علي نعمان المقطري / لا ميديا -
في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت فوجئ الجميع بانسحاب قوات العدوان من الساحل الغربي للحديدة وأبوابها ومطارها إلى الخلف نحو 100 كيلومتر بين الحديدة وحيس مرورا بالتحيتا والدريهمي والجراحـــي والجبيلية والمناطق التي كانت تحت الاحتلال الإماراتي منذ بداية الهجوم الساحلي للعدوان خلال العامين 2017 و2018م.
والمسافة أكثر من ذلك في الواقع، فالحديدة تبعد عن المخا والخوخة أكثر من 200 كيلومتر لأنها أكثر من 300 كيلومتر من الحديدة إلى تعز، وهذا لضبط المسافات الحقيقية التي أخلاها العدوان جبرا تحت وطأة ضربات الجيش واللجان الشعبية، وانهيار القوات العدوانية حول الحديدة والساحل الغربي بعد الهزائم التي لحقت بما يسمى العمالقة والجنوبيين السلفيين والانتقاليين الانفصاليين، وأدت إلى المزيد من التراجعات والتقهقرات والانهيارات التي تواصلت دون توقف.
وكانت اتفاقية ستوكهولم هي طوق النجاة لخروج تلك القوات من الطوق الناري الحربي الذي أقامته قوات الجيش واللجان عبر أطواق الحصار الملتفة عليها من عدة جهات. وكانت القيادة اليمنية قد أرادت دق الإسفين بين طرفي العدوان وإعطاء الأولوية لمعارك صنعاء ومأرب والحدود التي كانت مشتعلة بشدة ولها نتائج حاسمة على مجموع نقاط ومعارك المسرح الوطني بشكل شامل، ولذلك فقد تجاوبت بإيجابية شديدة مع دعوات التهدئة في الساحل الغربي وحول الحديدة وقدمت لذلك تنازلات كثيرة فالتزمت باتفاقية ستوكهولم من جانب واحد بينما واصل العدو انتهاكاته لها. منذ نهاية العام 2018، وقت توقيع الاتفاقية المذكورة، وأدى هذا إلى تبريد المعارك في جنوب الحديدة وساحلها وسمح للعدوان أن يتراجع عدة كيلومترات بعيدا عن خطوط التماس الحربية السابقة. وهكذا أنقذ العدوان وقواته الباقية من محرقة محققة. وبعد ثلاثة أعوام منها وجدناه يهرب من المنطقة بأكملها بما يتجاوز بنود الاتفاقية التي ألزمته بالتراجع 30 كيلومتراً فقط ولم ينفذها في حينه ومازال، ولكنه الآن قد فر ليعود من حيث أتى في بداية غزو الساحل، فما الذي يجبره على هذ التقهقر الكبير الآن (الذي بلغ أكثر من 300 كم مضروبا في 30 كم عرضا = 9000 كم مربع، وهي المساحة العامة للمنطقة التي تقهقر عنها العدوان غصبا عن إرادته والتي دفع فيها أثمانا باهظة بشرا ومعدات وأموالا ومعنويات وخسائر وصلت آثارها إلى دبي وأخواتها بعد حرب استمرت أعواما طويلة وما زالت قائمة ومستمرة)؟
إن هذا التقهقر كان ومازال حتميا منذ العام الأول له، ومنذ وصوله إلى أبواب الحديدة ضمن مغامرة مجنونة سموها “السهم الذهبي” كناية عن الإسراع في انطلاقة الهجوم الخاطف على ساحل الحديدة الذي كسر جميع قواعد الحرب وأبسطها وقوانينها النظرية والعملياتية استنادا إلى فكرة التفوق الجوي على الأرض المكشوفة والهجوم المدرع الجبار سريع الحركة الذي صاحبته حملات من الدعاية والحرب النفسية والإعلامية وصدمات الترويع الحربي الإبادية الموجهة ضد المدنيين والشعب الأعزل الآمن لقهر إرادته وتركيعه كما يتصورون.
لقد حصر العدوان نفسه في الشريط الضيق من أرض ورمال الساحل الغربي للحديدة- تعز بطول أكثر من 400 كيلومتر وبعرض لا يزيد عن 30 كيلومتر، من الرمال الناعمة تفصل البحر عن المدن الساحلية، وقد جعلته المناطق الداخلية الجبلية المحررة التي تتركز فيها قوات الجيش واللجان الشعبية على يمينه طوال الوقت مكشوفا من أجنابه الضعيفة يتعرض لحرب استنزافية كثيفة مستمرة تأكل البشر والمعدات الحديثة للغزاة بشكل يومي.
والعدو الذي كانت خطته قائمة على الإسراع في حسم المعارك وعدم تضييع الوقت في الاستنزافات اليومية قد وقع ضحية حماقاته وسخف تفكيره الحربي التقليدي المتحدر من الحرب العالمية الثانية وما قبلها ومن فكرة تكامل سيطرة ثنائي الطائرة جوا والمدرعة أرضا وبرا، وهي أفكار حربية كانت لها وجاهتها في عصرها، لكن تجاوزها الزمن والتجارب الحربية الجديدة وتطورات الثورة العلمية التقنية والثورات الشعبية الوطنية التحررية الجديدة في عهد سيطرة الإمبريالية الجديدة الأكثر شراسة وضراوة وعلموية وحداثة وقوة وهزيمتها من كوبا إلى فيتنام وإلى طهران وإلى لبنان وغزة ودمشق وأفغانستان واليمن والعراق.
إن تحطيم مناطق إنزال الأساطيل الاستعمارية من قبل الجيش واللجان وقيادته الواعية لمخططات العدو بالتفصيل وأدركت أن هذا الهجوم الساحلي ما هو إلا رأس رمح الغزو الكبير البحري الأساطيلي الأجنبي البحري الجاهز للغزو والمكتظ على سواحلنا بكثافة ينتظر الإشارة والإنجاز للمرحلة الأساسية التمهيدية للغزو المتمثلة في إقامة المنطقة الآمنة الواقعة على مساحات كافية لمنع المدافع والصواريخ اليمنية من الفتك بالبوارج والسفن الحربية العملاقة الحاملة للقوات الأجنبية.
