنبية التبشيرية النصرانية والعلمانية التي أقامها، والكنائس والمعابد التي بناها لتدمير البنية الروحية والثقافية والهوية الوطنية والقومية لشعوبنا وأقوامنا وعقائدنا وتراثنا.

الجدار الحديدي للاستعمار
ولكي لا تتوحد جهود الشعوب الاستقلالية والطامحة إلى الحرية وجهود الكتلة السوفييتية، أقاموا جدارا عازلا حديديا بريا وبحريا وجويا يفصل العالم السوفييتي التحرري عن العالم الثالث المقهور والمهيمن عليه، فقد طوقوه بالعديد من الأحلاف المركزية الغربية العسكرية المحلية الشكل على الفضاء الجغرافي الآسيوي ـ الأوروبي ـ اللاتيني، فيما سميت الأطواق الحديدية حول حدود الاتحاد السوفييتي. وكان السبب في كسب الصراع لصالح الغرب الاستعماري هو توظيف خيرات المنطقة ومواقعها لصالح المشاريع الاستعمارية. وكانت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة قائمة على أساس تأبيد سيطرتها عليها اقتصاديا وحربيا وسياسيا مباشرة، واعتمادا على الإمبرياليات المركزية الفرعية الإقليمية الوكيلة مثل شاه إيران ونظامه في الستينيات والسبعينيات ونظام الكمالية التركية في أنقرة ونظام التبعية في الباكستان و"إسرائيل" والسعودية في الخليج والوطن العربي ونظام مصر السادات والمغرب الملكي والسودان والكونغو كينشاسا واليونان وتركيا وإلى قبرص وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا وتايلاند والفلبين وإندونيسيا وأفغانىستان... وغيرها من الحلقات الفرعية للاستعمار الجديد، التي انتشرت على تراب جزيرة العرب والعالم العربي والإسلامي والقواعد العسكرية المنتشرة بكثافة في المنطقة.

انكسارات الحلقات الإمبريالية الأضعف مجددا
مع نهاية القرن الماضي كانت الإمبريالية تبدو في أوج اتساع هيمنتها باحتساب الأهداف التي حققتها والمساحات التي سيطرت عليها مؤقتاً، لكنها كانت تخفي شيخوختها وتدهور اقتصادها وتجفيف مصادر دخلها القومي ونضوب منابع ثرواتها وهروب الكثير من الشركات الكبرى إلى خارجها بحثا عن القوى العاملة الرخيصة والمواد الأولية الزهيدة وتراجع نسب إنتاجيتها الصناعية والزراعية وضيق أسواقها نتيجة ارتفاع نسبة تكلفتها الإنتاجية قياسا إلى البلاد الأخرى الصاعدة الفتية القوى الوافرة الطاقات.
لقد انهار الاتحاد السوفييتي واختفت الكتلة السوفييتية السابقة وأخلت مكانها الدولي والاستراتيجي الخارجي للإمبريالية الأمريكية الغربية، ووقعت لفترة تحت الوصاية الغربية، واستمر ذلك حتى مطلع الألفية الجديدة، حين عادت روسيا تستعيد عافيتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مجددا، منذ مجيء الرئيس بوتين، الذي شرع في إيقاف الهور العام للمجتمع والدولة باستعادة الأصول الحكومية والاجتماعية والمصانع الكبرى والمؤسسات العامة التي بيعت إلى الشركات الصهيونية والرأسمالية المافيوية الإجرامية بتراب المال، بتأثير التبعية الأجنبية في عهد غورباتشوف ويلتسين، عميلي النفوذ الغربي الشهيرين.
