دمشق/ خاص / لا ميديا -
يسود اعتقاد عند معظم السوريين بأن سلطة الجولاني وصلت إلى نهاياتها، وأن أيامها باتت معدودة؛ لكن لا أحد يعرف كيف سيكون سيناريو التغيير!
ومع إدراك الجميع أن الجولاني وصل إلى السلطة بفضل قرار إقليمي ودولي بإسقاط حكم الرئيس بشار الأسد، وكانت «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) أداة هذا التغيير، إلا أن الشعور العام الموجود عند السوريين لا يأتي من فراغ.
فقد راكمت سلطات الجولاني، منذ بداية حكمها، سلسلة من الأخطاء القاتلة، التي لا يمكن لأحد تغطيتها، منها مجازر الساحل وتفجير الكنيسة في دمشق ومسرحيات المؤتمر الوطني وحكومة اللون الواحد والبيان الدستوري الذي ألغى الحياة السياسية ومؤسسات الدولة وكرس دكتاتورية الجولاني، إضافة إلى احتكار السلطة وتسريح الموظفين وتوقيف الكثير من مؤسسات الدولة، وخاصة المشافي، وتدمير الجيش السوري وأسلحته... حتى بدأ السوريون يشعرون بفداحة هذه الجريمة.
كما استمرت عمليات القتل والخطف والسبي، وإخراج الناس من بيوتهم وسرقة أملاكهم، التي تقوم بها جماعات من الأمن العام، أو من الجهات المحسوبة على السلطة، وبدون أن تلاقي أي متابعة أو ملاحقة، من أجهزة السلطة.
كما أن محاولة التيار الوهابي، الذي تدين به أجهزة السلطة، فرض رؤيته الدينية التكفيرية والمتطرفة على مؤسسات الدولة والحياة الاجتماعية والتعليم. وهذه المحاولة لم تستفز معظم مكونات المجتمع السوري فقط، وإنما استفزت بشكل خاص مجتمع الطائفة السنية وشيوخها، الذي ينتمي بمعظمه إلى الأشعرية والطرق الصوفية، والمعروف عنها عداؤها للوهابية، واعتدالها وتعايشها مع باقي مكونات المجتمع السوري، وبدأت ترتفع بيانات وأصوات وازنة في مجتمع الطائفة وشيوخها ترفض ممارسات السلطة وتحذرها من مغبة ما تقوم به.
«غزوة السويداء» كانت واحدة من هذه السلسلة من الأخطاء والممارسات التي أوقعت الجولاني وسلطته في عدة محظورات، أهمها أنه لم يقدر خصوصية السويداء ومكانتها وامتداداتها الداخلية والإقليمية، وفاقمتها الممارسات المشينة لفصائل السلطة والبدو بالقتل على الهوية وقص شوارب ولحى الشيوخ والرجال، واستفزاز وإهانة الرموز الشعبية والوطنية والدينية، وهي من الكبائر عند مجتمع الموحدين الدروز.
وفي مؤشر إلى الارتباك الذي وقعت فيه السلطة، ألقى الشرع كلمة حول أحداث السويداء، بعد الساعة الرابعة فجراً، زاد فيها الطين بلة، بإشادته بغزوة البدو وعناصر السلطة للسويداء، رغم ارتكابهم جرائم فظيعة، وتحميل المدافعين عن المدينة المسؤولية عن الأحداث، في إشارة إلى الشيخ حكمت الهجري الذي يقود الحراك فيها.
كما وقع الجولاني في الفخ، وتوقع أن لقاءاته وتفاهماته مع «الإسرائيليين» في أذربيجان والإمارات وتركيا وفي دمشق و»تل أبيب»، والموقف الأمريكي، الذي شكل انزياحاً لصالحه، خلال لقائه الأخير مع مظلوم عبدي، زعيم تنظيم سورية الديمقراطية «قسد»، يمكن أن تعطيه ضوءاً أخضر لحسم الوضع في السويداء بالقوة؛ لكن حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر، وانتهت غزوته إلى فشل ذريع، وسيكون ثمن هذه المغامرة غالياً جداً.
هذه الأجواء أدت إلى سريان إشاعات ملأت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن سقوط سلطة الجولاني، ليتبين فيما بعد أنها متسرعة؛ لكنها لم تكن من فراغ، حيث أصبحت سلطة الجولاني بدون أي حاضنة شعبية، وتراجعت موجة الاحتواء الإقليمي والدولي للسلطة، كما تلاشت التوقعات بإمكانية تعويم السلطة، من خلال التعاون مع العدو الصهيوني لتوقيع اتفاقية سلام وتطبيع والدخول في «الاتفاق الإبراهيمي»، وبدأت ترتفع أصوات ومواقف «إسرائيلية» رسمية وإعلامية تؤكد أن «إسرائيل» لم تعد متحمسة لتوقيع اتفاق مع الجولاني. كما غير المبعوث الأمريكي إلى سورية، توماس باراك، لهجته العالية التي أعلن فيها دعمه للجولاني، وأكد ضرورة إنهاء حكم الأمر الواقع للجماعات المتطرفة، والعمل على بدائل مدنية أكثر شمولاً وعدلاً، ومحاسبة الحكومة السورية إثر أحداث السويداء.
كما ظهرت تسريبات لتقارير أمنية تؤكد أن العديد من أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية كثفت تواجدها داخل سورية، وكونت بنك معلومات متكاملاً يحتوي على وثائق وشهادات ومواد تثبت تورط حكومة الجولاني ومسؤوليها، وبالتعاون مع تنظيمات مصنفة إرهابية، في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق الأقليات والمكونات المدنية. ومن المتوقع أن تُنشر نتائج أولية لهذه التحقيقات قريباً، لتضاف إلى التحقيقات التي جرت حول مجازر الساحل، والتي تؤكد مسؤولية السلطة عنها، ولتأتي «غزوة السويداء» وتضاف إلى جملة هذه الممارسات والانتهاكات.
ومع إدراك المجتمع السوري، بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من الأزمة الطاحنة، وبعد ما شاهده العالم من جرائم مشينة في غزة، أن أصحاب المخططات المعادية، وفي مقدمتهم «الإسرائيليون» والأمريكيون، لا يهمهم أمن وسلام سورية، ولا أي مكون من مكونات المجتمع السوري؛ لكن سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الجولاني أصبحت أصعب من أن يتم تغطيتها أو السكوت عنها، إضافة إلى أن الاستمرار فيها أصبح يمس مصالح ومشاريع رعاته الإقليميين والدوليين.
وسواء جاءت هذه المواقف، وخاصة الأمريكية و»الإسرائيلية'، كتخلٍّ عن الجولاني أم لمزيد من الابتزاز له للحصول على مزيد من التنازلات، فإن هذه الأجواء الداخلية والإقليمية والدولية أدت إلى شعور عام عند المجتمع السوري بأن عمر هذه السلطة بات محدوداً.
وتحدثت تقارير إخبارية ومعلومات مسربة عن اجتماعات رفيعة المستوى عُقدت خلال الأيام الماضية في أوروبا والولايات المتحدة ضمّت ممثلين عن عدة حكومات وأجهزة استخبارات لمناقشة ترتيبات ما بعد حكومة الجولاني، وإعادة هيكلة المشهد في مناطق نفوذها.
كما تحدثت معلومات عن لقاءات جرت مؤخراً في الأردن مع شخصيات معارضة ومستقلة لبحث إمكانيات دعم هيكلية جديدة في سورية.
ومع هذه الأوضاع فإن الحديث لم يعد عن قرب سقوط سلطة الجولاني؛ وإنما كيف؟ ومتى؟