كانت تلك المنطقة الآمنة الضرورية المطلوبة تعني احتلال المرتزقة كامل السلاسل الجبلية المطلة المشرفة على طول الساحل اليمني من المندب وغرب تعز حتى ميدي مرورا بالحديدة والمخا وزبيد وبيت الفقيه والجراحي والجبال المشرفة عليها والمرتفعة بعمق يصل إلى أكثر من 100 كيلومتر تكون محمية من المدى الناري للمدافع والهاونات والصواريخ اليمنية وتسيطر على مداخل ومرتفعات المحاور القادمة من المحافظات الغربية والشمالية، أي إقامة رأس الجسر أو رؤوس الجسور للإنزالات العسكرية الاحتلالية وحماية لها تمهيدا لانقضاضها على الحديدة ومناطقها الداخلية وإضعاف الدفاع عن العاصمة وتأمين المؤامرة الانقلابية من الداخل المركزي ودعم الهجوم البري الرئيسي القادم من الشرق والشمال الشرقي على العاصمة صنعاء، ولكن قوات الجيش واللجان أفشلت المخطط من خلال سيطرتها الشديدة على جميع المرتفعات الغربية الممتدة على طول السهل الساحلي الغربي اليمني الممتد مئات الأميال في مقابل التحشد البحري الاستعماري الضاري، من تحشد البحرية المصرية السيسية إلى القوات السودانية إلى القوات البحرية الإماراتية والسعودية وإلى الأساطيل الأمريكية والبريطانية والفرنسية و”الإسرائيلية” وكلها تستعد للإنزال لو ضمنت المنطقة الآمنة المؤمنة المكلف بإنجازها قوات المرتزقة الإماراتية الانفصالية البرية البالغة أكثر من 30 لواء من العمالقة والجواسين والهيثميين واليوافع والصبيحة وطلائع السودانيين والـ”بلاك ووتر” والسلفيين و”القاعدة” و”داعش” والإخوان والعفاشيين، ودارت معارك ضارية تواصلت دون توقف رغم الخيانات العفاشية الواسعة على الساحل وتعز.
وحولت قوات الجيش واللجان الجبال الغربية المستهدفة إلى مناطق ارتكاز وقواعد دفاعية حصينة وقوية تتصدى للعدوان ومناوراته وفشل الهجوم الساحلي في تحقيق أهدافه العملياتية وفشل نتيجته الهجوم البحري الاستراتيجي المقيد بالنار.
فعجز العدوان المرتزقي المحتل للساحل الغربي عن مواصلة سيطرته واستمراره على الساحل وحول الحديدة، وعرضه ذلك للكمين الاستراتيجي الوطني الكبير وللحصار والاستنزاف والهزائم الدائمة حتى أضحى على مشارف الكارثة المحتمة بعد سنوات من المحاولات الفاشلة لفتح الطريق للإنزالات الأجنبية البحرية الكبيرة وخسر آلاف المدرعات والدبابات وعشرات الآلاف من المرتزقة وعشرات البوارج والسفن والطائرات الحربية وأعلن العدوان هزيمته المدوية عبر ستوكهولم نهاية العام 2018 بعد فشله الذريع في التقدم نحو أبواب الحديدة وما لاقاه من أهوال تشيب لها الجبال.

التقهقر الاستراتيجي الجديد للعدوان
مر أكثر من أسبوعين منذ أن تقهقر العدوان متسارعا عن الساحل الغربي للحديدة مسافة 70 كيلومترا جنوبا نحو المخا وما زال التراجع العدواني مستمرا بعد أن عصفت الانتصارات اليمنية على جبهات شبوة والبيضاء ومأرب خلال الشهر الماضي، وبعد أن حررت قوات الجيش واللجان أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع خلال العامين الماضيين ومازال التقدم مستمرا فنحن ما نزال في البداية؛ بداية مسيرة تحريرية تتصاعد وتائرها كل يوم وكل ساعة تقريبا، ذلك أن العدوان بعد أن واجه انهيارات هائلة على جبهات المركز ومأرب وشبوة والجوف والبيضاء وصنعاء والحدود أدرك أنه مقبل على أيام سوداء لم يعرفها من قبل طوال السبع السنوات الماضية وطول عمره أيضاً، صنعتها تضحيات أبطالنا ومواطنينا ومعاناة شعبنا اليمني المقهور المظلوم.

أضحى العدوان عاجزا عن مواصلة عدوانه بالطريقة القديمة بعد أن استهلكت في المعارك قواته المرتزقية على مسرح الشمال اليمني الرئيسي، واستنزفتها الهزائم والانكسارات اليومية الطويلة المكلفة المهلكة، وهو ما جعل الضعف سمة عامة في كل الجبهات العدوانية الراهنة، والعدو يريد قبل كل شيء إيقاف قوات الجيش واللجان الشعبية عن مواصلة التقدم في المحافظات المجاورة لمأرب، أي الجنوبية، التي يتمركز فيها العدوان يواصل حشد القوات الأخيرة للمعركة الأخيرة في نظره، أي قوات الانتقالي الانفصالية، وهو يفعل ذلك كما فعل في الماضي عندما قام جيش الانفصاليين الإماراتيين ومرتزقته بغزو الساحل الغربي والحديدة لإسقاطها واحتلالها.

معادلة مقابل معادلة تسقط الآن
كان العدو قد حاول استخدام الحديدة كورقة ضغط عبر إسقاطها واجتياحها لوقف تقدم قوات الجيش واللجان الشعبية على الجبهات المركزية الأخرى ومقايضتها بها لتجنب خوضه صراعا حربيا طويلا مهلكا. ولما صمدت قوات الجيش واللجان في الساحل الغربي وخاضت معارك مشرفة وحاسمة ضارية وطويلة مع المرتزقة الجدد والقدامى مجتمعين وأفشلت خططهم وهزمتهم شر هزيمة، وأضحوا محاصرين بين كماشات قوات الجيش واللجان، استعانوا بالأمم المتحدة لإخراجهم من المأزق الخطير الذي أوقعوا أنفسهم فيه جراء المعارك أمام أبواب الحديدة، وتم اتفاق ستوكهولم لإبعادهم عن خطر الحصارات والمواجهات بوساطة دولية، وقد مكنهم من التقهقر المرحلي بعيدا عن الحديدة بضعة كيلومترات ووقف النار بين الجانبين، ومكنهم ذلك من التراجع نحو مناطق الساحل الغربي جنوبا ونحو البحر لإعادة تنظيم صفوفهم المتهدمة.
كانت خسائرهم قد فاقت 2000 مدرعة وآلاف القتلى والجرحى والمصابين والإعاقات، وأضحوا محاصرين على شريط ساحلي من الأرض الرملية لا يتعدونه، وأصبح هلاكهم محتوما، وقد دمر عليهم عدد من ألويتهم المعملقة الضاربة المدرعة والآلية.