وبالمقابل فإن التوسع الأمريكي الاستعماري الجديد قد جرى في ظروف مختلفة عن شروط الهيمنة القديمة التي كانت تجري في ظل سيطرة مطلقة على معظم الثروات العالمية التي كانت في أيدي الإمبريالية الأمريكية. أما الآن فقد واصلت أمريكا المنافسة على السيطرة الوحدانية على حكم العالم والتحكم بمصائره، واستنفدت ثروات وإنفاقات هائلة في ظل أزماتها المالية وتراجع اقتصاها وديونها وزيادة عجوزاتها السنوية وتراجعاتها في ظل ظهور دول منافسة جديدة اقتصاداتها تجاوزت الاقتصاد الأمريكي الغربي. مثل الصين واليابان وألمانيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا وغيرها من العمالقة الصاعدين، وجلهم آتون من العالم الثالث وليس من الغرب الأوروبي، بل من الدول التي كانت مستعمرات غربية في الماضي وتحررت بفعل التغير الثوري السابق الذي اجتاح العالم في القرن الماضي، وها هي آثارها مازالت تظهر تباعا ولن تتوقف مستقبلاً، فهي كينونة تطورية محتمة لا يمكن ردها أو إيقافها، ولها نتائجها المضادة للهيمنة الغربية والأمريكية التي تظهر بأشكال مختلفة ومتنوعة، وهي تجري جميعها في المجال الأمريكي الغربي السابق وعلى حساب الاقتصادات الغربية الأمريكية ومن أرصدتها ونقاط قوتها وامتيازاتها القديمة.

انهيارات البنى الاستراتيجية الأمريكية وانكشافها
وبعد إسقاط الاتحاد السوفييتي والسيطرة على مناطقه السابقة ووراثة مجاله الحيوي القديم وحصر روسيا الجديدة في ضيق حدودها، وتطويق الصين وإيران والسيطرة على دويلات الخليج والمشرق والمغرب واليمن السابق والعراق ومصر وليبيا وتونس وأفغانىستان... تمدد حلف الأطلسي (الناتو) نحو الشرق حتى نهاية اليابسة المحيطة، وكنت أينما نظرت في الخارطة الدولية تجدها تحت سيطرة أمريكية كاملة تقريبا، إلا ما ندر من الدول المقاومة خلال العشرين عاما السابقة. ولكن العولمة الإمبريالية الأمريكية المغرورة سرعان ما تراجعت خلال فترة قصيرة لم تكن متوقعة، وكشفت عن عيوب في صميم النظام الأمريكي الرأسمالي الغربي الاستعماري التي لم تكن تظهر للعلن في حقب الحرب الباردة ضد الشرق والدول والقوى الاستقلالية التحررية.

العمليات الأخيرة المستمرة في مأرب تدفع قوى العدوان إلى إعادة التموضع العسكري والسياسي في جنوب الوطن، وتحوله -وخاصة عدن- إلى بؤرة للصراع القادم، نتيجة لتناقض وتصادم مصالح كل من حكومة هادي و«الخونج» من جهة، وجماعة «الانتقالي» من جهة ثانية.
تحول عدن إلى مركز سياسي لحكومة هادي، بعد خسارتها المتوقعة لمدينة مأرب، سوف يجعل المدينة مركزا للتنافس كما كان عليه الوضع في العاصمة صنعاء قبل ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014.
فرض تنفيذ ما يسمى «اتفاق الرياض» هو الخيار الوحيد الذي تملكه دول تحالف العدوان، إلا أن هذا الاتفاق ولد ميتاً، ومع إمكانية فرضه على قيادات الارتزاق إلا أن إمكانية تنفيذه على الأرض غير ممكنة.
إزاء دوامة الصراع المحتملة التي سوف تدخلها عدن والمحافظات الجنوبية، يتوجب أن تقوم القوى الوطنية اليمنية في صنعاء بالإعداد للقيام بمسؤولية إنقاذ المجتمع، كطرف من خارج صراع المرتزقة، قادر على طرح مبادئ توافقية وعادلة تستجيب لها القوى والجماهير الجنوبية، فرغم أن لها وضعاً خاصاً مرتبطاً بالقضية الجنوبية إلا أنها بشكل عام لها نفس مخاوف واحتياجات المديريات المحررة من شبوة ومأرب والبيضاء وغيرها من المحافظات الشمالية، ويُمكن تحريرها والدخول إليها إذا تمكنا من اجتذاب المجتمع وكسب موقفه.

