مازال العدو يحاول تغطية هزائمه في المسار العسكري بالتغطية عليها عبر المسار السياسي، التي تأتي على شكل مبادرات ومناورات سياسية تتظاهر بالمرونة والبحث عن السلام الملغوم، بينما تحاول إنقاذه من مصيره المحتوم. 
 الموقف الوطني 
لقد حسمت القيادة الوطنية هذه المسائل -عندما ردت على مصادرها في أكثر من مناسبة- من قبل المفوض بالتحدث باسم الدولة والقيادة اليمنية الوطنية رئيس المجلس السياسي الأعلى رئيس السلطة التنفيذية في الجمهورية القائد السياسي الأعلى للقوات المسلحة، وجاءت ردوده على أشكال متعددة، منها بيانات وخطب، ومنها مواقف وتحركات إلى الجبهات والخطوط الأمامية، وهو ما ينم عن مواقف القوة والعزم والإرادة والثقة بالوطن وبقدراته المتصاعدة على ردع العدوان.

المعقول واللامعقول
لا يعقل أن تبادر جهة التشريع الأولى في الدولة بشكل مضاد لبقية أجهزة السلطة العليا في الوطن، وفي ظل الحرب والعدوان، باتجاه محاورة العدوان دون العودة للمعنيين في السلطة من الشركاء والزعماء والقادة، خاصة عندما تكون الجهة المبادرة تمثيلاً لقوى سياسية تشارك في السلطة الوطنية، وتتبعها وتمثل سياستها، ولا يمكن في هذه الحالة إلا أن تفسر المبادرة بأنها موقف جانبي يعبر عن توجه جديد لتلك القوة السياسية الشريكة في السلطة ومواجهة العدوان، وهو موقف مزدوج لا ينسجم مع الاتجاه العام المعلن للمجلس السياسي الوطني الأعلى والحكومة، ويناقض بوضوح ما اتفقت عليه تلك المكونات، والمبادئ التي قامت عليه شراكتهما، وهو ما يخلق البلبلة بين صفوف الشعب الصامد ومكوناته.
 هناك 3 نقاط تستوقفنا في هذه الظاهرة:
الأولى: لمن توجه وعمن تصدر المبادرات السياسية والمناورات التكتيكية؟ هل يملك الأحقية الدستورية والقانونية والتنظيمية لممارسة التكتيكات؟
ففي موقف رسمي لمجلس النواب لا يحق له توجيه النشاط السياسي إلى الخارج بدون العودة للسلطة التنفيذية السياسية العليا المسؤولة عن ذلك، وعبرها فقط يتم التعاطي مع أية قضايا سياسية من هذا المستوى الوطني، وبطلب منها وبموافقتها، وبدون ضغط عليها وابتزازها بالتهويل والتخويف.
الثانية: أن المبادرة فعل سياسي تكتيكي واستراتيجي، ليس إطلاقاً من الأفعال التشريعية التي تخص المجلس، وإطلاقه الفعل السياسي هو خروجٌ عن مهامه، وتطفلٌ على ما لا يخصه من صلاحيات، إلا إذا كُلف بها من قبل المجلس السياسي الأعلى، وصادق عليها وتبناها. وبدون هذه المصادقة لا يحق إطلاقاً المضي بها إلى النهاية، ومن الممكن أن تقدم كمشروح مقترح إلى القيادة السياسية.
الثالثة: إذا أراد المجلس التعاطي مع الشأن السياسي الوطني، فإن ذلك له من زاوية تشريعية -أي أن يصدر قوانين وتشريعات وتوصيات توجه إلى الجهات التنفيذية في الدولة- وذلك حسب اللائحة المنظمة لعمله واختصاصاته، وحسب ما تمليه القواعد الدستورية التي قام على أساسها، وفي هذا لا يختلف نظرياً عن أيٍّ من برلمانات العالم -جميعها مقيدة باستقلالية السلطات -هي تشريعية، ولا يجوز لها تناول السياسة العملية التنفيذية - الاستراتيجية والتكتيكية- فذلك من اختصاصات جهة أخرى، وبهذا التجاوز فإن البرلمان يعبر عن خلل في فهمه لدوره البرلماني الذي يضعه في مواجهة مع قيادة السلطة التنفيذية في حال أنها كانت بعيدة عن المبادرة، وأنها فوجئت بها حسب ما تردد، وأنها غير راضية عنها.
في هذه الحالة تكون تعبيراً سلبياً عن عدم ثقتها بالحكومة المشتركة وقيادتها السياسية العليا، وعدم اتباعها الطريق الدستوري السليم للتعبير عن الموقف حسب القواعد المرعية، والذي تسبقه الكثير من الإجراءات والمقدمات.
 من ناحية المحتويات: خسرت خطوة البرلمان الأحقية من الناحية الشكلية، فهل محتويات المبادرة فيها ما يشفع ويبرر القفز على السلطة التنفيذية، والتعدي على مجال صلاحياتها بدون تكليف أو تفويض؟!