ولم يكن في أولويات قوات الجيش واللجان الغرق في معارك استنزاف بالساحل الغربي، فلم تفكر في مطاردة الفارين والمنسحبين والمتقهقرين آنذاك، بل تركتهم يفرون. كانت تلك فرصة للإمارات التي انقصم عمودها الفقري في معارك الساحل اليمني، فاستغلت الفرصة لتعلن انسحابها الكامل من المعارك في الساحل بعد أن أعدت وجهزت لمرتزقتها للبقاء طويلا في الساحل جنوب الحديدة في المخا والمندب في قواعدها التي بنتها هناك لتبقيها طويلا مسيطرة على الجزر والسواحل والممرات الحاكمة وهكذا، وأرادت أن تقلل تكاليف حملاتها العدوانية القادمة بعد أن تراكمت ديونها وخسائرها المادية والمعنوية وتفجرت خلافاتها داخل الأسر الحاكمة في دويلتها القزمية المتطاولة بحماية أمريكية بريطانية صهيونية، فهي كالسعودية تعمل ليس لأجل نفسها باستقلالية، بل تنفذ مقاولات من الباطن لصالح الأمريكي والصهيوني والبريطاني الذين أقاموها من الأساس، وهذا هو دورها وعلة وجودها على الخارطة الجيوسياسية، وبأوامر منهم تتحرك وتطلق وتعادي وتحارب وتسالم وتطبع وفقا لأجندات أسيادها الغربيين المستعمرين.
وخلال سنوات احتلال الساحل الغربي حشدت الإمارات والسعودية مختلف أشكال المرتزقة المحليين والعفاشيين ومن المنطقة التهامية ومن السودان، وغيرهم من كل لون وشكل وملة. ولكي تكافئ العفاشية على خيانتها وتسليمها الساحل الغربي للعدوان أثناء فتنة وخيانة عفاش الكبير في نهاية 2017، فقد أنشأت لهم معسكرات وعينت لهم عفاش الصغير قائدا لهم بعد فرارهم المذل من العاصمة، واستثمرت الفارين والمرتزقة والمتطرفين والإرهابيين، حيث وجدت منهم الولاء والرعاية وراحت تنافس السعودية في اصطناع العملاء والمرتزقة والأتباع للسيطرة على السواحل اليمنية لتأمين تجارتها وموانئها ونشاطها التجاري والاستراتيجي ومحاولة تقديم نفسها للأمريكي (السيد الأعلى للاستعمار) على أنها الخادم الأكثر إخلاصا وخبرة وقدرة وسرعة وفتكاً في إنجاز مشروعاته الإمبريالية على الأرض وإلباسها أثوابا محلية ومنحها جنسيات معربة، لكن عظامها الهشة انكسرت من أول تجربة على الأرض، مما اضطرها إلى الانكفاء تدريجيا وتقليل مشاركتها في المسرح الشمالي الشرس والبالغ الصعوبة والوعورة، تاركة سيدتها الإقليمية تواجه حرارة الجحيم التي أشعلتها بمؤامراتها وجرائمها بعد أن وعدتها بأسبوع أو أسبوعين ويكونوا في العاصمة صنعاء، لكن طالت الرحلة والمجهول صار سيدا جديدا لهم، فما الذي يدفع العدوان في الساحل إلى هذا التقهقر الكبير فجأة وبدون سابق إنذار؟!
من مراجعة أوضاع العدوان في الساحل ومأرب والوضع العام في جميع مسارح الحرب والمعارك نجد الإجابة الواضحة بعيدا عن الضجيج والتشويش والتهويش الإعلامي الجاري الصادر عن العدوان وأجهزته لمحاولة إخفاء حقيقة انهياراته والتي تقف خلف قراراته بالتقهقر المفاجئ بعد انهياراته الكبيرة في جبهات مأرب وشبوة والبيضاء وصنعاء والجوف والتي أكدت بوضوح خطورة ما وصلت إليه حالته الاستراتيجية والحربية والميدانية التي تضعه على مسافة قريبة من الهزيمة الكبرى النكراء والمدوية التي تضع حدا نهائياً لاستمرارية العدوان برمته بما فيها وضعه في الجنوب، حيث يحاول الاحتفاظ ببعض المحافظات النفطية والاستراتيجية تحت سيطرته في إطار ما يتخيله لعقد صفقات تقاسم الشمال والجنوب أو بعضه أو قسم منه أو... إلى آخره من الأمنيات الأخيرة التي يوهم بها نفسه وأتباعه المغفلين.

المعنى الواقعي لهدنة ستوكهولم
إن توقيع هدنة ستوكهولم كان معناه القانوني والحربي والسياسي هو أن الطرفين يريدان الخروج من المعركة الجارية لأسباب مختلفة متناقضة، فالعدو عجز عن مواصلة هجومه نحو المدينة الساحلية الرئيسية وعجز عن اختراق دفاعاتها، كما أن استنزافاته اليومية وحصاراته تضاعف تكاليفه وتزيد خسائره باستمرار، وعجزه يزيد ويرتفع أكثر فأكثر مع الوقت، وسوف يأتي وقت لا يستطيع فيه التراجع نهائيا مع إحكام الحصار عليه من قبل الآخر، لذلك وجدها فرصة لإنهاء الحرب في الساحل والتملص من نتائجها، وهذا ما أعلنته الإمارات صراحة بعد الهدنة الموقعة.
وخلال العامين تواصلت عمليات سحب القوات الإماراتية من الساحل الغربي جنوبا إلى المندب وأحلت محلها قوات تابعة لها (عفاشية)، كما قامت بنقل أغلب الألوية الباقية من العمالقة والجنوبيين وعددها أكثر من 30 لواء عسكرياً، تضم أكثر من 100 ألف مرتزق جنوبي سلفي وعلماني وإخواني وتهامي وعفاشي، ووزعوا على المحافظات الجنوبية التي بدأت فيها النزاعات بين طرفي مرتزقة الإمارات والسعودية حتى أكملت الإمارات بقواتها المنسحبة انقلابها على المرتزقة الإخوانيين الهادويين في ما عرف بانقلاب آب/ أغسطس 2019 في عدن وما حولها، حيث سيطرت قواتها على معسكرات عدن وغيرها، وأجبرت الألوية والقوات الأخرى على الخضوع والاستسلام لها وجعلتها تحت سيطرتها وسلطتها، تحضيراً لإعلان الانفصال الجنوبي عن اليمن بشكل نهائي، وإعلان قيام حكم ذاتي ودويلة منفصلة تحت الاحتلال الأمريكي الإماراتي الناتوي الغربي الخليجي.
ولكي لا يسقط الساحل الغربي بعد انسحاباتها فقد عملت على إنشاء قوات أمنية وعسكرية جديدة من مرتزقة الساحل وتهامة والعفاشيين، ليس بهدف القتال في الساحل للسيطرة على الحديدة، فهذا قد سلمت بأنه صار مستحيلا ولا نفع من التجربة مجددا، ولكن مهمتها ستكون حماية مؤخرة الانتقاليين الإماراتيين والانفصاليين، وهكذا ظهرت أولويات جديدة للعدوان الإماراتي بعد أن انكسرت قواته في الساحل الغربي.