الوضع السياسي الاجتماعي في جنوب الوطن
كان الوضع الاجتماعي في جنوب الوطن أحد أبرز التحديات التي واجهت الثورة، فالمجتمع في المحافظات الجنوبية ظل يغلي من بعد حرب صيف 94، وتعرض لانتكاسة وفقد الأمل في التحرك مع الشعب اليمني ككل عقب انتكاسة ثورة 2011، كما تعرض لانتكاسة ثانية سياسية عندما لم تطبق «النقاط العشرون» و«النقاط الإحدى عشرة» في بداية مؤتمر «الحوار الوطني»، وتعقد الأمر أكثر مع تفريخ هادي لمكونات الحراك واستقالة القيادات الحراكية المشاركة في مؤتمر الحوار، وعدم تنفيذ مخرجات الحوار المتعلقة بمعالجة القضية الجنوبية ذات الصفة العاجلة، وتبدد أمل الجنوبيين بعد انقلاب «الرئيس الانتقالي هادي» على التوافق في مسألة حل القضية الجنوبية، وإقرار تقسيم المحافظات اليمنية الجنوبية إلى إقليمين ضمن مخطط تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، وهو الأمر الذي رفضه الجنوبيون، لما له من خطورة على وحدة الأراضي الجنوبية اليمنية.
ممارسات السلطة العُدْوَانية تجاه أبناء المحافظات الجنوبية طول المسار التاريخي من بعد حرب 94، وتعقد إشكالاتهم السياسية والاقتصادية، وقمع الفعاليات السلمية للحراك، ووصول الأزمة إلى تنصل بعض النخب الحراكية عن الهوية اليمنية، هذا المسار التاريخي جعل من المحافظات الجنوبية الخاصرة الرخوة للوطن اليمني والمنفذ الأسهل للقوى العُدْوَا.ية، وبخلاف الشمال فمازالت إمكانية تحرك قوى العدوان في جنوب الوطن متاحة بشكل أوسع.

تداعيات أحداث مأرب
العمليات الأخيرة المستمرة في مأرب تدفع قوى العدوان إلى إعادة التموضع العسكري والسياسي في جنوب الوطن بطريقة غير منظمة وعشوائية مصيرها الفشل، وتتم في ظل حالة التنافس الصراعية بين أطراف المرتزقة، مظاهرها كالتالي:
ـ عودة الاغتيالات والسيارات المفخخة؛ منها محاولة اغتيال محافظ عدن ووزير الزراعة الموالي لـ«الانتقالي» ومحاولة اغتيال نائب رئيس جامعة عدن.
ـ عودة المعارك بين «الانتقالي» والخونج في كل من شبوة ونقطة العلم (نهاية أبين بداية عدن)، والتنافس في أبين، وحضرموت.
ـ تعزيز وضع عدن كـ«عاصمة سياسية»، حيث شهدت مؤخراً زيارة وفد من سفراء الاتحاد الأوروبي (ماريون لاليس، نائبة رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي، ‎والسفير الفرنسي جان ماري، والسفير الألماني هيوبرت ياغر، والسفير الهولندي ‎بيتر ديريك هوف، والمبعوث السويدي بيتر سمنبي) والتقوا بمسؤولين من الحكومة العميلة وعلى رأسهم رئيس الوزراء معين عبدالملك ووزير الخارجية أحمد بن مبارك، كما اجتمع الوفد برئيس «المجلس الانتقالي الجنوبي» عيدروس الزبيدي، والمجلس الأعلى للحراك الثوري الذي يقوده فؤاد راشد (المنشق عن تيار باعوم).
