روبرت إنلاكيش «لو كري دي بوبل»
ترجمة خاصة:زينب صلاح الدين / لا ميديا -
من جديد يستعد الغرب لتمزيق اليمن في سبيل تغذية حربه الاقتصادية ضد روسيا.
لكونها غارقة في عواقب الصراع الحالي بين الناتو وروسيا على موضوع أوكرانيا أصبحت فرنسا مستعدة لأن تدمر كل تصور أو حل للسلام في اليمن من أجل تأمين مصادر الطاقة من الإمارات.
شهد الشعب اليمني الذي يعتبر موطنا لأسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث وفقاً للأمم المتحدة -في بداية العام- بصيصاً من الأمل نحو نهاية للحرب المستمرة منذ أكثر من ثمانية أعوام. وقد اعتبر وقف إطلاق النار -الذي تم تعليقه منذ أبريل- بمثابة الخطوة الأولى نحو حل سلام توسطت فيه الأمم المتحدة بين أنصار الله صنعاء وقوات التحالف بقيادة السعودية التي تدعي أنها تمثل الحكومة اليمنية في المنفى بدعم من "المجتمع الدولي".

بحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة فإن العدد الإجمالي للقتلى خلال الحرب في اليمن قد بلغ بالفعل 377 ألفا بحلول بداية العام 2022. وقد تضاعفت حصيلة القتلى من المدنيين وفقاً للمجلس النرويجي للاجئين منذ الانسحاب المثير للجدل لمراقبي حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي.
وبينما نجح كل من قوات التحالف السعودي وأنصار الله -الذين غالباً ما تطلق عليهم وسائل الإعلام الغربية اسم "المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران"- في الحفاظ على القتال على الحد الأدنى في الأشهر الماضية؛ قرر لاعب رئيسي آخر في جنوب اليمن المضي قدماً في الهجوم. هو المجلس الانتقالي الجنوبي المسمى غالباً بانفصاليي جنوب اليمن وهو يحظى بدعم من الإمارات وقد أعلن عن بدء عملية عسكرية جديدة في محافظة أبين "من أجل مكافحة التنظيمات الإرهابية". أتى هذا البيان عقب المكاسب الإقليمية التي حققها المجلس في المحافظة المجاورة شبوة ضد حزب الإصلاح الموالي لجماعة الإخوان المسلمين وتنظيمات أخرى. وقد شكلت الهجمات التي شنها الانتقالي المدعوم من الإمارات عقبة كبرى أمام الجهود المبذولة من قبل الأمم المتحدة لوضع نهاية للصراع في اليمن. كما أنها عرضت المبادرة السعودية للخطر التي وضعت تحت مسمى "المجلس الرئاسي اليمني" وتهدف إلى تعزيز شرعية الحكومة اليمنية البديلة في المنفى.

دور فرنسا
على الرغم من أن دورها لايزال غير معروف تماماً للعامة في الغرب إلا أن باريس هي ثالث أكبر مورد للأسلحة للإمارات والسعودية في الحرب في اليمن مباشرة بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي الواقع حتى أسلحة ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا استخدمت في هذه الحرب المدمرة. وعلى الرغم من انتقادات جماعات الدفاع عن حقوق الإنسان التي ذكرت أن الأسلحة الفرنسية استخدمتها أبوظبي والرياض لارتكاب جرائم حرب؛ واصلت فرنسا بيع الأسلحة.
في الخامس عشر من أبريل 2019 كشفت مجلة التحقيق الفرنسية "ديسكلوز" عن تفاصيل دور باريس في الحرب في اليمن. وكانت معلوماتها المقدمة مستندة إلى تقرير مسرب من المخابرات العسكرية الفرنسية في 2018 تثبت بوضوح أن الدولة قد قامت ببيع أسلحة هجومية استخدمت في مناطق مدنية وهو اتهام أنكرته الحكومة الفرنسية. وابتداءً من يونيو 2018 برزت تقارير موثوقة تؤكد وجود وحدات من القوات الفرنسية الخاصة تعمل على الأرض اليمنية إلى جانب قوات تتبع دولة الإمارات. وفي ديسمبر الماضي قررت باريس زيادة توطيد علاقاتها بقدر الإمكان مع أبوظبي بتوقيعها لصفقة بيع أسلحة هي الأكبر على الإطلاق في الإمارات بقيمة 19,23 مليار دولار، بحسب تقرير رويترز.

