ثورة 21 أيلول.. حين يبزغ الفجر (1ـ2)

مرت علينا، الأربعاء الفائت، الذكرى الثانية لثورة أيلول المجيدة، وفي ظل عدوان عالمي إمبريالي كشر عن صنوف وحشيته تجاه يمن 21 أيلول حين شمرت هي عن سواعدها تفت قيوده وتسحق نصاله المغروسة في جسده لعشرات السنين من القهر والمعاناة.
إنه لمن الضروري، واللازم، في هذه المناسبة العظيمة، أن ننكب على القراءة في الثورة اليمنية التحررية خلال القرنين الماضيين، وصولاً لثورة أيلول، من حيث خلفياتها التاريخية وضروراتها وأهدافها وتطلعاتها الوطنية التحررية ومساراتها. وهو موضوعنا في هذا القسم الذي يأتي من حصيلة قراءة ودراسة لسنوات في التاريخ اليمني القديم والحديث..
لم تأت الثورة الشعبية (21 أيلول) من مصادفات الأحداث، ولا من رغبات أفراد أو أحزاب سياسية أو قوى منعزلة عن الشعب والوطن، بعيدة عن معاناته ومشكلاته وطموحاته، وإنما جاءت من رحم معاناته ومن قلب أوجاعه وأحداثه ومن تراكم حقائق تاريخه ووقائع علاقاته ومن وعي ذاته، كما لم تصنعها قيادة الثورة من عدم، ولم تنسجها من خيالاتها النبيلة، ولم تأت من تقليد الآخرين..
 إن الثورة الشعبية الوطنية العامة قد نمت طويلاً خلال أكثر من قرنين، حين نشأت كرد فعل الشعب على الاستبداد والغزو الأجنبي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فكان شكل الثورة هو شكل الحرب المقاومة الشعبية المسلحة للغزو الأجنبي، أي أنها ارتدت من البداية مضمون وشكل ثورة تحررية قومية وطنية ضد الغازي الأجنبي، واستمرت تحمل هذ المحتوى ومازالت طوال قرنين، لأن الثورة الوطنية لم تكمل مهامها بعد، فقد حققت استقلالاً غير كامل، ثم وقعت تحت سيطرة النفوذ الأجنبي واحتلاله للأراضي اليمنية شمالاً من قبل السعودية ومدرائها الدوليين، بعد انتقال ساحة المعركة الوطنية شمال الشمال اليمني، المحتل اليوم..
 ثم وقعت الحركة الوطنية تحت سيطرة المحتل السعودي لعقود خمسة تحولت الثورة من طور الى طور، وظلت تتواصل تارة عفوية، وتارة منظمة لا تكتمل هكذا الى أن هبت رياح الثورة الشعبية شمالاً بعد أن توفرت الشروط الذاتية والموضوعية الضرورية، وأهمها: استلام قيادة الثورة الوطنية العامة قيادة جديدة شابة، متمرسة قادرة وجاهزة، وأيضاً وجود تنظيم شعبي ثوري متماسك محكم، قادر على تعبئة أهم وأكبر وأوسع القوى الشعبية الفاعلة العسكرية والمدنية والقبلية والوطنية وأهم القوى الوطنية الحرة الإقليمية والإسلامية والعربية والقومية والدولية. وكان من الشروط الهامة كذلك، الاستمرارية التاريخية للثورة التحررية دون توقف رغم تنوع أساليبها وأشكالها.
لقد حققت الثورة نجاحها الأول الكبير بقيادة الأئمة الوطنيين، مستندة على الطاقة الثورية للقبائل اليمنية الأصيلة التي تحولت إلى جيش وطني شامل متطوع اعتماداً على ذاتها في كل شيء يخص الحرب من تموين وسلاح ومعدات.
وهنا يجدر التساؤل: هل كانت القبيلة اليمنية زائدة دودية متطفلة! أم خط دفاع وطني أول؟ 
التاريخ يجيب على ذلك، وقد أجاب على السؤال عدة مرات في عدة تحديات وجودية كبرى.
الأول كان أمام الغزو الروماني، ثم أمام الغزو الحبشي والنفوذ الفارسي. أما الثاني كان في العصر الحديث أمام الغزو العثماني المملوكي الأول، ثم أمام الغزو العثماني الثاني، ثم أمام الغزو البريطاني.
الثابت الآن تاريخياً أنه لا توجد قوة شعبية مسلحة تامة القوة والاعتمادية ترجح الكفة أمام قوات الغزو الأجنبي الكبير الامبراطوري؛ إلا القوى الشعبية القبلية الشمولية التنظيم.
لقد كانت القوى الوطنية القبلية الشعبية المسلحة الرجاء الأخير لصد وتحطيم الغزو الأجنبي وضمان الوفاء بالقيام بإنجاز مهام التحرر الوطني اعتماداً على تعبئة الموارد الذاتية لكل قبيلي فلاحاً أو بدوياً كان أو حرفياً، شيخاً أو عامياً فقيراً أو غنياً، الجميع غرامة رافدون في كل موقف عام، ولا يملك أحد الهروب من واجباته وإلا لحقه العار طول حياته..