مع اشتداد الهجوم اليمني الكبير على نهم ومأرب والجوف والتقدم نحو المدينة والتقدمات الواسعة التي ينجزها الهجوم الوطني اليمني المتصاعد منذ بداية العام 2020 والمستمر في العام التالي بوتائر أقوى وأكبر مستندا إلى النجاحات المحققة في الميادين وإلى الالتفاف الشعبي المتزايد حول قوات الجيش واللجان وقيادتها الثورية الشجاعة والتدفق الحماسي الجماهيري الشبابي القتالي المتصاعد، وهو ما جعل العدوان وقيادته يقفون أمام المستجدات الخطيرة التي باتت تعصف بقواتهم ووجودهم في اليمن، وأن المسألة مسألة وقت فقط وسرعان ما ينهار كل شيء. 

سعت القوى العدوانية إلى تلافي المصير المهدد للجميع والحتمي ومحاولة تأخير حدوثه، فراحت تعقد “اتفاقية الرياض” الشهيرة بهدف دمج القوات الانفصالية تحت قيادة علي محسن وهادي والسعودية، وهي بعدد كبير بلغ قبل الساحل أكثر من 300 ألف مجند وأمني، كانت إلى ما قبل الساحل الغربي قد أعدتهم الإمارات والسعودية ليكونوا احتياطات استراتيجية للعدوان من جهة
ومن جهة أخرى يمهدون للسيطرة على الجنوب بالوكالة عن العدوان لتحقيق أهدافه المشتركة المتمثلة في الحفاظ على النفط والغاز والمعادن الثروات والممرات والسواحل والجزر والمواقع الاستراتيجية تحت تصرف العدوان ودوله الكبرى، ويظهرو نيابة عنهم في الصورة لخداع الجماهير اليمنية الجنوبية التي تطمح لتحقيق ذاتيتها الجغرافية الخاصة والمستقلة، وهذا هو جوهر التخادم بين الطرفين (التابع والمتبوع)، وقد وظفهم العدوان في حرب وغزو الساحل الغربي، وبالمقابل وعدهم بإعلان الدويلة الخاصة بهم، وقد وضعت معادلة “عدن مقابل الحديدة”، ولكن العدوان الإماراتي تحطم على أبواب وسواحل الحديدة دون أن يحقق أية فائدة أو تقدم بعد أن خسر عشرات الآلاف من القتلى وآلاف المدرعات المدمرة.
وفي نهاية العام الماضي عقدت السعودية اجتماعات في الرياض تضم طرفي مرتزقتها، وراحت تدريجيا تفرض عليهم بعد جولات من المعارك والاحترابات البينية أن يتوافقوا على محاربة قوات الجيش واللجان ويقفوا في جبهة واحدة وقيادة واحدة ويتقاسموا المناصب الحكومية وأن يعيدوا توحيد أطراف العدوان بهدف تحشيد القوات المشتركة لمواجهة تقدم قوات الجيش واللجان وإبعادها عن منطقة مأرب وشبوة والجنوب اليمني.

“اتفاقية الرياض” الحرب على الوطن
هدفت “اتفاقية الرياض” قبل كل شيء إلى حشد قوات المرتزقة بطرفيها الرئيسين لمواجهة تغلب قوات الجيش واللجان وتطور قاعدتها الحربية والعسكرية والصناعية والاستراتيجية، وكان ذلك يجري والمعارك على أشدها حول مأرب، واليوم يستيقظ الاتفاق الميت من غفوته ومن مماته، ولكنه محشور بأزمة العدو حول مأرب شبوة مع التقدم الحثيث لقوات الجيش واللجان نحو المناطق الجنوبية لشبوة بدرجة رئيسية، وهو ما يشير بوضوح إلى مدى جدية قوات الجيش واللجان في تحرير المحافظات الجنوبية المحتلة.
وبعد مأرب لن يهدأ بال قوات الجيش واللجان إلا أن تحرر المحافظات الجنوبية، لأن اليمن لن يأمن من العدوان الأجنبي والخارجي إلا بالتوحد والاستقلال الكامل، وليس بالانفصال كما يوهمونهم، وهذه هي المهمة الوطنية المقدسة التي باتت تثير الرعب في قلوب المرتزقة ومشغليهم الأجانب الاستعماريين، وهذه الأيام هي أيام عصيبة عليهم، ويحتاجون إلى الوحدة والتساند لمواجهة قوات الجيش واللجان الضاربة التي عجزت السعودية والإمارات بكل قدراتهما وخلفهما الإمبرياليون عامة أن يسيطروا على شبر واحد من الوطن، و”ما يأخذه العدو في النهار يسترده الأحرار في الليل”، كما قال الشيخ الشهيد عمر المختار، أسد المجاهدين العرب.
وقد جاء هذا السعي العدواني لمواجهة انتصارات الوطن في مأرب والساحل الغربي وصعدة والحدود والضالع وغيرها، فقد أيقن العدوان السعودي أنه لا شك حتما عاثر وهالك، ولم يعد أمامه إلا أن يلعب بالورقة الأخيرة للعدوان ألا وهي استعداء الجنوبيين وقواتهم المعبأة جغرافيا وطائفيا ومذهبيا وسياسيا وانفصاليا في المعركة القادمة في شبوة والجنوب وحضرموت وعدن ولحج والضالع وغيرها.

استراتيجية قتالية جديدة للعدوان
خلال الأيام الماضية تم عقد اجتماع جديد في الرياض لإحياء خطة العدوان الجديدة، وقيل يومها إن استراتيجية جديدة للعدوان قيد العمل والحركة، وأن خطة انتشار جديدة لقواته سوف تنفذ في مواجهة “الحوثي”، وفحواها إعادة نشر القوات “الجنوبية” و”الشرعية” في محافظات شبوة وحضرموت ومأرب لاستعادة المديريات الشبوانية التي حررت فيما تتفرغ القوات “الشرعية” السعودية لاستعادة المناطق حول مدينة مأرب وإيقاف تقدم قوات الجيش واللجان وإعاقة تحرير مأرب ومناطق شبوة الأخرى التي مازالت تحت سيطرة العدوان.

كلب الحراسة العفاشي
يستخدم التحالف العدواني طارق عفاش ككلب حراسة لتأمين الانسحاب الإماراتي وحماية ظهور ألويتها المتجهة إلى عدن ولحج وشبوة.
ويحاول عفاش الصغير التكشير عن نواجذه في حيس قبل مواصلة الرحيل عن الساحل الغربي كاملا بعد خروجه من حول الحديدة إلى الخوخة والمخا.