محتويات تستحق الاعتراض
 الشعبي الوطني
أهم مبادئ المبادرة المعلنة هي:
1-  (دعوة أطراف الحرب إلى الحوار وبدون شروط مسبقة)!
2- وضع الموانئ والمنافذ كافة تحت أيدي الأجنبي المعتدي نفسه، المتقنع بغطاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث المعتدي هو يشكل أغلبيته فيها، ومنح الأجنبي حقوقاً سيادية مطلقة لا يجوز التفريط بها، هي الإشراف والسيطرة وجمع الأموال والضرائب والموارد السيادية!
3- الإقرار بنقل البنك المركزي من العاصمة اليمنية صنعاء!
4- استجداء المرتبات -الموقوفة من 10 أشهر- من العدو!
وهناك الكثير من النقاط، ولكن يهمنا هنا التوقف عند أهمها:
في البداية هناك خلل في توصيف (الأطراف المتحاربة) وفي توصيف (الحرب) والعدوان. فهل الأطراف المتحاربة أطراف داخلية كما تشير المبادرة؟
كيف يكون العدوان عدواناً خارجياً حين يقال أطراف معنية في بلد واحد، أي أنه صراع بين مكونات داخلية مختلفة، وليس عدواناً أجنبياً... وفي هذا يكمن أهم خلل، في توصيف العدوان وتحديد أطرافه.
وهو ما يتطابق مع مناورات الجانب السعودي الأمريكي عبر ولد الشيخ، وهو ما سبق ورُفض من الجانب اليمني في مناورات الكويت وعُمان وظهران الجنوب وغيرها.
أيضاً، التراجع عن مواقف تم كسبها، وعن حقوق تم الإقرار بها من قبل العدو نفسه، مما تم إنجازه في إعلان عُمان، بحضور طرف العدوان (الرباعية)، وبشهادة جون كيري، وإقراره في وثيقة موقعة بحضور الوفد اليمني أواخر العام الماضي.
فقد توصل الوفد اليمني إلى المفاوضات، بأن الحرب هي بين اليمن من جهة والسعودية وحلفائها من جهة ثانية، وبهذا تم الإقرار بتحديد نهائي للطرفين المتحاربين، ولا رجوع عنها.
أما المبادرة فهي تشطب كل ما أُنجز من انتصارات سياسية وعسكرية ومعنوية، وتشجع العدو على التنصل من التزاماته، وذلك بما يأتي ضمنياً في المبادرة المُقدمة بأن هُناك من هو مستعدٌّ للتعاطي مع ما هو أقل من الحقوق التي سبق الإقرار بها.
النتيجة هنا، أن المجلس بهذا التدحرج المخزي للخلف، يكشف عن ضعف أشد بشاعة من الخيانة نفسها، ضعف يعلن صراحة أنه مستعدٌّ للقبول بالفتات مقابل ترتيب أوضاع خاصته، ويعرض نفسه، لا ممثلاً للصمود اليمني، بل محايداً في حرب أقحمته بها أطراف الصمود (المتطرفة المفتقرة للعقلانية والوسطية كما يرى)، ويعرض خدماته المستقبلية - في إطار قبول العدو بدورٍ للمجلس - في سياق مبادرة خليجية جديدة، راجت عنها الكثير من التسريبات والأخبار، محتواها إعادة وحدة النظام القديم الذي تم إسقاطه مرتين، وترتيب قبول رجاله في المنظومة الجديدة، وهُنا فإن هذه المبادرة المُقدمة هي غطاء للمبادرة الحقيقية.