خصوصيات الثورة اليمنية والنهوض الثوري الجديد
كانت الرجعية الأجنبية والإقليمية المسيطرة على اليمن ترى تطور القوى الوطنية، ويقلقها هذا التطور وتخشاه ويهتز كيانها، كما رأت حقيقة الاكتشافات المتوالية للثروات البترولية الهائلة التي تضمها الأرض اليمنية المجاورة للسعودية في صعدة وحجة والجوف ومأرب وشبوة وحضرموت، وخاصة في المنطقة الشمالية التي هي امتداد للأراضي التي احتلتها السعودية في الماضي جيزان وعسير ونجران والربع الخالي.
لذلك فجرت السعودية الحروب العدوانية الـ6 على الشعب المقهور في صعدة، والتي حرضت عليها وكلاءها الداخليين في النظام الحاكم، وأمدتهم بالأموال والأسلحة والقدرات بهدف السيطرة على المحافظات المجاورة المليئة بالنفط، وتصفية السكان اليمنيين المقاومين للتوسع السعودي، والإتيان بسكان موالين للسعودية وتابعين لها.
طوال الأعوام 2004-2009م، تعرضت المنطقة الشمالية لحملات حربية عدوانية شرسة جوية وبرية واسعة جردت عليها عشرات الآلاف من الجيش اليمني الواقع تحت سيطرة النظام التابع للسعودية والأمريكان الذي كان يأتمر بأوامرهما، وخلف العدوان آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين، وتدمير المساكن وتهجير وتشريد أكثر من نصف مليون مواطن، كما سقط في العدوان ومواجهة العدوان من الجنود أكثر من 60 ألف قتيل وآلاف الجرحى، فقد اضطر الشعب إلى المقاومة الشعبية الطويلة المدى وشن حرب العصابات استناداً على عدالة قضيته وتأييد الشعب اليمني الذي عبر عن رفضه للعدوان على الشعب.
وتدخلت السعودية إلى جانب وكلائها، وفتحت جبهات مباشرة من أراضيها، ومولت الحرب بكل متطلباتها لاستمرارها وعدم توقفها، وأدت لاتساع حركة المقامة الشعبية المسلحة التي تمكنت من حصار القوات الحكومية وإنزال الهزائم بها وإجبارها على توقيع اتفاقية الدوحة لسحب ما بقي من قوات حكومية ووقف العدوان.
كانت تلك الأحداث مؤشراً على مدى انكسار العدوان وهزيمته وتراجع قواه، وعلامة بداية سقوط حكومته وانفجار أزماته الداخلية والإقليمية والحاجة لتغيير داخل أشخاصه استباقاً لتطور الثورة الشعبية الناهضة التي كانت تنتقل من الدفاع الى الهجوم بعد فترة من التهيئة.

قيادة الثورة الشعبية تنتصر
استطاعت الثورة من خلال ارتباطها بالشعب والناس أصحاب الأرض أن تنظم الجماهير وتخوض حرب دفاع ومقاومة للعدوان، وأن تنتصر في نهاية الحروب الـ6.. راحت جماهير الشعب تلتف حول الثورة والمقاومة الشعبية وقيادتها، وصارت تتسع على كل الأصعدة، وتتحول إلى ثورة شعبية شاملة بعد أن كانت مجرد مقاومة محلية شعبية ليس لها برنامج سياسي معلن أكثر من نشدان السلم واحترام الحقوق الثقافية والإنسانية للشعب وثقافته وخصوصياته العقيدية والسياسية والسيادة الوطنية والتراب اليمني والكرامة الشعبية. كانت البداية حركة محلية تطالب بالتنوير الوطني، وتساهم في التوعية والحق في الحرية الفكرية والمشاركة الشعبية والاهتمام بالمناطق المهمشة والدفاع عن الأراضي المستهدفة من الأجنبي وحماية المسلمين وحقهم في التنوع والاجتهاد ورفع المظالم والتمييز وعدم تدخل الأجنبي في الشأن الداخلي، ولم تطرح أي مطالب سياسية كبيرة ولا برنامجاً سياسياً للشراكة في السلطة، وتبني نشاط المعارضة القائمة.