وتولى عفاش الصغير مهمة إشغال قوات الجيش واللجان في حيس بإيهامها بأنه يفكر في اقتحام إب لصرف الأنظار عن الوجهات الحقيقية لتراجع القوات الإماراتية والاحتفاظ بالمخا كقاعدة لحماية التواجد العدواني في باب المندب. وقد حاول عفاش الصغير أن يحمي ظهور الألوية المتراجعة، ولكنه فشل من أول جولة حرب وقتال في حيس، وأصبح مكشوفا أمام تقدم قوات الجيش واللجان التي تشرف الآن على المخا وقد حررت ميناء الحيمة والتحيتا والجاح والجبلية والمشهد والمغرس واستعادت المناطق التي حاول التقدم عبرها عفاش في مناوراته الأخيرة قبل أيام، وكبدت عفاش وجماعته ومرتزقته مئات القتلى والجرحى، كما طاردت اللواء الرابع عمالقة المحاصر في التحيتا واللواء الخامس عمالقة المحاصر في الجاح وأخرجتهما مهزومين أذلاء من الساحل الغربي نحو مناطق لحج وعدن وشبوة وغيرها، ولكن لماذا سمحت لهم أن يخرجوا وأن يغادروا الساحل الغربي كاملا؟
الواقع أن هناك أموراً لم تكشف بعد بشكل صريح، ولكن تتسرب من بين شفاه وأقلام الكتاب والإعلاميين في الجانبين، وخاصة الجانب الوطني، وما يهمنا هو الإشارة إلى تصريحات الإخوة القادة في أنصار الله السيد محمد البخيتي والسيد محمد عبدالسلام والسيد محمد علي الحوثي والسيد يوسف الفيشي، والتي تناولت الموضوع بتعليقاتها على الحدث التقهقري للعدوان في الساحل الغربي، حيث أشار بعضهم إلى أن هناك ما يشبه الحوار وتفاهمات تمت، وأنتجت ما أنتجته في الساحل الغربي قبل وبعد ستوكهولم، وهو ما يجيب على التساؤل: كيف تم خروج قوات كانت محاصرة منذ فتره طويلة، وخاصة عدد من ألوية العمالقة وهي الرابع والخامس والثالث ولواء النقل وألوية أخرى ما كان من الممكن أن تخرج بسلام دون تدخلات سياسية حدثت ومهدت للحدث. والبعض يقول: لكن هذه الألوية سوف ترسل إلى شبوة وإلى مأرب وتشكل ضررا على الوضع الحربي هناك...؟
والحقيقة أن هذه الألوية قد هدمت طاقاتها العسكرية مما لقيته في الساحل طوال سنوات خمس حتى فقدت أغلب قواها وقدراتها القتالية ومعنوياتها، ولم تعد تشكل خطرا وفارقا وكبيرا في الميادين، وقد رأيناها في البيضاء وكيف كانت أول الهاربين من أمام تقدم قوات الجيش واللجان ما إن سمعت بتقدمها، وأن يتم إخلاء مناطق الساحل الغربي بسهولة وتوفير دماء فهو يستحق التضحية ببعض الميزات الثانوية خدمة لما هو رئيسي. والخلاصة هي أن المنجزات تتحقق بالحرب والمعارك والسياسة أيضاً وهي مزيج من كل هذا.

آفاق المناورات العدوانية الأخيرة
 لقد أكثر العدوان وأبواقه الإعلامية من الضجيج العالي حول مناوراته الأخيرة في الساحل الغربي وبالغت في وصف مناوشاته على حيس وتحركاته ووصفتها بأنها تهدف إلى اقتحام إب وتعز الحرة عبر مفرق العدين والتوسع في السيطرة على بقية حيس التي تسيطر على نصفها منذ بداية غزو الساحل الغربي، ولكن إذا كانت أولوية العدوان تقع على محيط مأرب حاليا وليست في الساحل الغربي، فلماذا هذا التصعيد المبهم على الساحل رغم أنه سبق الانسحاب من أهم أقسامه؟!
ليس هناك فيما يجري أية غرابة في الحقيقة إذا فهمنا أن ما يجري في الساحل ما هو إلا مناورات خداعية مؤقتة لتغطية تحركات العدوان بين عدن وشبوة وسيئون ومأرب، وهي التحركات العدوانية التي يحضر لها منذ فترة طويلة بقصد تعبئة القوى لشن هجوم مضاد نحو جنوب مأرب وغربها وشمال شبوة بهدف استعادة المناطق التي حررتها قوات الجيش واللجان الشهر المنصرم، خاصة بيحان وعسيلان وعين وحريب والتقدم من شبوة وسيئون، شرق مأرب، وغربها نحو صرواح ووادي ذنة المشرف على البلق الأوسط والفلج المشرف على مدينة مأرب مباشرة وحول البلق الشرقي آخر الخطوط الدفاعية حول مأرب، حيث تدور أشرس وأعنف المعارك التي تقرر مصير المدينة وترسم مسارا للحرب كلها وبناء عليها وعلى النتائج المترتبة عليها.

أولويات متعارضة لطرفي العدوان
إن اختلاف أولويات العدوان يرسم مصير الهجوم المشترك ومصير العدوان كله أيضاً، ولذلك فإن مشاركة الإماراتيين في معارك خارج الجنوب أصبحت مسألة نافلة، وهي قضية حاكمة للإماراتيين ومرتزقتهم الجنوبيين، لأن الإمارات بعد هزائم واستنزافات الساحل الغربي المروعة تراجعت عن المشاركة المباشرة خارج حدود الجنوب الشطرية، ومن ثم فإن مشاركتها الكبيرة والفعالة في القتال محصورة في المناطق الجنوبية وحدها، ومشاركتها في البيضاء كانت تندرج في هذا الإطار، وهذا لا يمنع من مشاركات رمزية ثانوية. وهذا يسمح لنا بفهم آفاق المعارك على جبهات مأرب وشبوة، فالتحشد الجديد في شبوة مع وصول أبو بكر الوزير العولقي، أحد عملاء الإمارات في شبوة، وتسارع حركة التحشيد العسكري فيها، هدفه استرجاع المديريات الشبوانية التي حررتها قوات الجيش واللجان الشهر الماضي في بيحان وعين وعسيلان حريب أولا وقبل أي مناطق أخرى، بمعنى آخر أن الإماراتيين سوف يسمحون بذلك التحشيد في شبوة على أن يركز السعوديون ومرتزقتهم الإخوان على معارك مأرب، وأن يحاول الطرفان استرجاع بعض المناطق الهامة حولها، وأن يمنعا تقدم قوات الجيش واللجان نحوها.