ـ زيادة الاهتمام البريطاني بالوضع في جنوب الوطن على المستوى الأمني والسياسي والاقتصادي، فخلال هذه الفترة زاد النشاط الاستخباراتي البريطاني في الجنوب والمهرة خصوصاً، وأبدت بريطانيا استعدادها لإعادة أموال البنك المركزي اليمني المجمدة في لندن إلى عدن، كما صرح السفير البريطاني الأسبوع الماضي مخاطباً «الانتقالي» بأن الانفصال غير ممكن إلا بدعم «الانتقالي» لهادي والخونج.

عدن بؤرة الصراع القادم
إعادة الانتشار العسكري والسياسي في عدن، في ظل ضعف وحدة قوى الارتزاق، وفي ظل الانهيار الاقتصادي الخدمي الشامل في المحافظات الجنوبية، سوف يحول جنوب الوطن وعدن إلى بؤرة للصراع، ففيما يتجه الخونج وحكومة هادي إلى الانتشار فيها باسم «الشرعية اليمنية» ولا يملكون خياراً غير ذلك، فإن «الانتقالي» يبدي ممانعة لتوسع جماعة هادي والخونج، بناءً على شعار الجنوب العربي ومطالب الحكم الذاتي، ويرفض أن يتم الانتقاص من المكتسبات السياسية العسكرية التي حققها بفضل دعم الاحتلال الإماراتي طوال الفترة الماضية.

ضيق خيارات قوى العدوان
لا تملك قوى العدوان من أجل نجاح إعادة تموضعها سوى خيار واحد وهو إرغام «الانتقالي» وحكومة هادي على تنفيذ ما يسمى «اتفاق الرياض» (2019)، ودعم الحكومة العميلة ماديا وخدمياً من أجل تهيئة الوضع الاجتماعي لتنفيذ «اتفاق الرياض»، وهذا الاتفاق ولد ميتاً، وإن استطاعت قوى العدوان فرضه على النخب القيادية العميلة -وهو أمر ممكن- فمن الصعوبة أن يتم تطبيقه على الأرض، وذلك لتعقد الوضع في جنوب الوطن المرتبط بالقضية الجنوبية وانعدام الثقة الذي تجذرَ من خلال فشل تجربة «مؤتمر الحوار» و«النقاط العشرين» و«النقاط الإحدى عشرة» و«اتفاق السلم والشراكة» و«اتفاق الرياض» الذي لم يطبق منذ 2019.
من المتعذر نجاح «اتفاق الرياض»، لكن الأقرب إلى الواقع هو فرض الاتفاق على مستوى مدينة عدن وتعزيز وضعها كعاصمة سياسية وتحسين الخدمات والعملة بدعم أوروبي، فيما سيظل التنافس بين القوتين خارج مدينة عدن، وهو ما سوف يزعزع الوضع فيها.

الحل لدى صنعاء
لا تملك قوى العدوان حلاً للمحافظات الجنوبية كما هي مفلسة في المناطق الشمالية. والجماهير الجنوبية بشكل عام لها نفس مخاوف واحتياجات المديريات المحررة من شبوة ومأرب والبيضاء، ويُمكن تحريرها والدخول إليها إذا تمكنت صنعاء من اجتذاب المجتمع وكسب موقفه، من خلال تصرفات قانونية واجتماعية جوهرها متضمن في مخرجات «الحوار الوطني» وفي رؤى القوى الجنوبية و«النقاط العشرين» و»النقاط الإحدى عشرة» التي تمس بصورة مباشرة مصالح القوى في الجنوب، والاعتراف بها هو حق أدبي ولن يحمل الدولة أي تكاليف مالية راهنة، نظراً لطبيعة الوضع الاقتصادي، وتطبيقها سوف يكون تالياً لعملية التحرير في مرحلة البناء، لكن من المهم الاعتراف به من اليوم لطمأنتهم بأن دخول أنصار الله هذه المناطق مختلف من حيث مضمونه الاجتماعي عن دخول قوى حرب 94 وعن وجود الحكومة العميلة الراهنة، وهي قضايا متعلقة بمسألة المسرحين والمتقاعدين، والوضع الاجتماعي والاقتصادي للمستفيدين من قانون الإصلاح الزراعي، ممن تم انتزاع أراضيهم بعد حرب 94 من أفراد وجمعيات تعاونية ومزارع الدولة وأبنائهم وقود تحالف العدوان في الوقت الراهن، والتوازن السياسي بين شمال الوطن وجنوبه، وتصحيح مسار الوحدة، وإعادة الاعتبار للتاريخ الوطني والنضالي السياسي للمجتمع اليمني في جنوب الوطن، ومسألة الوضع العسكري الأمني، فمن بعد حرب 94 كان الجنوب يعاني -ومعه كل الوطن- من السيطرة العسكرية لسلطة الاستبداد والعمالة التي تثير الحساسيات الشطرية والمناطقية والمذهبية.

