محمد الحيمي / لا ميديا -
لن تعرض عن وجه صنعاء القديمة كلما لمحتها، حتى لو تكررت زياراتك لها عشرات المرات. ستندهش في كل مرة، وستحدق في بيوتها وأسواقها ومساجدها كلما فكرت في الذهاب إليها. ستقودك قدماك إلى الداخل، إلى إعادة اكتشاف شيء ما لم تزره، وبالفعل ستجد ضالتك، فهي ساحرة، زاهية، تخبئ لك كل مرة متعة جديدة ودهشة جديدة.
ولعل أبرز ما يميز هذه المدينة البهية بإطلالتها الساحرة مساجدها التاريخية، التي ستقودك إلى العصور والدول التي خرجت من باب اليمن الكبير الشاهق، وظلت صنعاء القديمة صامدة شاهدة بمساجدها وأسوارها وأسواقها وبيوتها. في صنعاء القديمة أكثر من مائة مسجد، تنتشر على المساحة الجغرافية للمدينة. ولقدمها فقد تهدمت ومحي بعض تلك المساجد، فسميت بالمساجد المنسية. لكن بعضها بقي صامدا في وجه إعصار الزمن والدول المتعاقبة، أبرزها الجامع الكبير، الذي بني في السنة السادسة للهجرة، ومسجد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومسجد الشهيدين، وقد سبق أن تحدثنا عنهما في أعداد سابقة. أما اليوم فقد خطفنا من بين زحام الصور والجمال في المدينة «جامع قبة البكيرية» وهو يقف شامخا بعشر قباب بنية بيضاء متناثرة على امتداد مساحته، أكبرها قبة بيت الصلاة، وبمنارته الشاهقة شرقي المدينة التاريخيـــــة العجيبـــة في ميدان قصر صنعاء «قصر السلاح».
ندلف إلى الجامع عبر بوابة ترتكز على أربعة أعمدة دائرية من الحجر الجيري متوجة بقبة رائعة، حيث الصوح الشمسي الذي يقودك إلى بيت الصلاة في الداخل، فتزداد دهشتك وتتزاحم صور الجمال أمام عينيك. ستحتاج إلى الكثير من الوقت لتمتع عينيك بطراز معماري فريد، وبيت الصلاة الذي يفتح على ثلاث بوابات بعقودها المطرزة. وفي الأمام يباشرك المحراب السخي بزخارفه ونمطه الذي يمزج بين فن العمارة الإسلامي والنمط الأخاذ لصنعاء القديمة. وهو يتوسط الجدار بعمق تجويفي مقداره 80 سم، نقشت فيه عبارات تشيد بالسلطان. أما القبة الواسعة بنصف دائرة مبهرة مرتكزة على كامل بيت الصلاة فتتدلى منها النجفات المزخرفة المنبثقة من تجويفها المطرز بطراز العمارة الإسلامية، حيث كتبت الآيات بأيادٍ ماهرة وبدقة متناهية لتملأ تجاويف القبة.
في بيت الصلاة نلتقي قيّم الجامع، الحاج محمد الحيمي، الذي يعمل منذ 26 عاما، كما حدثنا. يقول الحاج محمد إن المسجد تم بناؤه في العهد العثماني، أي قبل حوالى 427 عاما (1597م)، ويعتبر من بين أقدم المساجد التي بنيت في اليمن، وقد تعددت أسماؤه، فكان يسمى المدرسة الوزيرية نسبة إلى الوزير حسن باشا، وجامع القبة لتغليب عنصر بناء القبة على الجامع.
أما تسميته بجامع قبة البكيرية فيشير الحاج محمد الحيمي إلى أن الوزير حسن باشا كان برفقة مولاه بكير بك، الذي كان يحبه حبا جما، وقد كانا يتسابقان على الخيل، فوقع بكير بك من على ظهر خيله ومات في الحال، فحزن عليه الوزير حزنا شديدا فقام ببناء قبة كبيرة تحتوي بيت الصلاة إلى جوار قبره وسمى القبة باسمه، ومنها حمل الجامع اسمه (جامع قبة البكيرية).
ويضيف الحاج محمد الحيمي أن السلطان عبدالحميد أمر بترميمه وتوسعته في عام 1881م وبناء مكان ملحق بالجامع لتدريس الأيتام. تقافزت الكثير من الأسئلة إلى المخيلة، فبحثنا عن إجابات بعضها، وتركنا البقية لتفحصها العين ويجيب عليها العقل، ففي الجهة الجنوبية توجد أربعة أعمدة دائرية صغيرة طول كل منها متران ونصف المتر، تحمل سقفا مساحته متران مربعان. لبيت الصلاة باب كان يدخل منه الوزير للصلاة وحيدا هناك، كما يقول لنا الحاج محمد الحيمي.
في الجدار الشمالي للمسجد يرتفع المنبر الممهور بطراز فني رائع تنحدر منه درجات محاطة بدرابزين خشبي جميل. أما فناء المسجد فيستلقي على مساحة 28 × 21 مترا، وفي الجهة الجنوبية يتواجد عدد من المطاهير المتوجة بأربع قباب صغيرة تسر الناظرين.في الجزء الشمالي من الفناء ترتكز ثلاثة من الأعمدة متصلة بعقود من الحجر الجيري الأسود تتزين بقباب تملأ تجاويفها أشكال من الزخارف والآيات القرآنية. يلي تلك القباب منارتان صغيرتان فوق بيت الصلاة وقبة الجامع الكبيرة، وإلى الشرق من الفناء ترتفع منارة بارعة الجمال تقف على قاعدة مربعة من الحجر ثم تبدأ في الارتفاع بالنمط المعماري الفريد لصنعاء القديمة.
يقول الحاج الحيمي إن المسجد لا يزال مزارا للوفود القادمة من المحافظات، ناهيك عن تلك التي كانت تأتي من الدول العربية والأجنبية سابقا.
وعن دور الجامع في رمضان، وقد رأينا الإجابة قبل أن يسترسل الحاج الحيمي في الحديث، فالجامع يمتلئ بالناس في غير أوقات الصلاة أيضا لقراءة القرآن وتدارسه.