اتساع الصراع واكتسابه أبعاده الوطنية والإقليمية والدولية
تطور الصراع من صراع سياسي ضيق ومحلي إلى صراع استراتيجي إقليمي تناحري، لا يقبل المساومات ولا الحلول الوسط، فلم يفاجئ ذلك قوى الثورة الواعية وقيادتها التي كانت قد حذرت منذ التسعينيات من المصير الذي ينتظر الشعوب العربية المسلمة، لأنها مستهدفة بالاحتلال والهيمنة المباشرة، فلم تفاجأ بالتطور، بل كانت قد توقعت هذا التطور والاتساع، واستعدت عقائدياً وسياسياً وتنظيمياً وشعبياً لمواجهة القوة بالقوة والحرب بالحرب العادلة، عملاً بالآيات القرآنية الموجهة التي صارت هي المرجع الأخير في هذا الصراع الوجودي مع الامبريالية.

القيادة الوطنية والضرورة التاريخية
إن المواجهة مع الامبريالية الجديدة تتجاوز جميع المقاييس السابقة، متجاوزة إمكانات القوى الثورية القديمة. إن الوهن اليساري الوطني كان سبباً رئيسياً لتحول الشعب المقهور عنه، والبحث عن قيادة جديدة فتية قوية شابة ممتلئة بالثقة والاعتزاز بالذات وبالعقيدة والتمكين والإرادة والعزم وشدة البأس والوعي، خلقها الواقع نفسه، مترسة بكل أشكال الصراع والحرب والسياسة والمرونة والشجاعة التي لا تعرف التردد ولا اليأس، مستقلة وطنية لا تتبع أحداً سوى اليمن والوطن والشعب، تعرف كيف توظف كل الطاقات المقاومة والمشاعر والانتماءات في مصب انتماء وشعور وطني جامع.
لقد صار من الواضح أنه لم يعد ممكناً كما في الماضي تحييد القوى الروحية الدينية والعقيدية والقبلية والشعبية، والسير بثورة وطنية، إن ذلك صار مستحيلاً الآن في ظل هذا التوحش الامبريالي الفتاك الوقح والشرس، فتوازن القوى يكون مختلاً لصالح العدو إذا لم تتم تعبئة الشعب القبلي المسلح من الفلاحين المزارعين قوة الشعب المركزية..
تلك هي المهمة التاريخية التي لم تستطع العقلية اليسارية القديمة المتطرفة التي تريد إحراق المراحل نافدة الصبر، والتي راحت تتحارب مع التركيبة القبلية مبكراً، وترى فيها عدواً موهوماً مبالغاً فيه للتقدم وللتحرر والتنمية، وتصويرها شيطاناً إقطاعياً متخلفاً ومصدراً للتخلف!
هذا اليسار الوطني الليبرالي كان قد استنفد طاقاته الثورية نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، منذ انتقل للتحالف مع العدو التاريخي، وقبل ذلك عندما جهل مجتمعه وقوانين وحقائق تطوره وخصوصياته، واستعلى عليه وعلى ثقافته.. لم يكن يعني هذا أنه قد أصبح رجعياً، وإنما أصبح عاجزاً عن قيادة التحولات بنجاح وانتصار، لأنه افتقد المقومات الضرورية لقيادة الثورة الشعبية الجديدة التي توسعت مطالبها وشروطها وقواها وقياداتها، فلقد تعقدت الشروط، وغدا متخلفاً عن الشروط الضرورية.
كان هذا طبيعياً وعادياً في التاريخ، وله أسبابه في القاعدة المجتمعية الجديدة، وليس فقط في قيادته وأشخاصها، كان التكور أكثر تعقيداً لم يره ولم يستشرفه سلفاً، ولم يخطط لمواجهته، ولم يعترف بضرورته، بل ظلت قياداته تجادل وتناقش بيزنطياً طويلاً هروباً من مواجهة المهام العملية المطروحة على الساحة في التسعينيات، وانطوت في قضايا ضيقة بعد 94م، ووقعت في قبضة الجهاز السعودي الأمريكي، وتفشى في وعيها المشوه وعي مناطقي وجهوي وطائفي غذته السعودية خلال الشتات اليساري في سنوات التيه.