على امتداد ساحات الصراع مع القوى الإمبريالية الغربية والرجعية يحقق محور المقاومة إنجازات وانتصارات متنوعة وضخمة تتواصل دون توقف. وخط التقدم الوطني التحرري هذا هو الخط العام الرئيسي الذي يفرض نفسه بقوة منذ انتصارات المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية والعراقية والإيرانية التي تعمدت بالدم خلال العشرية النارية الماضية التي تحققت خلالها أهم الإنجازات الانتصارية الكبيرة ضد المحتل الأجنبي في أقطار العرب وفي بلاد العجم المسلمين التحرريين، وكانت النتائج المبهرة التي تحققت على صعيد الميادين قد كشفت بوضوح ضعف المنظومات العدوانية الإمبريالية وعجزها عن المواجهة في الميادين المباشرة في معظم ساحات المواجهة، بل في جميعها تقريبا.

فقد كشف العجز الأمريكي في السيطرة على العراق وسورية وأفغانستان واليمن وغزة ولبنان حقائق التوازنات الاستراتيجية الجديدة في المنطقة، والتي لم تعد في صالح المنظومات الاستعمارية الصهيونية الرجعية المتحالفة، التي تعاني من الانحدار والانهيارات على أكثر من صعيد، عسكريا وسياسيا واستراتيجيا، ونضوب الكثير من بدائلها وخياراتها وخططها ومشاريعها الشيطانية، فليس نقص الإمكانيات والقدرات المادية والفنية على فرض تلك الخطط والمشاريع، على أهميتها، هو نقطة الضعف الوحيدة، بل هناك تتصاعد عوامل أخرى مضافة كل يوم، أبرزها: تآكل الاحتياطات الاستراتيجية من القوى والموارد المادية والذاتية والقيادية والسياسية والجيوسياسية والاستراتيجية في المنطقة والعالم، في إطار الأزمات البنيوية الشاملة المتلاحقة التي تحيط بالإمبريالية الأمريكية والتحديات التي تواجهها في مركزها وفي مواقع نفوذها المتراجع وفي علاقات قواها مع القوى العالمية المواجهة لها، والتي تنافسها على النفوذ والاستقلال عن الهيمنة الأمريكية القديمة. وقد أدى هذا إلى نشوء سياسات أمريكية جديدة تقوم على محاولة التكيف الاضطراري مع شروط الأزمات الجديدة التي تلتف حول أعناقها من كل وجهة وجانب في العالم والمجتمع، وهو وضع واقعي لا يسمح لها باستمرارية ممارسة ومتابعة السياسات الهجومية القديمة التي كانت تتبعها أيام قوتها الفائضة التي بدأت تعترف بحقيقة تراجعها منذ نهاية العشرية المنصرمة، حين تفجرت في وجهها الأزمات الكبرى اقتصاديا وحربيا واستراتيجيا، منذ هزائمها في العراق وخسائرها الاستراتيجية أمام إيران ومحور المقاومة وأمام الصين وروسيا وفنزويلا وكوبا وكوريا وسورية وحزب الله في الصراعات التي خاضتها مباشرة أو عبر وكلائها الإقليميين. فخسارتها هي مباشرة. أما غير المباشرة فهي خسائر محتمة على وكلائها الإقليميين في المنطقة، سواء "إسرائيل" أو السعودية وبقية الخليجيين ومنظوماتهم الإرهابية السلفية والإخوانية المصنعة أمريكيا، كلها تتأثر مباشرة بكل ضعف أمريكي صهيوني.