فرنسا تتجه أولاً إلى الولايات المتحدة
فرنسا الآن بحاجة ماسة إلى مزود طاقة بديل عن روسيا -لتلبية حاجاتها- خوفاً من أن تقطع موسكو مع اقتراب الشتاء غازها الطبيعي عنها تماماً وبشكل استراتيجي. وبصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي تدعم باريس المبادرة الأمريكية لجعل روسيا تدفع ثمن هجومها على أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً بيد أن هذه الاستراتيجية انقلبت عليهم إلى حد كبير على الخارطة الاقتصادية.
أخذ الرئيس الأمريكي جو بايدن على عاتقه التزامين كبيرين رئيسين في مسألة السياسة الخارجية منذ تقدمه للانتخابات عام 2020 شديدي الصلة بالوضع الحالي لفرنسا. الأول تجديد الاتفاق النووي الإيراني الذي كان في عهد أوباما والثاني إيجاد حل دبلوماسي للحرب في اليمن. وبسبب الصراع الحالي بين الأطلسي وروسيا عاد مجدداً البحث عن إعادة إطلاق الاتفاق على النووي الإيراني في الأجندة السياسية لإدارة أوباما. حيث إنه يمكن لإيران -المحررة من العقوبات- أن تصبح مصدراً بديلاً لتلبية احتياجات أوروبا في الطاقة مستقبلاً إلا أن ذلك سيستغرق بعض الوقت قبل أن يتحقق على أرض الواقع.
وفي ما يخص قضية الحرب في اليمن تعهد جو بايدن -في خطابه الأول حول أهداف السياسة الخارجية لحكومته- بمحاسبة السعودية وبالبحث عن حل للأزمة في اليمن. غير أن الحرب في أوكرانيا قد غيرت بشكل واضح للعيان موقفه تجاه الرياض لدرجة أن واشنطن تراجعت عن قرارها في عدم بيع أسلحة هجومية للحكومة السعودية. انتُقد الرئيس الأمريكي بشدة من قبل "هيومن رايتس ووتش" على زيارته للسعودية في يوليو.
ورغم محاولات الولايات المتحدة لجعل دول مجلس التعاون الخليجي ترفع إنتاجها للنفط لم تتصرف أي منها بالطريقة التي كانت تأملها واشنطن. في الحالة الخاصة للإمارات والسعودية من الواضح أن كلا البلدين يسعيان نحو تسريع تنويع اقتصادهما. وهذا يعني تشبثهما باحتياطياتهما الاستراتيجية من النفط والغاز، وسط أزمة طاقة عالمية. وهذا التصرف منطقي بالنسبة لهما من الناحية المالية. أما في حالة فنزويلا وإيران ففي الوقت الذي تواصلت فيه الولايات المتحدة على ما يبدو مع كلا هذين البلدين لا يبدو أي منهما قادرا على أن يحل محل روسيا في المستقبل القريب.

باريس تضع كل رهاناتها على اليمن
من جهتها تبحث فرنسا في هذه الأثناء عن بدلاء. في يونيو أعلن الاتحاد الأوروبي عن توقيعه اتفاقا مع إسرائيل ومصر. وبموجب هذا الاتفاق ستقوم إسرائيل بإرسال بعض الغاز عبر خط أنابيب إلى مصر حيث سيتم نقله بعد ذلك إلى أوروبا. على الرغم من أن هذه الخطوة ناجحة بعض الشيء إلا أن تل أبيب لا تملك القدرة على الحلول محل موسكو كمورد غاز أساسي في أوروبا. ففي المقابل تسعى إسرائيل إلى مضاعفة إنتاجها من الغاز بيد أنها بذلك تواجه بالفعل مشاكل كبيرة تتعلق بنزاعها على الحدود البحرية مع لبنان ومشروعها لاستخراج الغاز من "حقل كاريش" في سبتمبر (الذي تم تأجيله إلى أكتوبر) الذي يعتبر واقعاً في منطقة متنازع عليها. حتى إن حزب الله اللبناني هدد بضرب كل منشآت الغاز الإسرائيلية في حال لم تحصل بيروت على اتفاق عادل يسمح لها بالوصول إلى مواردها الخاصة.

حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إقناع الجزائر -الغنية بالموارد- بأن تكون جزءاً من حل الاتحاد الأوروبي أثناء زيارته للجزائر في رحلة استمرت 3 أيام لتقوية العلاقات. قامت الجزائر التي تربطها علاقات وثيقة مع موسكو بسحب سفيرها من باريس خلال الأشهر الثلاثة في السنة الماضية إثر خلاف دبلوماسي. وقد اتهم ماكرون حكومة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بـ"النبش في الماضي" و"إعادة كتابة تاريخ" الحقبة الاستعمارية بل إنه شكك في شرعية الجزائر كدولة تابعة للاستعمار الفرنسي. قتل آنذاك حوالي مليون ونصف جزائري خلال معركة الاستقلال ضد فرنسا إلى أن نجحت المقاومة أخيراً في انتزاع الاستقلال عام 1962. تراجعت نبرة الرئيس الفرنسي بشكل أساسي مقارنة بالسنة الماضية. فأوضح ماكرون أن كلا البلدين "لديهما ماض مشترك معقد ومؤلم. وهذا ما يمنعنا أحياناً من النظر نحو المستقبل". لكنه أيضاً تحدث عن "قصة حب لها نصيبها من المأساة".

أما عن المسار الآخر الرئيسي البديل الذي يبدو أن فرنسا تسعى نحوه -في الأثناء- فيأتي عبر تحالفها الوثيق مع الإمارات. كما ذكرنا سابقاً كان من الواضح أنه منذ زمن معين كانت باريس تشارك في توريد الأسلحة والدعم اللوجيستي وحتى إرسال قوات على الأرض إلى حليفتيها أبوظبي والرياض لإعانتهما على حربهما في اليمن. مع ذلك من الواضح أيضاً أن الإمارات لم تكن تحبب فكرة الاقتراب من احتياطياتها الاستراتيجية من النفط للاستجابة لمطالب أوروبا.
في يوليو عندما استقبل الرئيس ماكرون الرئيس الإماراتي محمد بن زايد بن نهيان في باريس أعلنت وزارة الاقتصاد الفرنسية عن اتفاقية طاقة استراتيجية جديدة بين الإمارات وفرنسا. وأشار أحد معاوني الرئيس الفرنسي إلى أن فرنسا كانت حريصة على أن تحصل على الديزل من الإمارات ملمحاً إلى إمكانية ربط اتفاقية التعاون بين الشركة الفرنسية توتال إنرجيز والشركة الإماراتية أدنوك. وفي حين أن تفاصيل هذا "الاتفاق الاستراتيجي" غير معروفة بعد فقد تم التكهن بأن الصفقة قد تصل قيمتها إلى المليارات.
ثم في أغسطس أعلن المجلس الانتقالي -المدعوم من الإمارات- فجأة عن شنه عمليات هجوم جديدة في محافظتي شبوة وأبين. ووجد أن قوات الانتقالي قررت أيضاً الاستيلاء على مواقع الطاقة في محافظة شبوة. حث رؤساء المنظمات غير الحكومية الرائدة في مجال حقوق الإنسان باريس على أن تضع باعتبارها انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها أبوظبي منذ توقيع الاتفاق الاستراتيجي على الطاقة وهي مناشدات لم يستمع إليها بشكل ملحوظ. وفي الحادي والعشرين من أغسطس استولت القوات المدعومة من الإمارات على مواقع النفط في جنوب اليمن وربما كان الاتفاق الفرنسي مأخوذاً في الحسبان. صرح وزير الخارجية اليمني الأسبق أبو بكر القربي على موقع تويتر أن "هناك استعدادات لتصدير الغاز من منشآت بلحاف في ظل ارتفاع أسعار الغاز عالمياً". من ثم أعقب هذا التصريح تصريح آخر لبرلمان حكومة الإنقاذ الوطني بصنعاء يحذر من التحركات المشبوهة للقوات الأمريكية والفرنسية.