يتمنى العدوان السعودي الآن أن يشارك الإماراتيون ومرتزقتهم الجنوبيون في المعارك حول مأرب، ولكن هذا يبدو صعباً على الجنوبيين، الذين بالكاد يدافعون عما بقي من شبوة، وأن يحرروها إن استطاعوا، أي أن يفتحوا جبهات جنوب مأرب لاستنزاف قوات الجيش واللجان وأن يسمحوا للسعوديين أن يدفعوا بالألوية التي تتمركز في شبوة وبيحان سابقا وعددها حوالي 10 ألوية كانت قد تراجعت في المعارك السابقة الشهر المنصرم، هذه الألوية الإخوانية في شبوة وسيئون هي التي يمكن للسعودية أن تعول عليها وحدها، ونهاية تلك الألوية تعني نهاية المعركة على الأرض.
 
احتياطات العدوان تتآكل بشدة ميدانيا
بعد أن استنزفت احتياطاتها العسكرية طوال معارك السنوات السابقة، تحاول السعودية أن تستهلك الاحتياطات الإماراتية في معاركها المستحيلة الأخيرة. لكن هناك مشكلتان أمامها، الأولى: أن احتياطاتها قد تعرضت لاستنزافات طوال المعارك الفاشلة والهزائم الطويلة والإهلاك الهائل للمعدات وللبشر خلال معارك السنوات السابقة. والثانية: أن قوات الجيش واللجان الخصم المقابل للعدوان كانت في مسيرة توسع وتحشيد وتصنيع ونهوض شاملة لا تتوقف، وفي تعبئة مستمرة للمزيد من جماهير الشعب اليمني المقاتل في المعارك الوطنية الاستقلالية التحررية الدائرة، وهو ما يجعل التفوق العددي والمعنوي في صالح قوات الجيش واللجان، ولا يغني العدوان شيئا معداته التقنية وأمواله الضخمة ومرتزقته، ولذلك يواجه مآزقه الاستراتيجية الكبرى كل يوم مع كل تقدم تحرزه قوات الجيش واللجان. وهذه المأزق لا حل لها مهما حشد وجيّش وسلح من مرتزقة وأجانب وصهاينة، فلا جدوى من كل هذا.
التحركات السعودية الجديدة في شبوة والمهرة وحضرموت تشير بوضوح إلى أنها مستعدة لأن تسلم للإمارات شبوة والمكلا وعدن وسقطرى وغيرها، لإدارة تلك المناطق في سياق ترتيب خاص بمستقبل النفط والغاز والثروات وحصص كل منهما مع الأخذ بالاعتبار خدمة الهدف الاستراتيجي الراهن المتمثل بحشد القوات السعودية ومرتزقتها على خط المواجهات الكبرى في مأرب، وهذا يطرح السؤال حول مصير القدرات العسكرية الكبيرة للعدوان، وهل انتهت أو جفت خزائن العدوان السعودي الإخواني البشرية والعددية؟ 
فإذا كان الجواب لا، فلماذا لا تستطيع شن هجومات مضادة كبيرة؟! ولماذا تدمر بسهولة كل محاولة لتعزيز قواتها في الميدان؟!
الحقيقة أن قواتها ومرتزقتها الكثر قد أصيبوا في أرواحهم ومعنوياتهم وقلوبهم وإيمانهم بانتكاسات نفسية وروحية هائلة، فأصبحوا يقاتلون خصما قويا يشتد ساعده كل يوم. كما أنهم هم بلا إيمان بقضية عادلة، وبلا ثقة بالمستقبل الأسود الذي يرسمه غبار الهزائم، وقد خسروا مئات الآلاف من الأحبة والأصدقاء والجند والقواعد المضللة قتلى وجرحى ومصابين، أعداداً هائلة لا يمكن إخفاؤها أو حجبها إلى الأبد بحملات الدعاية والإعلام وأكاذيبها، فالحساب سيكون عسيرا عليهم.
وهم لا يملكون الإرادة والمعنويات العالية والخبرة والإصرار الذي يملكه شباب الجيش واللجان وشعب الأنصار، فيتصرفون في الميادين بجبن وخوف ورعب وهلع من الموت، لأن همهم هو الدنيا والمال وليس القيم النبيلة، فنراهم يفرون من الميادين أمام بضعة أفراد من قوات الجيش واللجان لا سلاح لهم سوى الخفيف القديم، عراة، حفاة، متطوعين لا يجبرهم أحد على التقدم للحرب، أحرار، نبلاء، فرسان، محبين لوطنهم وعقيدتهم عالية، يبذلون كل ما لديهم من طاقات وقوة وعزم دون ثمن أو منّ أو تظاهر، ينشدون تحرير الوطن ومرضاة ربهم ورسولهم وضمائرهم الحية؛ فأين المرتزقة العبيد من هؤلاء الأحرار؟!
هذا هو الشيء الأساسي الدافع والعامل الحاسم في الحروب، والمرتزقة لا يملكونه أصلا، ولو بقوا يقاتلون 100 عام أخرى، فالنتيجة واحدة لا تتغير، وهي الهزائم. 
ويكفي سماع ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن بعد انسحابه من أفغانستان المذل: "لو بقينا عشرين عاما أخرى لن تتغير النتيجة"، أي أنه سوف يرحل في النهاية، لأنهم غزاة ومرتزقة. ربما يأخذ الآخرون من مرتزقته عبرة وعظة من كلمات سيدهم المنيرة، وفحواها أن الرياح الأمريكية في المنطقة والعالم لم تعد تلائم الأطماع الأمريكية القديمة، وأنها عاجزة عن تغيير اتجاهات المنطقة الثائرة التي باتت تقاتل النفوذ الأمريكي والأجنبي بشكل عام، ويشتد عودها كل يوم، بينما تتراجع قوى الهيمنة الأمريكية وتتحطم أدوات سيطرتها كل يوم أمام تيار المقاومة والتحرر والاستقلالية التي تجرف المنطقة جرفا عنيفا، وأمام أعيننا تجري الأحداث بما يؤكد تلك الحقائق، وتغيير الرؤساء لا يغير في جوهر الأمر شيئا، وها هي تتوسل إلى الإيرانيين العودة إلى الاتفاق النووي بعد أن خرجت منه بإرادتها كما دخلته بإرادتها في السابق، وأدركت الآن أنها لا تستطيع أن تضعف إرادة الإيرانيين وأن تملي عليهم شروطها المجحفة ولا أن تخضعهم لمطالبها وأطماعها ومصالح الكيان العدواني الصهيوني، وقد جربت كل الأساليب العدوانية والتدخلية مع إيران الثورة وفشلت، واليوم كل هدفها يختزل في مطالبة إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي السابق الذي خرجت منه بدون أية مكاسب جديدة كما أملت في عهد ترامب، بل خسرت الكثير في ذلك، فقد تحررت إيران من الالتزامات والقيود النووية التي فرضت عليها ومنها العقوبات الأمريكية الأوروبية التي كانت تحد من انطلاقتها على المسار النووي السلمي والعسكري، وها هي اليوم في ظل خروج الأمريكي وتجمد الدور الأوروبي بسبب ذلك التعنت تعلن أنها قد رفعت نسبة تخصيب اليورانيوم إلى نسب غير مسبوقة، وأنها قاربت عتبة صناعة القنبلة النووية الإيرانية، ولذلك يرتعد الصهاينة وأزلامهم خوفا ورعبا من ذلك، ويعلن الكيان الصهيوني ولأول مرة أنه لا يستطيع مهاجمة إيران منفردا وبدون الدعم والمشاركة الأمريكية والحماية والتطبيع الخليجي الرجعي، وهذه أحداث وتطورات تحدث لأول مرة تاريخيا، وهذا يشير إلى مدى حجم التحولات التحررية في المنطقة العربية والإسلامية والأوراسية والآسيوية الشرقية.