وكانت أزمة الحكم الصهيوني الطويلة وعجزه عن تشكيل حكومة موحدة لوقت طويل وسقوط نتنياهو وحزبه المتطرف العتيد وقبله ترامب نفسه واضطراب المنظومة السعودية الخليجية الحاكمة وهزائمها المدوية في اليمن وفي إدارة العرش المتهالك داخليا وتراكم ديونها العسكرية الضخمة، من أهم نتائج التراجع الأمريكي الصهيوني الرجعي المشترك في معارك المنطقة، والتي كانت ومازالت لها آثارها الكارثية على مسيرتها الحربية العدوانية في اليمن والمنطقة ككل، وتحول ذلك كله إلى أرصدة إيجابية لصالح القوى التحررية الاستراتيجية والميدانية، نراها بأم أعيننا في أشكال متعددة من الهزائم والانتكاسات والتراجعات الاسترتيجية على مختلف ساحات الحرب والصراع، وخاصة الساحة اليمنية الساخنة الآن، بل الملتهبة.
من أين جاءت هذه المتغيرات الحاسمة التي لم تكن قد حدثت قبل أشهر وسنوات فحسب؟ لقد جاءت من الصمود الوطني التحرري والالتفافات الشعبية لجماهير الأمة المكافحة والواعية بقضاياها والمؤمنة بقدراتها وطاقاتها وبتاريخها ومستقبلها وبرسالاتها التحررية الاستقلالية والإنسانية التي تنتظرها، وبوصلتها الأساسية هي تحرير القدس الشريف أولى القبلتين ومسرى خاتم النبيين وثالث الحرمين ومحج قلوب المسلمين كافة.
هو إعصار ثوري تحرري يجتاح المنطقة والعالم، مركزه آسيا الغربية، ردا على الإعصار الأمريكي الغربي الذي تفجر على يد الحكومة الأمريكية نهاية الألفية الماضية من واشنطن على يد جورج بوش الابن حين فجرت أبراج نيويورك ومركز التجارة العالمية، رمز الإمبريالية الغربية، واستغلالها كذريعة لتجنيد حملة صليبية عسكرية عدوانية على العرب والمسلمين في "الشرق الأوسط" بهدف احتلاله مباشرة وإعادة ترتيب خارطته الجيوسياسية بما يوافق مصالح السيطرة الصهيونية والغربية على الثروات والممرات والمواقع، ووضع اليد الغربية على منابع النفط وممراتها وحقولها واحتياطاتها الاستراتيجية، وكانت قد سبقت إلى احتلال أفغانستان بذريعة "مكافحة الإرهاب" الذي خلقته بيديها سرا لتطويق إيران والصين وعزل روسيا وسورية والسيطرة على منابع الطاقة النفطية الغازية المتوفرة شمال أفغانستان، والاقتراب من حوض بحر قزوين الغني بثرواته والتحكم بطريق نقل الغاز والنفط من بحر قزوين إلى أوروبا بعيدا عن الخط الروسي الحالي وتحويله إلى موانئ باكستان وتركيا دون المرور بالأراضي الروسية.