وبحسب ما ورد تم تحويل منشأة بلحاف الرئيسية الواقعة في المحافظة اليمنية شبوة إلى قاعدة للقوات التابعة للإمارات وسط مزاعم تشير إلى أن باريس يمكن "أن توفر الحماية للمنشأة من خلال قوة خارجية فرنسية". كما أن هناك عددا لا حصر له من التقارير عن سرقة الإمارات لموارد الطاقة في اليمن والتي يبدو أنها تدعم فكرة أن فرنسا تحاول انتزاعها وإرسالها إلى فرنسا. يذكر تقرير سرقة موارد اليمن الأخير والموثق في يونيو بعض المسؤولين اليمنيين الذين أكدوا مغادرة ناقلة نفط خليجية ميناء مديرية رضوم بشبوة -تحمل 400 ألف برميل من النفط الخام اليمني- تديرها الإمارات.
إن مثل هذه الخطوات الهجومية للمجلس الانتقالي تعني أيضاً أن القوات التي تدعمها السعودية في اليمن وأنصار الله لا بد من دون شك أن يكونا منخرطين في هذه المعركة. ويمكن أن يعني ذلك انتهاء الهدنة بين الطرفين واستئناف هجمات أنصار الله للاستيلاء على مأرب الغنية بالنفط ضد القوات المدعومة من السعودية وموت كل مبادرة لإحلال سلام جوهري من أجل وضع نهاية للحرب.
من غير المحتمل أن يبقى أنصار الله صامتين إذا كان المجلس الانتقالي الجنوبي مشاركاً في سرقة موارد اليمن لصالح فرنسا. في السنة الماضية كان أحد أسباب التصاعد التدريجي الرئيسية لأعمال العنف هو هجوم أنصار الله بهدف القضاء على آخر معقل للتحالف السعودي "مأرب". فالسيطرة على هذه المنطقة الغنية بالموارد كانت من أجل وضع حد لنهب وسرقة موارد اليمن التي بحسب التقارير ازدادت لتصل إلى ملايين البراميل سنوياً. تقول بعض المصادر إنه تم إبرام عقد شبه رسمي بين حكومتي أمريكا والسعودية لإبعاد موارد اليمن عن الشعب اليمني وتحويل الأرباح إلى البنوك السعودية.
إن السبب الذي قامت الثورة اليمنية من أجله في 2011 -ثم الاستيلاء على السلطة في 2015 من قبل أنصار الله بالتنسيق مع جيش البلد- جزئياً هو الاعتقاد الشعبي السائد بأن كلا الرئيسين السابقين لليمن علي عبدالله صالح وعبد ربه منصور هادي كانا فاسدين. لم يكن الشعب اليمني راضياً عن صالح لعدد من الأسباب معظمها سوء إدارته للموارد فقد باعها لأمريكا وسمح بإتلافها. ثم تلاه هادي الذي كان ينظر إليه كخادم تتحكم به السعودية تماماً.
مع ذلك قد لا تكون المشكلة الأكبر هنا أن اليمن بلد غني بالموارد مع شعب جائع تمزقه قوات خارجية لكن أيضاً المشكلة أن ما من أحد يعرف في أي شيء تشارك الحكومة فعلياً فيه. في الخامس والعشرين من أغسطس أعلن بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بشأن ارتفاع فواتير الطاقة أنه "بينما يدفع الناس فواتير الطاقة يدفع الأوكرانيون دماءهم". وهكذا الوضع بالنسبة لليمن ففي الوقت الذي تتمكن فيه أوروبا من الإنارة يتوجب في المقابل على الشعب اليمني أن يدفع دمه. باستثناء أنه في هذه الحالة لا تستطيع بريطانيا وأمريكا وفرنسا وضع حمام الدم على عاتق موسكو: فهذا الدم على وجه الخصوص أيديهم ملطخة به.


 روبرت إنلاكيش محلل سياسي وصحفي ومخرج أفلام وثائقية يقيم حالياً في لندن. عاش في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي أنتج فيها عددا من التقارير ويعمل حالياً مع "القدس نيوز". أهم فيلم وثائقي له "سرقة القرن: خطة ترامب الكارثية لفلسطين".