وتنعكس تلك التطورات على منطقتنا العربية والإقليمية والوطنية وعلى ميادين الحرب والمعارك، لأنها جبهة مواجهات مشتركة عالمية وإقليمية، ونحن وبلادنا جزء منها يتأثر سلبا وإيجابا بنتائجها ونتائج معاركها أينما كانت، وهذا يظهر حقيقة القوة الأمريكية الصهيونية السعودية العدوانية وتراجع موازينها وأرصدتها مع كل خسارة أو هزيمة أو تراجع يكابده العدو الإمبريالي أينما كان في أي مكان من العالم والإقليم والمنطقة.
ولما كانت المنطقة وحدة واحدة استراتيجيا وساحة مشتركة للصراع الضاري بين قوى الإمبريالية الشائخة المتهالكة وبين القوى التحررية الصاعدة الفتية، فإن القوى التحررية العالمية تحرز كل يوم تقدما جديدا وتلحق هزائم جديدة بالإمبرياليين والمستعمرين وعملائهم وأزلامهم وأتباعهم العتاة في كل أرجاء المنطقة الملتهبة من كابول إلى إيران وإلى بكين وموسكو وإلى لبنان وإلى غزة ودمشق وفنزويلا والهندوراس وتشيلي ونيكارجوا وبوليفيا وإلى هافانا الحرة وبيلاروسيا وجنوب أفريقيا وبنوم بنه.

تتسع الدائرة الجبهوية ضد الاستعمار والرجعية في كل مكان من العالم لتصل إلى الجبهة الداخلية للعدو الإمبريالي، إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تعد متحدة في جوهرها وفي تركيبتها وعلاقاتها الداخلية القومية والاجتماعية والطبقية والعنصرية والديموغرافية والصحية والأخلاقية والدينية والعقيدية الأيديولوجية والاقتصادية والأمنية وفي كل جوانب حياتها ومجتمعاتها. وهذا ليس نتاج تحليلنا وحدنا، بل هو أيضاً ناتج الكثير من الأمريكيين الموضوعيين والمفكرين والمراقبين لانهيار الحضارات والإمبراطوريات والدول العظمى، فهم يجمعون على حتمية انهيار وتفكك الدولة العظمى الأعتى في التاريخ، والآن تسير في مسيرة انحدارية على مختلف مستوياتها، وتبرز المظاهر الكارثية في كل الجوانب المجتمعية، من العجوزات المالية إلى المديونية الهائلة التي تعد الأكبر في التاريخ إلى البطالة إلى تراجع الدخل القومي إلى تراجع الإنتاج الوطني إلى العجز عن منافسة الاقتصادات الإنتاجية الأصغر منها إلى العجز عن مواجهة "كورونا" ومتغيراته وإلى العجز عن تسديد أقساط ديونها وخدمتها السنوية إلى تراجع الإنفاقات الاجتماعية والأمنية والعسكرية والإنفاق على القواعد الحربية المنتشرة عبر العالم والتي تتجاوز الألف قاعدة حربية إلى عجز الميزانية السنوية الهائل الذي بلغ الآن أكثر من ثلاثة تريليونات دولار والذي تغطيه عبر المزيد من الاستدانة من الصين واليابان وألمانيا وغيرها والذي يتضاعف كل بضع سنوات.
إنها بحق غدت إمبراطورية الشر الشائخة المتهالكة، هذه الإمبراطورية المجنونة التي تواجه العالم الحر كله وتريد أن تخضع العالم الحر كله ولا تستطيع الآن ذلك، وتخسر جميع الحروب التي تخوضها أو تحرض عليها وتدعمها من خلف عملائها الإقليميين ولكنها تخسرها أيضاً، وفي اليمن تخسرها أيضاً، وتراهن السعودية وأتباعها على تلك الإمبراطورية العجوز المحاصرة بمصائبها ومشاكلها وأزماتها، ولذلك سوف يطيلون انتظارهم المأساوي كثيرا.
فطالما هي تستفيد من استمرار الحرب والعدوان فإنها ولو خسرت السعودية وغيرها نصف أراضيها أمام الجيش واللجان فإنها لا تستطيع أن تتوقف عن مواصلة المأساة الحربية طالما شركاتها الحربية الحاكمة مازالت تكسب الكثير من صفقات التسليح السعودية الإماراتية الجديدة، فالصفقات التسليحية المتنامية هدف مركزي لها من الحرب واستمرارها، فهي لا يمكنها تغيير ميزان القوى القائم ولا تغيير وجهات المعارك الجارية الآن في الميدان، ولكنها لا تستطيع ولا تريد أن تدفع السعوديين إلى البحث عن مخرج لمأساتهم في اليمن، ولذلك تدعهم في طغيانهم يعمهون ويواصلون المصير الكارثي، لأن ذلك يديم سيلان الأموال إلى خزائن الشركات الحربية الصناعية المأزومة وتعالج جزءاً من البطالة التي تعانيها، ويواصلون وعودهم للسعوديين وغيرهم بأن أسلحة جديدة حديثة قوية في الطريق يمكنها أن تغير الخارطة على أرض المعارك وهكذا...
إن السياسة الإمبريالية الأمريكية والغربية تقوم على مبدأ "حرب الجميع ضد الجميع"، ولا أخلاق لها ولا عيب فيها ما دامت تدر أموالا جديدة للشركات والموظفين الأمريكيين العاطلين والمهددين بالبطالة، وهي لا تعرف الصداقات الدائمة ولا العداوات الدائمة، بل تعرف فقط المصالح الدائمة حيث تتبعها أينما كانت وأينما حلت.