وتمثل الاستراتيجية الأمريكية التي اتبعتها في التعامل مع الأوضاع الأفغانية نموذجاً للخداع والتلاعب بالإرهاب والسلفية الوهابية واستغلالها وإعادة هندسة المجتمعات الشرقية بموجب مصالحها وبالضد لمصالح الأفغان والشرق والشعوب، وهي خطة شيطانية تمارسها في كل مكان من العالم الثالث المظلوم، وتقوم على اتباع خطوات ممنهجة للوصول إلى غاياتها في القطر والمنطقة المحيطة، ومنها:
ـ صناعة الإرهاب إلى الحد الأقصى في أفغانستان في نهاية السبعينيات باستخدام السعودية والباكستان والعملاء الآخرين، ثم تدعم الإتيان بفصائل منهم إلى الحكم، بينما تبقي البعض في المعارضة، وينشب الاقتتال بينهم طوال سنوات، وهي تغذي وتدعم الجميع بالأموال والسلاح عبر المخابرات الأمريكية والباكستانية ليواصلوا اقتتالهم حتى يستنزفوا بعضهم، ليكون من الصعب إيجاد قوى مؤثرة تدافع عن القطر عندما تحين ساعة احتلاله بشكل مباشر وكامل، ثم تأتي بالقوى الإرهابية الأخيرة الأكثر تطرفا وتخلفا بطائراتها وتدعمها بالطائرات والأسلحة والمدرعات وبتوجيهاتها إلى الحكم، وطرد البقية نحو الشمال والبلاد المحيطة بها والمجاورة لروسيا والصين وإيران. وكان "القاعدة" هي من قام بتأسيسه هي، ولم يكن قادته إلا كوادر لديها في جهازها الاستخباري ينسقون نقل الدعم الأمريكي من أموال وأسلحة وخبرات إلى الداخل الأفغاني، وقد جعلت أفغانستان قاعدة الإرهاب الكبرى برعاية مخابراتها والمخابرات الباكستانية خلال السنوات السابقة واستغلال الجماعات الإرهابية الأفغانية كلها من الشماليين إلى مسعود إلى حكمتيار إلى "طالبان" إلى "القاعدة"، وعندما نضجت إمكاناتها للاحتلال والغزو العسكري أوعزت المخابرات الأمريكية إلى السعوديين وعملائهم نسف الأبراج الأمريكية في نيويورك وقتل وجرح وإصابة 5 آلاف أمريكي، وجعل ذلك ذريعة وحجة قوية لإقناع الكونجرس والشعب الأمريكي المضلل بأن أمريكا تتعرض لعدوان ولحرب إرهابية كبرى من "الشرق الأوسط" ومن المسلمين والعرب، ولا بد من غزوهم بالضرورة قبل تدمير أمريكا بـ"الإرهاب"، والوثائق التاريخية كلها تكشف هذه الحقائق الآن بعد رفع الغطاء عن الوثائق الأمريكية الخاصة بتلك الأحداث.
وفي ظل الصدمة الأمريكية والترويع الدموي الهائل كان الشعب الأمريكي قد خضع لمطالب وغايات اليمين الصهيوني الأمريكي الحاكم آنذاك، وتمكن من الحصول على التفويضات الدستورية والتشريعية المطلوب لسلطة الحرب وإرسال القوات المسلحة إلى خارج أمريكا، ومنح الرئيس الصلاحيات القيادية المطلوبة في ظل الحرب والطوارئ التي اصطنعوها بدهاء خبيث، وهكذا استعادت السلطة التنفيذية جميع السلطات القديمة التي كان قد سحبها الكونجرس الأمريكي بعد نكسة فييتنام، وربط الحرب بقراراته هو وليس بموجب تشريع قانوني جديد من الكونجرس. ولما كان الكونجرس والشعب الأمريكي لم يعد يرغب ولا يوافق على حروب خارجية، فقد دبروا حملة ترويع وإرهاب ضد الشعب الأمريكي لإخافته وترويعه وإرهابه، لاستخلاص ما يريدون من سلطات حربية استعمارية إمبريالية تخدم مصالح الاحتكارات الكبرى في العالم الغربي الأمريكي، وقد نجحوا مؤقتا ومرحليا.
وقد انتهت تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الشعوب الشرقية ليبدأ عصر جديد أهم سماته تراجع وتهاوي القوى الأمريكية وعجزها عن المبادرة مجددا واضطرارها إلى التحول إلى الدفاع مع نهاية فترة جورج بوش الثانية في العام 2008 لتبدأ لحظة جديدة وعهد تاريخي جديد مضاد للزمن الأسود الأمريكي الاستعماري الغارب غروبا لا إشراق بعده.