عادل بشر / لا ميديا -
لم تكن سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم يومًا مجرد أماكن دبلوماسية لتعزيز العلاقات السياسية والدولية مع واشنطن، بل عملت كقواعد عسكرية في الدول المضيفة، وأوكار للتجسس وحياكة المؤامرات وتجنيد العملاء. ولهذا تنظر واشنطن إلى سفارتها في صنعاء بأنها كانت إحدى أهم السفارات في جنوب غرب آسيا، لاعتبارات عدة، وبإغلاق هذه السفارة بعد ثورة أيلول/ سبتمبر 2014م، قُطِع الشريان الرئيسي لوكالات الاستخبارات الأمريكية وثُقِبت أعينها، لتتحول السفارة إلى مجرد صفحة على منصات التواصل الاجتماعي، تطالع متابعيها بين وقت وآخر بتغريدات ومنشورات ورسومات كاريكاتورية، تعكس حقيقة الواقع المؤسف الذي آلت إليه.
في جديد نشاطها الافتراضي، أصدرت السفارة الأمريكية في اليمن، في وقت متأخر من مساء أمس الأول، بياناً نشرته على حسابها في منصة X (تويتر سابقاً) حول إغراق القوات المسلحة اليمنية لسفينة "ماجيك سيز" الأسبوع الفائت لارتباط الشركة المالكة لها بالعدو الصهيوني، مبدية قلقها من تداعيات إغراق السفينة على عملية التكاثر بين الأسماك في لُجة البحر الأحمر.
وقالت السفارة إن "ماجيك سيز" كانت تحمل على متنها نحو 17 ألف طن متري من مادة نترات الأمونيوم، مما قد يؤدي إلى تسرب هذه الكمية في البحر، ويمكن أن تعطل "تكاثر" الأسماك.
واتهمت السفارة من وصفتهم بـ"الحوثيين في اليمن" بتنفيذ عملية الإغراق بشكل متعمد، حتى يتمكنوا من تصوير فيديو لانتصاراتهم المزيفة" حدّ تعبيرها.
وفيما سبق أن أصدرت السفارة ذاتها بيانين سابقين حول التصعيد اليمني في البحر الأحمر انتصاراً للشعب الفلسطيني، وما شهده الأسبوع الماضي من استهداف وإغراق سفينتي "ماجيك سيز" و"إيتيرنيتي سي"، لارتباطهما بالكيان الصهيوني، إلا أن البيان الأخير تحول إلى مادة ساخرة بين أوساط الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما وأن "واشنطن" بدت فيه حريصة على عملية "تزاوج" الأسماك، بينما لم يستثرها سيل الدماء المتدفق في قطاع غزة على مدار أكثر من عشرين شهراً، بأسلحة ودعم أمريكي لا حدود له.
وقال ناشطون إن الولايات المتحدة التي تغض الطرف عن جرائم الإبادة التي ترتكبها طفلتها المدللة "إسرائيل" في قطاع غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، وعملت -ولازالت- على مدّ كيان الاحتلال بالأسلحة والذخائر المحرمة، وتوفير الحماية والغطاء السياسي والدولي لعملياته الإجرامية بحق المدنيين الفلسطينيين ومنشآتهم الخدمية وبنيتهم التحتية، تشعر بقلق كبير من أن عملية التكاثر بين الأسماك ربما لن تتم بالشكل الصحيح.
وأشاروا إلى أن "تحول الولايات المتحدة إلى ناشط بيئي يعد من النوادر في تاريخها المعاصر الذي ظلت تحكمه بالقوة المفرطة"، معتبرين هذا البيان بأنه يكشف حقيقة العجز الذي وصلت إليه واشنطن في محاولاتها لردع القوات المسلحة اليمنية وإيقاف أو حتى الحد من عمليات صنعاء المساندة للشعب الفلسطيني.