تحولات واقع الجيوبوليتك الجغرافية السياسية اليمنية وأثره
الصراعات التي تواصلت على البنية اليمنية طوال العقدين السابقين، محدثة تحولات عميقة في بنية التركيبة الجغرافية السياسية الديمغرافية، أدت إلى تحول في التوازنات بين القوى المجتمعية، وأعطت مزايا طبيعية لقوى على حساب قوى أخرى سابقة.
إن تحول ميدان النزاع والصراع من الجنوب إلى الشمال القبلي قد نقل موضوعياً شعلة الإدارة للصراع من إقليم إلى إقليم آخر تدور فوقه أكبر الصراعات الوجودية الجديدة، فالمجتمع اليمني لم يتطور طبقياً بقدر ما تطور داخل بنيته القبلية العشائرية الجغرافية الإقليمية العقائدية.

الثورة والأيديولوجيا الثورية.. تجاوز الماضي واستيعابه الجدلي والتعلم منه
تتميز الثورة اليمنية التحررية الراهنة بأيديولوجيتها القرآنية الإسلامية الثورية الحديثة العامة التي تستند إلى الوعي والثقافة الشعبية المجتمعية العقيدية والتراث الوطني المقاوم للطغيان والجور والاستعمار والاستبداد والاستغلال والالتزام بحقوق وتحرير المستضعفين في الأرض وإقامة العدل وامتلاك العزة والمنعة بين الأمم الحرة، كما تستند إلى الربط الحديث بين المفاهيم القرآنية الثورية والعقلانية الفلسفية والمقتضيات الراهنة والأحداث الجارية والاتجاهات العامة الدولية التي تؤثر في مصير التطور العام العالمي، كما تربط بين المفاهيم الاستراتيجية الموضوعية القومية التحررية وبين التراث الثوري لدى الاتجاهات الإسلامية الثورية التقدمية، وتنطلق من حقائق الصراع الكوني الواسع الذي يستوعب التناقضات الدولية في سياق المعركة التحررية الإنسانية ضد الصهيونية والإمبريالية الغربية.
لا تحتاج الثورة الشعبية إلى أيديولوجية جديدة مناقضة للأيديولوجية الوطنية المتشبع بها الشعب، بل تحتاج إلى استراتيجية ثورية مبنية على القيم العقيدية الوطنية والثورية والأخلاقية للشعب الثوري.. وأثبتت التجربة أن التطور الثوري والوطني الحاسم يتطلب عدم تقييد الذات والوعي العام بعقائد جامدة ثابتة متخشبة وجافة، ومن الأفضل أن تظل الثورة تتعلم من تجاربها الحية ونقد نفسها بعد كل تجربة، وفي ضوء نتاج كل تجربة تستطيع الاغتناء بما تكشفه أنوار الحقيقة الحية المتجددة.

الأرضية الاجتماعية والجغرافية للانتفاضة وأثرها الطبيعي على أيديولوجية الثورة
نشأت الانتفاضة الأولى للثورة في المنطقة الشمالية الزراعية القبلية الفلاحية المقاومة للتوسع الأجنبي، فتشربت بالثقافة الوطنية المقاومة والتصدي للغزو الأجنبي. فلم تكن الدعوة مذهبية أو طائفية رغم مواجهة التهديد الطائفي التكفيري الإرهابي الذي تصدره الرجعية والأجنبي كطليعة متقدمة لقواته التوسعية الاحتلالية تستلزم التصدي الحازم لانتشارها وتوسعها، إلا أن الثورة لم تضيق آفاقها، بل إنها اتسعت لتشمل الوطن ككل برغم تعدد مذاهبه الإسلامية المتسامحة في وحدة وطنية ضامنة، بل كانت الدعوة وطنية لإنقاذ الأرض والوطن أمام الزحف واقتطاع الأراضي اليمنية أمام مرأى ومسمع جميع الحكومات المركزية التي تحولت إلى دركي حراسة لحماية نفوذ الأجنبي بدلاً من أن تكون حامية للأرض اليمنية التي ينهبها الأجنبي.

