النظام العالمي ما بعد كورونا 2 - 2
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

الطبيعة الإمبريالية للدول الغربية، وخاصة أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، جعلتها أضعف في مواجهة «كورونا» (بخلاف النموذج الصيني الناجح)، مما يضعف إمكانية استمرار هذه الأنظمة مستقبلاً.
تركيبة النظام الصيني، الذي بُني بشكل مختلف عن النموذج الليبرالي، جعلته أكثر قدرة على التعامل مع الوباء. فالتنظيم السياسي الواحد الذي يوجه المجتمع مركزياً، أكثر قدرة على ضبط السلوك الاجتماعي. كما أن الاقتصاد الصيني المملوك للدولة جعلها أكثر قدرة في السيطرة على السوق وتوظيف كل الإمكانيات الاقتصادية والتقنية والغذائية والبنية التحتية في مواجهة الوباء، وإعطاء الأهمية الرئيسية للإنسان على مصالح الشركات، وهذه المميزات التي يملكها النظام الصيني يفتقر إليها ما سواه من الدول الكبرى الرأسمالية.

كورونا وهدم التحالفات القديمة
يلعب «كورونا» دوراً في تفكيك التحالفات الدولية الاستعمارية القائمة. وأبرز هذه التحالفات حلف الأطلسي، الذي يضم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، ويخدم بشكل رئيسي أطماع الولايات المتحدة الأمريكية وتدخلاتها العسكرية. ومن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع المعسكر الاشتراكي، تطورت التناقضات داخل الدول الغربية، حيث تسعى كل دولة غربية إلى أن تصبح قوة عالمية مستقلة ومنافسة لحلفائها. وجاءت جائحة «كورونا» لتعزز النزعات الوطنية، وتعيد الحدود السياسية التي كادت تنتهي سلبياً بفعل نظام العولمة، والتي محيت تماماً في نموذج الاتحاد الأوروبي بين أطراف الاتحاد.
ظل الاتحاد الأوروبي محافظاً على تماسكه الظاهري رغم أنه كان يعاني أزمات بنيوية في الأعوام الماضية، حتى جاءت جائحة «كورونا»، لتطرح الأسئلة عن مستقبل هذا التحالف بعد أن دخلت أطرافه في حالة تنافس وصراع وقرصنة على المستلزمات الطبية، فإسبانيا وإيطاليا أشد المتضررين وأكثر نقمة على هذا الاتحاد، فيما تذهب فرنسا وألمانيا إلى تطوير علاقات ثنائية بعيدة عن الاتحاد ككل، ومؤكد أنه بات في حاجة إلى ترميم وإعادة صياغته بشكل مختلف عما كان عليه قبل «كورونا».

النظام العالمي ما بعد كورونا
يعتقد هنري كيسنجر أن جائحة كورونا ستغير النظام العالمي، «فالاضطرابات الاقتصادية السياسية قد تستمر لأجيال»، والتحدي يتمثل في أن «على قادة العالم العمل على بناء نظام ما بعد كورونا». ويُشكك كيسنجر في قدرة أمريكا على النجاة من هذه الجائحة كما كانت تفعل في السابق. ويصرح بعمق الانقسامات السياسية فيها. وهو يعتقد أن أمريكا «تحتاج إلى قيادة ذات كفاءة بعيدة النظر». وينصحها «بحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي»، فيطالبها بما تعجز عنه فعلاً. فالشيخ كيسنجر لا يريد أن يُصدق أن أمريكا هرمت تماماً مثله ومثل نظرياته في كتابه «النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ»، فقد وجد التاريخ مسارات غير المسار الليبرالي الذي تم تقديمه باعتباره نهاية التاريخ، كما في كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، الذي نشر بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. بدأ الكتاب كمقالة ثم تحول إلى كتاب بالحشو دون أن يضيف جديداً على ما جاء في تلك المقالة المليئة بوهم ما بعد الانتصار.
جائحة «كورونا» رفعت الستار عن علاقات القوة الحقيقة والتوترات التي كانت مختفية في إطار علاقات النظام الدولي القديمة. لهذا نجد أن الصين راحت تثبت حضورها الدولي وتقوم بما سماه الكاتب في المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية، جافي لوبيز، «تمريناً جيو سياسياً، لا عملا تضامنيا فحسب». فالصين اليوم تثبت إرادتها في التحلي بالمكانة الدولية التي تعكس تعاظم قوتها الفعلية، وملء الفراغ على حساب الانحسار الأمريكي.
الاتفاقيات والمعاهدات التي حكمت النظام العالمي الراهن المتداعي، وحكمت العلاقات بين التحالفات والتكتلات الدولية، وعكست الواقع الدولي القديم، بدأت تنهار، وتم انتهاكها وتجاوزها، عبر القرصنة التجارية، وعودة العصبيات القومية والانغلاق الوطني والقومي في العالم. إن تقديم أمريكا مصالحها القومية على مصالح حلفائها وبقية دول العالم، وسحب لقب الدولة العظيمة منها، وتوقف دول الاتحاد الأوروبي عن العمل بمعاهدة شنغن، وما تشهده دول الاتحاد الأوروبي من حالة انقسام وهشاشة لم تشهدها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، هذه المؤشرات تدعمها تصريحات رسمية إسبانية وايطالية محذرة من تفكك الاتحاد الأوروبي، وأنه لا قيمة لحلف الأطلسي، كما ظهرت الأعلام الصينية في دول الاتحاد الأوروبي بجانب الأعلام القومية، بدلاً من علم الاتحاد.
النظام الدولي الجديد سيعبر عن هذه الوقائع الجديدة وعن علاقات القوة الجديدة. وسوف تتطور وتبنى العلاقات بين الدول التي دخلت في علاقات تعاون وتضامن في أثناء هذه الأزمة، ولأن أمريكا دولة محدودية التعاون فستنحسر علاقاتها مع الدول التي تتكاتف الآن، فيما ستتطور علاقات الدول المنكوبة مع كل من الصين وروسيا اللتين مدتا يد العون. ولن يكون هناك دوافع مستقبلية لكثير من دول العالم للتعاون مع أمريكا وفرض الحصار على الدول والشركات المغضوب عليها من قبل واشنطن، وفي مقدمتها كوبا وفنزويلا وإيران والصين وروسيا وكوريا وسوريا واليمن وغزة.
سيكون على الدول الأوروبية أن تتقبل الشكل الديمقراطي للنظام الصيني (الديمقراطية الشعبية) المختلف عن الديمقراطية الليبرالية القائمة في العالم الغربي عموما.
كما أن جائحة «كورونا» ستؤدي إلى تغيير في السياسات الدولية تجاه جوانب البحث العلمي والحقوق الصحية للبشر أكثر من الحقوق السياسية، وكذلك باتجاه تعزيز السلطة المركزية، واهتمام أكبر وجدي تجاه الكوارث البيئية الأخرى التي تخلقها الحضارة الرأسمالية، ولم تكن آخرها حرائق الغابات المطرية، وإعطاء منظمات دولية كمنظمة الصحة العالمية استقلالية والوثوق بها، وليس من المستبعد أن تتحول إلى نواة شبكة رعاية صحية عالمية تتمثل مبادئ الأممية الإنسانية. وستعود تساؤلات قديمة عن ضرورة بناء اقتصاد عالمي لا يخضع لرحمة اقتصاد السوق الحر كما هو عليه في الوضع الحالي.

أترك تعليقاً

التعليقات