مؤامرات أم مبادرات؟ 
إن استراتيجية العدوان السياسية -كما عبر عنها في عدد من المناسبات باحثون وقادة استراتيجيون- تقول بوضوح إنها تقوم على إحداث شق بين طرفي الصمود الرئيسيين في الداخل، وتقريب طرف إلى التفاهم مع العدوان على صفقة حل سياسي تنهي الحرب الوطنية التحررية الجارية، وتنقل الوضع إلى عملية سياسية -مبسترة- على التركيب الانتخابي التوازني القديم، بما فيها ضمان ثنائية اليمين الوسط التقليدي التبعي، أي إعادة اليمن إلى مجال الهيمنة السعودية الإماراتية الأمريكية القديمة بصورة معدلة، تتضمن سلخ الجنوب عن التركيبة الوطنية باسم (التأجيل) و(مرحلة الحلول) و(التدرج) و(عدم التشدد)!
ومحتوى المؤامرة هنا يكمن في التخلص من القوى الثورية التي اخترقت المجال الاحتكاري على غير موعد، وقلبت التوازنات الاستراتيجية في البلاد والإقليم، ووظفت نزاعات الأجنحة البيروقراطية وصراعاتها الجنونية لصالح نهوضها الوطني التحرري وتحقيق ثورتها الشعبية الجديدة.


تصالح الثورة والبيروقراطية
 إجبارياً للوطن
تشعر البيروقراطية الفاسدة بالخطر كلما لامست الثورة واقعها وطابقت خطواتها مع اتجاه التاريخ العام، وقاربت على الانتصار لقضايا الوطن والشعب. وإن هذه البيروقراطية لا تريد هذه الانتصارات، لأنها بنظرها نهاية اللعبة الملعونة، ونهاية الهامش السياسي الذي تتحرك خلاله في مختلف الاتجاهات، وتحاول تأسيس فضاء خاص بها، ينطلق من حاجة الأطراف لها ولدورها المرحلي الانتقالي المرجح، ولذلك تحاول أن تبقي على خيوط التفاهم والتعاون السري مع مختلف الاتجاهات، وجوهر لعبتها التكتيكية هو أنها تقدم نفسها وتدافع عن ذاتها دوناً عن الثورة الشعبية الجارية المقتربة من جحورها، ومجبرة على التفاهم معها على الدفاع المشترك الذاتي فقط إلى أن يمتد خيط يمكن البناء عليه للمستقبل.. ويفهم العدو هذه الميول، ويعزف على نفس الأوتار والأنغام المحببة، خاصة عندما يكون في عمق أزمته، وبحاجة إلى من يمد له اليد لإخراجه من مستنقع الإخفاق.
ولذلك يلتفت العدو إلى أي صوت يصدر عن الداخل اليمني، يكون مختلفاً، يقبل مفهوماً للسياسة يتضمن قبول الممكن وترك الصعب، وخذ وطالب كما كان يقول عباس وقريع، خذ ما يقبل العدو إعطاءه، وأجل ما لا يقبل إعطاءه (السياسة كفن الحصول على الممكن)!

في ضوء خطاب السيد عشية ذكرى الصرخة
جاء خطاب القيادة الثورية قوياً وصريحاً بقدر ما يتطلب الموقف، لكنه لم يخلُ من إشارات للكثير مما احتوته المبادرات والمناورات والمؤامرات والعراقيل التي تدور منذ مدة، وبدأت ترفع رأسها -هنا وهناك - تريد تسيد المشهد والسيطرة على نتائج الانتصارات والمساومة عليها بصفقات وتنازلات، وحرف المسارات الوطنية إلى قضايا جانبية، وإعاقة أية محاولة لردع قانوني للمرتزقة الذين انضموا إلى العدوان ومازالوا يحصلون على امتيازات المجلس البرلماني المعيق لاتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم.. 
وفي كلام القائد ما يشير إلى ضيق شديد وصبر طويل على أوضاع لا يتحملها الشعب، منها التمسك بإبقاء مرتبات الكثير من الفارين العدوانيين والخونة والهاربين، واستمرار احتكارهم لمواقع إدارية، ورفض إجراء إصلاحات مالية إدارية، ورفع الحصانة عن الفاسدين، دون النظر إلى انتمائهم، وكان هذا على خلفية ممارسات فساد كبيرة فاحت عفونتها، يجري توظيفها دعائياً ضد الثورة، وإعاقة تحويلها إلى القضاء والعدالة.
كما جاءت تلك الكلمة الحارة الصريحة على خلفيات انحرافات عن الطريق الوطني القويم، صادرة عن عناصر وجهات محسوبة على الوطن.
إن الإصلاحات الإدارية الضرورية والإجراءات القانونية ستوفر قسماً من المبالغ المطلوبة، وبدلاً عن النحيب من الأزمة المالية توجب التخلص من الوهميات والازدواجيات في الوظائف، وهي واضحة ومحددة ومعروفة، وتوفر مئات الآلاف من الوظائف ومليارات الريالات.. كان هذا حرياً بالمجلس فعله - وهو واجبه المُلح - بدلاً عن وضع الدولة اليمنية كلها أمام مزاد الرواتب الأممي القميء والخادع.
إن توفير المرتبات يتم بالإصلاحات الإدارية والقانونية، وبالتغيير الجذري للعادات والأساليب السابقة، وبمحاربة التبذير والإسراف الرسمي وتجريمه.