القوى السياسية المتهالكة 
والثورة الشعبية
كانت الانتفاضة تعبيراً عن ضيق الشعب بالنظام الاستبدادي من جهة، وبالقوى السياسية العاجزة المتهالكة من جهة أخرى، والتي استخدمت مظلومية الشعب لغرض تحسين شروط تفاوضها ومساوماتها فقط، ولا نية لها للتخلص من فساد النظام، ولا هي مستعدة لنزاله في معارك حقيقية مكشوفة تسقطه أرضاً وتستبدله بنظام حديث. وهذا ما فعلته الثورة في 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، متصدية للمهام الوطنية بجسارة وبسالة تليق بتاريخ الشعب الثوري..




ثورة 21 أيلول.. حين يبزغ الفجر (2ـ2)

القضايا الموضوعية للثورة الشعبية الوطنية التحررية
مصادر شرعية الثورة
إن ثورة تستهض قوى الشعب اليمني كله للكفاح ضد الطغيان والاحتلال والعدوان، ليست معنية بالتساؤلات بشأن مدى مشروعيتها وضروراتها، لأنها بسعتها الجماهيرية القومية الواسعة قد تجاوزت جميع المعايير التي تواضعت عليها فلسفات الثورات السابقة. وتستطيع كل ثورة جديدة كونية الاتجاه والتأثير، أن تبدأ بفرض قواعد جديدة تقيس بها وتزن وتقيم مدى شرعية الثورات التالية لها، دون أن تجعل لهذه القيم معنى مطلقاً. فكل ثورة تملك منطقها الخاص الذي تبرر به وجودها وتوجهاتها انطلاقاً من جوهرها ورؤاها.
فالأصل في الثورات الشعبية الحقيقية أنها تستمد الشرعية من ذاتها هي، ومن الضرورات التاريخية التي استدعتها، لا بسبب من نص سابق، أو من ضرورات وقواعد سابقة، بل هي ثورة على القواعد السابقة، وتستمد قواعدها من قيم الحاضر ذاته، ومن مطالبه العادلة ومفاهيمه ومطالب الأمة والشعب -الطبقة المقهورة- مادامت آمالها تتطابق مع أهداف وطموحات أغلبية الأمة، وتعبر عن مظالمها وتطلعاتها، وتتوافق مع الاتجاه العام التحرري الدولي، فتكون بهذا زعيمة الأمة والناطقة باسمها، وتتحول شرعيتها الى شرعية عامة.

الهوية الاجتماعية للثورة
ثورة من؟ ضد من؟
ستظل ثورة أيلول الشعبية التحررية الوطنية لها مزاياها الخاصة التي لا تشاركها فيها أية حركة سابقة، كما أنها كانت أكثر الثورات والحركات الشعبية جماهيرية وجرأة ووثوباً وظفراً ووحدة أيديولوجية في وجه العدو الإمبريالي الدولي والإقليمي.
فلم تتمكن أية ثورة قبلها من أن تجيش هذه الأعداد البشرية المليونية في وقفات وتحركات شعبية واعية ومتكررة طيلة سنوات من مواجهة العدوان العسكري الشامل والحصار والتجويع وشن حرب إبادة عامة تحت الضربات الصاروخية والإغارات الجوية والبحرية والتضييق المالي والاقتصادي والنقدي الشامل. وخلال عامين من الحصار، والثورة تحافظ على نفس الوتيرة من الاستنهاض الجماهيري والالتفاف الشعبي الهائل المتزايد خلف القيادة الوطنية للثورة.
هذا له دلالاته العميقة والقاطعة التي لا تقبل الشك أو التشكيك، فلا يمكن لجمهور مزور أن يصمد أمام الصواريخ وبهذه الكثافة والنوعية.
إنه حقاً وفعلاً جمهور عضوي مستميت في دعم الثورة وقضاياها -وليس مجرد ديكور سياسي تنتجه الأموال والدعاية والتحريض وحملات التضليل.
لم تشهد أية ثورة من قبل مثل هذا الجيشان الشعبي الواسع الذي يتنامى تحت قصف الطائرات المعادية وأدوات الموت دون أن تفل عزائمهم في هذا الجحيم المفتوح، ولم تلن قلوبهم ولم تضق صفوفهم أو تتقلص أعدادهم، بل هي في تزايد مستمر، تواصل التحدي والشموخ والوقوف.
كما يتجلى هذا الجيشان الرائع في التطوع الحماسي الواعي والبطولي برفد الجبهات الحربية والاقتصادية كل يوم وكل ساعة، دون تبرم أو ضيق، على الرغم مما تعانيه من أوضاع مزرية.
يكشف ذلك، مدى توسع قاعدة الثورة اليمنية وعدم انحصارها في فئة أو شريحة أو جغرافيا ضيقة واحدة من الشعب، ولا بمذهب أو طائفة بعينها، كما تحاول تصنيفها ماكنة العدوان وعملاؤه، وإنما تشمل الطبقات الاجتماعية الشعبية كلها، وتمثل تطلعات الأمة ككل.
وهذا ما يطبع الثورة بطابع شعبي عظيم لم ترق إليه ثورات الماضي التي ضاقت إما بيروقراطياً أو أيديولوجياً، ولم تستطع تحقيق هذا العمق والاتساع والانفتاح على الأمة كلها، والقدرة على تنظيمها وقيادتها على طريق الثورة والحرية والاستقلال.