وقائع جديدة
يأتي ذلك فيما يتواصل حديث مراكز أبحاث أميركية وغربية عن أن القوات المسلحة اليمنية تمكّنت من فرض وقائع جديدة على الأرض، منذ التحامها بمعركة "طوفان الأقصى" أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2023م، على الرغم من كثافة الضربات الجوية الأميركية والبريطانية و"الإسرائيلية" التي نفذها العدوان الثلاثي على اليمن، حماية للكيان الصهيوني، إلا أن تلك القوات وخصوصاً الأمريكية انتهت بكارثة لأسطولها البحري وحاملات طائراتها التي منيت بخسائر فادحة دفعت بالرئيس ترامب مطلع أيار/مايو الماضي، إلى إعلان الاستسلام وإيقاف المواجهة مع قوات صنعاء.
وأشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، في تقرير لها، إلى أن إغراق السفينتين في البحر الأحمر، الأسبوع الماضي، يأتي بعد نحو شهرين من إعلان ترامب عن "وقف لإطلاق النار" مع صنعاء، وهو ما اعتبر حينها انتصارًا سياسيًا لإدارته، لكن الهجوم الأخير أثبت زيف تلك الادعاءات، بحسب مراقبين نقلت عنهم الصحيفة.
كما نقلت عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية قولهم إن واشنطن لم تغير وضع قواتها على الرغم من الهجوم، وأن وقف إطلاق النار لايزال قائمًا مادامت السفن الأميركية لم تُستهدف.

انتكاسة استراتيجية
في الإطار ذاته أكد مركز "ستيمسون" الأمريكي للأبحاث، أن الضربات الجوية الأمريكية على اليمن، مثلت انتكاسة استراتيجية للولايات المتحدة.
وقال المركز في تحليل مطول "أعلن دونالد ترامب وقف إطلاق النار في مايو/ أيار ، مؤكدًا أن الجماعة اليمنية استسلمت بعد ثلاثة أشهر من القصف الأمريكي. إلا أن العديد من المحللين يشككون في صحة ذلك".
ونقل المركز عن المحللين تأكيدهم بأن الحملة الأميركية، التي استمرت حتى أيار/ مايو الماضي، فشلت في تدمير القدرات الحيوية لصنعاء، ولم تمنعها من إطلاق صواريخ باليستية على مدينة يافا في فلسطين المحتلة، ما كشف عن تماسك محور المقاومة وتصاعد التنسيق الإقليمي بعد العدوان "الإسرائيلي" على إيران منتصف حزيران/ يونيو.
وأشاروا إلى أن "القوات اليمنية أظهرت مرونة سياسية وعسكرية لافتة، عكست تفوقاً في الحسابات الاستراتيجية" مقارنة بالتخبط الأمريكي.. وأوضحوا أن الغارات التي نُفذت عبر الأقمار الصناعية لم تنجح إلا في إصابة منشآت تجميع ثانوية، بينما عجزت عن تدمير مخازن الصواريخ أو تعطيل منظومة الردع اليمنية، التي واصلت العمل بكفاءة.
وأبرز التحليل الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الأميركي، بينها فقدان ثلاث طائرات مقاتلة من طراز F/A-18 ونحو 22 طائرة مسيرة نوع إم كيو ناين، مقابل فشل واضح في الوصول إلى الأهداف الحيوية التي كان من شأنها شل القدرات العسكرية اليمنية. ولفت إلى أن الضعف الاستخباراتي الأميركي شكّل أحد أهم أسباب الإخفاق، رغم استخدام الطائرات الشبح والطائرات بعيدة المدى مثل B-2 وF-35، فضلاً عن مشاركة حاملات الطائرات في الحملة.
في السياق عبّرت صحيفة "تلغراف" البريطانية عن قلق أوروبي متزايد من تصاعد نفوذ اليمن في المنطقة، معتبرة ذلك مؤشراً إلى أن الحرب الطويلة لم تحقّق أهدافها، بل أدّت إلى تعزيز موقع صنعاء على المستويات الإقليمية والدولية.