الاختناق السعودي وعقدة التطبيع العلني
ليس السعودي أكثر تحفظا من الإمارات، لكنه أكثر خبثا في ظهوره العبودي للغرب، لأنه يرى أن لديه الكثير مما سيفقده في مواجهة الأمة العربية والإسلامية التي لن يطول بها الوقت حتى تصطدم بحقائق الدور السعودي العدواني العدائي للإسلام والعروبة، وحقيقة غربتها الفعلية عن الإسلام وعن العروبة.
وتشكل الصحوة الحماسية الجهادية الفلسطينية الراهنة نموذجا للصحوة السنية العربية الفلسطينية المعادية للعدوان الصهيوني الإمبريالي وعملائه بين العرب والمسلمين وترفض استمرار حالة الغيبوبة التي خيمت على الكثير من الشعوب العربية والإسلامية في الماضي، لكن مواجهة اليمنيين الأحرار للعدوان والانتصارات التي حققوها في وجه الثالوث الشرير قد شجعت العرب الأحرار على كسر الحواجز والأوهام والمخاوف وانعدام الثقة بالنفس وبالشعوب والوهم باستحالة التغلب على القوة الجبروتية السائدة في المنطقة والعالم.
تشير الأحداث الجارية والتقارير الدولية حول المنطقة إلى أن هناك تغييراً في العلاقات الجيوسياسية في الجزيرة والخليج والمنطقة لصالح إعادة هيكلة وبناء وتعديل العلاقات بين الدويلات اللقيطة والولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل" لصالح وضع الثقل في الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية التطبيعية الجديدة على كاهل الإمارات بعد أن كانت على كاهل السعودية في السابق، وبعد أن فشلت في إدارة وقيادة العدوان على اليمن والسيطرة عليه نيابة عن الأمريكي والصهيوني وشركائهما.
متغيرات سلبية والسبب هو عجز السعودية عن كسب الحرب ضد اليمن ومحور المقاومة وإعلان التطبيع العلني مع "إسرائيل"، بينما تميزت الإمارات في هذا الصعيد الشيطاني حيث سارعت إلى قيادة حملة الهرولة المعلنة للتطبيع مع الكيان الصهيوني على عكس السعودية التي أرادت إرضاء المسلمين شكليا والتطبيع السري مع العدو الصهيوني، ولذلك فإن أمريكا و"إسرائيل" تراهنان على الإمارات أكثر من السعودية مستقبلا في هذا الملف المحوري الحساس الحاسم في المنطقة، لأنه يحقق أمن الكيان الصهيوني قبل كل شيء ويقضي على احتمالات تهديده المستقبلي، ذلك أن القضية الفلسطينية هي أساس جميع صراعات المنطقة العربية والإسلامية منذ قرن كامل وأن أطماع الغرب الصليبي منذ قرون طويلة تركزت في السيطرة على القدس العربية ومحيطها العربي.
إن جوهر القضية ليس في طرف الصهاينة وحدهم، بل في الدور الأنجلوساكسوني والفرانكفوني الاستعماري ورأسه الذي خلق هذا السرطان الشيطاني الغريب فوق ترابنا العربي الإسلامي بالأسلحة والأموال والمؤامرات الغربية البريطانية الأمريكية والفرنسية طوال القرن، ومازال الوضع على ما هو عليه وسيظل الصراع والحروب العدوانية الناتجة عنها، وسيظل الطابع الأمريكي الغربي واضحاً معلناً، وسيظل العداء قائما لكل ما هو غربي أمريكي بريطاني فرنسي في المنطقة، لأنهم يقفون خلف كل مصائبها ومآسيها ودمائها يسندون العدو الصهيوني الغاصب ويعيدون صناعته كلما خبت نجومه ويمتصون الخيرات والثروات العربية والإسلامية والعالمية وينصرون أعداءها، ويقسمون بينهم بلادنا ويقتلون أبناءنا ويدمرون بيوتنا ومزارعنا ويحرقون كل شيء فيها، ويسممون أجواءنا وبيئاتنا وكل حياتنا ومستقبلنا، ويفرضون علينا صراعا وجوديا تناحريا لا هوادة فيه، وهم يعترفون في وثائقهم وقراراتهم الداخلية وسياساتهم النظرية والعملية بهذه الحقائق، ويستطيع أن يراجع كل متابع حصيف هذه الاتجاهات التي تحكم السياسات والأهداف الغربية.
وعلى هذ المسار الإلحاقي الاستعماري الوقح والقبيح تأتي الصفقات التسليحية الجديدة الضخمة للإمارات من الأمريكي والفرنسي والبريطاني، وقد بلغت قيمة الصفقة الأخيرة ومن فرنسا بإيعاز أمريكي، 19 مليار دولار، وتضم طائرات "رافال" الشهيرة والمروحيات المقاتلة المتطورة، وهي غيض من فيض لصالح تعزيز قوة الإمارات الجوية أكثر فأكثر استعدادا للمرحلة القادمة من حرب العدوان على اليمن، حيث تستعد الإمارات لإدارة الحرب الجديدة بعد مأرب وهي الحرب التي تخطط لها الإمبريالية لتكون على مسرح الجنوب النفطي، ووقودها الأساسي سيكون عملاء الإمارات من الانفصاليين و"القاعدة" و"داعش" والسلفيين الذي يتحشدون الآن على جبهات شبوة بيحان ومأرب ويتراجعون من الساحل الغربي ومن الحديدة استعدادا لانهيارات مأرب الحتمية القادمة التي ترتسم معالمها الآن بوضوح على أفق المنطقة والإقليم.
وبعد هذا كله، هل يفكر أحد أن لهم مستقبلاً في المنطقة غير الصراع والكفاح والجهاد والدماء، وهي قدرنا جميعا وحقيقتنا الأساسية التي لا يمكن تجاهلها أو تحييدها أو الحلم الرومانسي عن إمكانية تحييد أمريكا وهي العدو الألد للشعوب أو ترويج الاعتقاد الباطل عن الغرب الليبرالي الديمقراطي العلماني الزائف، وهي السياسات التي قادت زعماء الأمة القوميين إلى الكوارث المتوالية وأدخلتها في نفق الصهيونية من أوسع أبوابها؟! ولذلك نرى الأحفاد الجدد المضللين مازالوا يحلمون بأن تأتي الحرية على أيدي العم سام ونجمة داود الشهيرة وأتباعها من الرياض وأبوظبي وقطر وتركيا. إنها أضغاث أحلام ثقيلة الوطأة على العقل وعلى الناس والضمير والتاريخ.