خصوصية وسمات ثورة أيلول التحررية (القبيلة والثورة)
لقد امتازت القيادة الثورية الجديدة باستيعابها لدروس إخفاق الثورات السابقة، وأهمها يتجسد في التعالي على المكون الاجتماعي الكبير في المجتمع: القبيلة (الفلاحين الأحرار) الرابط الأوسع امتداداً للشعب اليمني وأصله وخامته الأساسية وتنظيمه الطبيعي ووعائه منذ آلاف السنين.

إن التعالي على القبيلة أنتج فشل وإخفاق جميع الثورات السابقة، ويسر للأجنبي سيطرته باستغلال سوء هذه العلاقة بين الحركة الثورية وبين القبيلة، وتعطيل طاقاتها الثورية وخداعها. والقبيلة تمثل القوة المتماسكة الضامة في مركز الوطن والمجتمع، تكون جوهره ونواته الصلبة التي تشكل خط الدفاع الأخير عنه، لاسيما بعد سقوط دولته وسلطته القومية وتفكك جيشه الحامي.
وكان من الضروري تجاوز العيب الرئيسي لجميع الثورات الحديثة السابقة، قبل أي تقدم يمكن تصوره للأمام.
إن شعبية القيادة الثورية الراهنة لا تأتي من التضليل الإعلامي أو الديماغوجيا السياسية، فالقيادة التي تقف على رأس الثورة اليمنية قيادة متمرسة أنتجتها الثورة نفسها والواقع نفسه في انسجام عضوي بين البنية التحتية (جماهير الشعب المكافحة وعلاقاتها ووعيها وقضاياها) والفوقية للثورة (الوعي والقيادة والاستراتيجية والتنظيم والفكر).
وأبرز ما في القيادة أنها قدرت وعرفت عن وعي وإدراك عميق وانتماء، بالدور المفصلي للقبيلة في إنجاز أي تحول وطني واجتماعي. وكانت على العكس من القوى الأخرى التي نظرت لها كقوة عاطلة سلبية ضد التقدم وضد كل تغيير ثوري، وبالغ البعض وأجحف في وصفها (وصف شعبه) بـ(القوى الرجعية المتخلفة)! مستوردة الموقف من القبيلة اليمنية من دراسات ورؤى وذكريات النماذج الأوروبية المريرة.
والحركة الوطنية اليمنية في السابق، بانحرافها في تفكيرها بعيداً عن واقعها المعاش وحلمها خارج تاريخها، لم تتطابق أحلامها ووسائلها وأساليبها ورؤاها مع طبيعة الواقع القبلي الشعبي الفلاحي الكادح المنتج المتضامن والمتكافل المتشارك الجماعي، المستعد في حال فهمه أن يسابق أكثر المجتمعات تطوراً فعلياً وحقيقياً.
 لقد قاوم شعبنا ذلك النمط التغريبي، وكان محقاً، فلولا رفضه للتطور الشكلي المناهض للثقافة الوطنية والهوية المجتمعية القومية والإسلامية والعروبية المقاومة، لكانت بلادنا قد وقعت بين براثن الاحتلال والتغريب، وامحت ثقافتها وهويتها، وفقدت استقلالها الى الأبد.