الحكمة التوتاليقراطية
يتحسس البيروقراطي التوتاليتاري رأسه بيديه حين يفكر استراتيجياً، لأن فكره لا يحدده الوطن أو الحرية أو الاستقلال، أو مواجهة الاستعمار والامبريالية والصهيونية. كلها مفاهيم تسبب له الصداع، بل الغثيان أحياناً، بل الجنون والهستيريا، ولكنه مضطر إلى مسايرة الرؤوس الساخنة في هذ البلد المقهور، فهو مستعد أن يبيعها في صفقات مجزية عندما يشعر بالضعف والإخفاق واليأس والحصار.
ولذلك يساوم طوال الوقت سراً على مبادرات ومناورات، وينتظر، ويراكم القوى، ويستعد، ويرسل الرسائل تباعاً بمناسبة أو بدون مناسبة، ويبدي أحياناً حسن نوايا متطوعاً بمواقف ومواقع، وهو ينتظر الجواب المنصف..
إنه كالقرصان الكاريبي ينتظر نتائج المعارك ليقتطف من الجانبين جوائزه.

أزمة التوتاليتاري
لأنه كذلك فهو مأزوم، ويقف في منتصف المسافة بين الوطن والعدوان.. العدوان يفهم أزمة التوتاليتاري، وهناك طرف جديد في قيادته تحاول إصلاح ما أفسدته عقلية الشيوخ التي دفعت بالصراع والتنافس إلى مستوياته التناحرية الوجودية. فالشباب العدواني يحاول استعادة الخيوط التي تقطعت - بالتطرف الإخواني السلفي الإرهابي - بينه وبين التوليتارية اليمنية الداخلية، واستغلالها كحصان طروادة لاختراق الحصن الوطني من داخله.
وعلى هذه الشعرة الشيطانية التي تتبادل الشد والإرخاء بين الفنادق والسفارات والأجهزة، تدور المناورات والمبادرات والمغازلات، الحقيقة التي يُراد اليوم وفي الغد أن يتم تغطيتها سياسياً وسلامياً عبر صيغ (هي وليست هي) كما يقول أحد المجربين في ألاعيب السياسة.
هناك من يفكر في دفع البلاد وهي في قمة انتصارها المعنوي السياسي والحربي، إلى أن تكون مجرد ماخور وسمسرة، صفقات مصالح خاصة، مزارع لذوي النفوذ والإقطاع، ورجعة الماضي الكئيب. 
ولا يتصور ولا يريد أن يتصور الوطن حراً مستقلاً أبداً، فإما أن يكون هو سيده وسلطانه، أو ليذهب إلى الجحيم.
إن هذه البيروقراطية الإدارية في الأجهزة، التي راكمت كروشها من اللصوصية والفساد، تفزع من أية عملية تغيير حتى لو لم تكن هي هدف هذا التغيير، فهي تعلم أن أية ثورة تريد النهوض بالوطن ستتجه نحوها بالضرورة، وبالتالي فإنها تصير من أهم الاتجاهات المتربصة بالثورة والخطر الكارثي عليها فيما لو غفلت عنها.
وفي حساباتها، فإن انتصاراً قوياً على العدوان، يعني سقوط امتيازاتها، ولتحافظ عليها تسعى بشتى السُّبل إلى أن تفرض حلولاً استباقية تلائم مصالحها ولا تزيحها عن المشهد.
كما أنها تجد في الأوضاع الجامدة في ميادين الحروب، والتي تراوح مكانها في دائرة مغلقة، أهم ثغراتها لمحاولة تصدر المشهد والحفاظ على بقائها.
وهنا يتوجب على كل القوى الوطنية التنبه باستمرار لهذه القضايا، والعمل في اتجاه تعزيز الصفوف الداخلية والوحدة الوطنية، والتعبئة الشاملة لقوى الشعب في كل الميادين، وعلى كل المستويات، وبمقدمتها السياسية والمعنوية والعقيدية.

@ كاتب ومحلل استراتيجي وسياسي - رئيس تحضيرية الحزب الاشتراكي اليمني