 إنجازات الثورة الصمود رغم العدوان والحصار والاحتلال 
 انطلقت ثورة 21 أيلول الشعبية من أوضاع الاستبداد والفساد والتبعية والسيطرة السعودية الأجنبية الشاملة والقوى التابعة لها، ومن الأوضاع التي عممتها من إرهاب وفقر وبطالة وتباين طبقي واسع وديون وفوضى واحتراب داخلي وانقسامات.
لقد قدمت الثورة برنامجاً للتغيير الوطني اشتمل على عدة قضايا ومطالب عادلة، غير أن الحكومة أجابت باستخدام الرصاص ضد الشعب ومسيراته السلمية، وأخرجت القوات المسلحة لاستخدامها ضد شعبها، إلا أن الجيش كان له موقف آخر بانضمامه إلى ثورة الشعب، وأسقطت حكومة العملاء ومراكز النفوذ، وقامت قيادة وطنية جديدة ترسخت من خلال برنامج الشراكة والعدالة والسلم.
وجاء الإعلان الدستوري الثوري الاستثنائي كرد فعل على مؤامرة القوى السياسية المتواطئة مع الخارج لإفشال جهود الثورة في قيام حكومة وطنية مستقلة.
لم تتسلم الثورة السلطة كاملة إلا مطلع مارس 2015م، وبعد فترة من النزاع مع بقايا النظام القديم التبعي، وما إن استلمت الثورة السلطة حتى بدأت الحرب العدوانية من الخارج والداخل.

تقييم حول إنجازات الثورة
إذا أردنا تقييم الثورة وما أنجزته وما لم تنجزه، فلا يمكن ذلك إلا من خلال تحديد المهام الرئيسية التي كانت ماثلة أمام الوطن منذ العدوان، فعمر الثورة هو نفسه عمر العدوان، والثورة سبقت العدوان، وكان العدوان هو رد الفعل السعودي على الثورة، وهو جواب الرجعية عليها.
وما نلاحظه هنا أن الثورة كانت فعلاً داخلياً ضد أوضاع الداخل وعلاقاتها بالخارج، وأن الشعب كله قد أيدها ووقف خلفها وسار معها في ميادينها وما زال، وبعد هزيمة القوى الرجعية المعادية للثورة والوطن في معارك مكشوفة هي بادرت إليها برفع السلاح ضد الشعب، واتجهت فلولها إلى السعودية تستجلب العدوان الأجنبي على الوطن.
كان العدوان والحصار الشامل هو الإطار الذي سارت الثورة في مواجهته طيلة العامين الماضيين من عمرها، فهي ثورة نبعت من أوضاع العدوان وتواجه العدوان وتتعرض للعدوان، فلا يمكن تقييم أدائها إلا في مواجهة العدوان والاحتلال.
لقد أراد العدوان الأجنبي وأد الثورة كي لا يسمح لها بالتفتح في أوضاع ومناخات السلم الشعبي الداخلي، بعد أن حسمت معاركها مع القوى الرجعية بسرعة، وانتقلت للتفرغ للأوضاع الداخلية لإصلاحها، وهنا قرر ألا يتيح لها ذلك كي لا تنم وتكشف عن قدراتها في معالجة الأوضاع التي أنشأها هو من قبل لكي تكون عقبة أمام أية محاولات للتغيير الوطني، ولذلك أغرقها في الدم والنار والحصار.

هل نجح العدوان في تحقيق مخططاته التدميرية الشيطانية إلى اليوم أم أنه بات يكابد الهزائم والانكسارات؟
الواقع هو أن العدو بعد عامين من الخراب والتدمير والحصار والموت، بات يكابد الموت والخراب والهزائم بدوره، وها هو جيشنا اليمني ولجاننا الشعبية الثورية وجماهير التطوع الشعبي الحاشدة، ينزلون بالعدو الهزائم المريرة، ويحققون الانتصارات في المناطق الشمالية المحتلة، وفي عمق قواته وداخل بنيته الجغرافية، وهاهم يحاصرون نجران وجيزان وعسير على عمق أكثر من 100 كيلومتر داخل الخطوط الدفاعية الأولى والثانية والثالثة للعدو، وتصليه صواريخنا النار والدمار رداً على عدوانه. وفي ظل هذا التصدي والمقاومة الشعبية الجامحة، أعيد بناء الجيش اليمني وأعيد صهره في إطار وطني عميق وشمولي. وفي ضوء هذا الظرف التاريخي الموضوعي، يمكننا القول إن الثورة اليمنية ما تزال تتدفق رغم الحصار والعدوان.

جردة حساب أولي للصمود والنصر
لقد صمد الشعب في وجه التحدي العدواني الفاشي، وتغلب على نتائجه، ويحقق اليوم انتصارات ميدانية كبيرة، وانتقل من الدفاع إلى الهجوم على جميع الجبهات، وحقق تحولات استراتيجية عظيمة، وأفشل جميع مؤامراته وخططه وهجماته.
لقد خسر العدو إلى الآن من المال خلال العامين أكثر من تريليون دولار، حسب تقديرات مراكز البحث الاستراتيجية الغربية، السعودية قد خسرت إلى الآن أكثر من 2000 دبابة وآلية ومدرعة حديثة ومدفع ...، وتكبدت أكثر من 50 ألف جريح وقتيل، وهناك أكثر من 10 آلاف هارب من الخدمة العسكرية. وتم استنزاف أكثر من مليون صاروخ، ظلت ولا تزال ترميها فوق رؤوس الآمنين.

أين كنا وأين أصبحنا؟
قبل عام واحد كنا وما زلنا ندافع داخل مناطق سيطرتنا السابقة، واليوم، وبعد عامين فقد أصبح العدو يدافع عن مناطق سيطرته السابقة التي يخسرها الآن تباعاً.
مسارات المعارك توضح بجلاء أن اليمني يكسب المزيد، وأن العدو يخسر المزيد من مناطق سيطرته السابقة، علاوة على كون صواريخنا أضحت تصل لآلاف الكيلومترات، وتهدد قواعده وتدكها كل يوم، وأصبحت عاصمته (الرياض) في مدى هذه الصواريخ (بركان1). ولم يعد أمامه سوى التسليم بحقوقنا والرحيل عن بلادنا وأرضنا المغتصبة قبل أن يحال إلى رماد كيانه المصطنع.


الثورة الشعبية الوطنية التحررية وتحدياتها التاريخية الراهنة.. نكون أو لا نكون 
واجهت الثورة التحررية الوطنية مجموعة من التحديات من اليوم الأول لانطلاقها، وأهمها:
1- مواجهة قهر العدوان الامبريالي السعودي الأمريكي الراهن بكل تفرعاته وتشعباته وتجلياته وأشكاله.
وتتضمن المعركة ضد العدوان الامبريالي الآن، هزيمته الشمولية، وإجباره على التسليم بدون قيود أو شروط، واستعادة الأراضي اليمنية المحتلة، ورفع العدوان والحصار، وانتزاع التعويضات الشاملة منه على عدوانه، ومحاكمة المسؤولين عن العدوان وعملائه.
2- التخلص النهائي من التبعية والهيمنة والاستعباد الامبريالي السعودي الأمريكي والاحتلال والتوسع واستعادة السيطرة على الثروات الوطنية وتحرير الإرادة الوطنية والسيادة والحرية والكرامة والاستقلال، ومواصلة المعركة ضد الاستبداد والفساد الداخلي والطغيان السياسي الارستقراطي والبيروقراطي العسكري والاحتكار...، بما يحقق المضمون العام للثورة في العدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية الوطنية والاكتفاء الذاتي وتحسين المعيشة الشعبية والنهوض الوطني الإنتاجي والصناعي والزراعي.
3- قدرة الثورة على بلورة مشروعها الوطني الحضاري الشامل للنهضة العامة الاجتماعية والوطنية للخروج من الأوضاع المأساوية القائمة والموروثة، ولابد أن يتضمن المشروع الاستراتيجي للبناء الوطني الشامل للثورة توحيد المجتمع اليمني كله حول فكرة عقيدية وطنية وأيديولوجية ثورية واحدة مشتركة، وتأطير قواه تأطيراً عاماً وطنياً موحداً يتبنى فكرة ثورية واحدة، ويتحرك نحو هدف مشترك واحد. 
4- توطيد السلطة الشعبية الديمقراطية الثورية -الاجتماعية -المباشرة المستندة الى التسيير الذاتي في القاعدة الشعبية في كل مرفق وموقع ومركز ومحلة وشارع وحي ومنطقة، بما يحقق تخطي الأزمة الاقتصادية التموينية النقدية والتعبوية التي يخطط العدو لها ويراهن عليها وعلى نجاحها، وكسب المعركة الأمنية ضد القوى الإرهابية والعدوانية عموماً، وتجييش الشعب كله نحو تحرير المناطق المحتلة، وفتح أبواب التطوع للمشاركة في حسم المعركة مع قوى العدوان وتصفية الجبهة الداخلية من الشبكات الإرهابية والترجيفية التخريبية التي تراكمت في السابق ضمن بؤر سرطانية منتشرة.
تلك هي أهم التحديات الموضوعية الراهنة التي تواجهها الثورة وقواها، وتعتمد على مدى تحقيقها في الواقع، وتتحدد آفاق الثورة ومستقبلها ومصير الوطن واستقلاله وحريته.