رسالة إلى السنوار
 

محمود ياسين

محمود ياسين / لا ميديا -
لو تطلب دمي وروحي والله لعيونك.
في حياتي لم أحب أحدا على هذا النحو السحري المسيطر وكأنك يا يحيى يوسف وأنا إخوتك الذين باعوك.
روائي وكاتب لطالما بقي يمجد الليبرالية ورموزها، ولطالما كتبت نقدا وكراهية للأيديولوجيين لكنك يا يحيى أمسيت أيديولوجيتي.
ليتني وقفت بينك وبين رصاص الأوغاد.
ليتني كنت جرمنديتك يا أخي وسيدي.
كل مساء وبينما يتخاطر الرجال مع العيون الكحيلة وقوام الصبايا وأنا أتخاطر وملامحك قبل الاستشهاد بدقائق وأبكي.
أبكي مثل أرملة فقدت الرجل الوحيد الذي جعل لحياتها معنى.
مثل يتيم ضربه الأوغاد في جنازتك حتى أثخنوه.
أبكي مثل محارب ساموراي تخلى عن قائده ولم يعد أمامه غير أن ينتحر بالسيف الهايكاري ويبقر بطنه اعتذارا لقائد واجه جيشا بقبضته.
كنت أبحث في كل فرصة عن مسافة تبقيني بعيدا عن الإخوان المسلمين، لكنك كنت وحدك إخواني وتنظيمي السري وأسأل: من أين أتيت يا أخي بكل تلك الجسارة؟ كيف امتلأت بمزيج من قلب هرقل ورحمة النبي محمد؟ وكيف لي أن أكون مثلك ونسخة منك ولو لدقيقة واحدة، الدقيقة التي فصلت بين تضميدك جرحك وشد ساعدك الذي نخله الرصاص بسلك تالف؟ لم يخطر لك لحظتها أنك إنما تضمد ساعد أمة بأسرها.
ليتني كنت الدعامة الرابعة أسفل المقعد الذي رميت منه عصاك، فلربما حظيت بشرف إسناد لحظتك الأخيرة يا أبي.
كيف أتخطى مخاوفي أمام الترهات والتفاهات بينما امتلكت وحدك شجاعة الوقوف وحيدا أمام أعتى قوة عرفتها البشرية منذ حرب طراودة، ولحظة أن جسدت لعدوك مثاله الملهم وأباه المؤسس داود الذي وقف بمقلاعه أمام جالوت وأسقطه وحظي بنو إسرائيل بحريتهم وملك اسمه داود.
لا أدري كيف يسعني أن أحبك.. لا أجد طريقة لأرثيك.. لا كلمات يا يحيى.. يا أخي وسيدي وقائدي.. تلاميذك ومقاتلوك لايزالون حتى اللحظة يلوون عنق الفولاذ وتصدم أجسادهم فولاذ الدبابات.
لم نتمكن من تخطي وجعنا يا سيدي، لكننا نقاتل.. نقاتل مخاوفنا كأشخاص.. ويقاتلون كمحاربين أفذاذ لم ينسوا ملامح قائدهم وهو يقذف بعصاه في وجه عالم مسخ ليخبره قبل أن يموت: ينتصر الإنسان آخر المطاف.
تسكنني ملامحك يا يحيى.. تسكنني حد الهذيان.. ألأنني أردت من صميم روحي أن أشبهك فأخفقت؟ وأن هذا الانفعال الغرائبي هو ترجمة للمسافة بين حقيقة الإنسان وبين الصورة التي يحلم أن يكون عليها؟ أو أنه حس غريب ومبهم بالذنب؟ كأنه كان بوسعي أن أتواجد بينك وبين رصاصهم لكنني غبت، تركتك وحيدا، تركتك صورة ضربتها فرشاة رسام جبار منح البشرية ملامح كائن خرافي هو لحظة الشجاعة الجوهر، تجسيد إنسانيتنا الكاملة وفي ذات الوقت هو مثالنا المستحيل الذي تخلينا عنه كعرب ومسلمين وبشر.
أعود لأغنية: يا راعي النخوة والزلم
انته يابونا
هيبة كل الكون
أسمعها ألف مرة وأفكر أنك في الثلاجة، جسدك مسجى ومثقوب بالرصاص، لكنك تدرك في برزخك العظيم أن كاتبا يمنيا أحبك كما لم يحب أباه، واستقوى بك كما لم يستقو بإخوته، وتمنى لو أنه فداك بجسده ونخله الرصاص وبقيت يا يحيى.
رفقتك في ثلاجة يطلقون عليها «مكان الموتى»، بينما أنت الحي الوحيد.
أتعهد جراحك وأهمس في أذنك: الوحش يترنح يا قائدي، كأنك استجمعت إرث أساطير قتال الوحش المسخ في تاريخ الأمم، في الروايات وأفلام هوليوود، لحظة أن يصوب البطل رمحه الذهبي في أضعف نقطة للمسخ، يعترك معه ويمنحه طعنة الموت ويموت قبله بدقائق.
أنا وأنت ورب العالمين نعرف ما فعلت.. ولتبقى الهوام بعيدا عن جسدك الطاهر المسجى، وليبق للعرب خالدهم وللبشرية ملهمها فارسها الأخير.
إذا انقبض القلب، قال: يحيى.. وإن سكن الموت أطراف أوردتي صحت: يحيى.
لم أعد أجد جان جينيه بطلا ولا تولستوي ملهما، ولا حتى واقعية ماركيز السحرية وكتابه وسرده «عشت لأروي» لم تعد تلهمني بعدك، أنت سحرنا وواقعيتنا السحرية القابلة لأن تُعاش وتُروى، أتدري ما الذي تركت لي على المستوى الشخصي؟ كلما راودتني التفاهات وأوشكت على الاستجابة للصغائر وما يحط من إنسانيتي تذكرتك فخجلت وتشامخت وابتعدت واستعدت أناي وإنسانيتي.
لا يليق بمن أحبك إلا أن يكون بعضا منك يا كل كلي.
كلماتك، خطاباتك، الشيب في حاجبيك، كما هو في صورة بورتريه رسمه الفنان اليمني شهاب المقرمي وأسكن إيماءاتك ملامح أبي وقدم لي الصورة يوم التأبين، علقتها في ركن عالمي وها أنت تحدق بي منها: أبا وأخا، وملكا، وتهمس من ثنايا اللوحة: لا تصالح.
ياقة قميصك يا يحيى، كأنها خارطة عودتي لإنسانيتي.. نهايتك شفرة بدايتي.. شرفك المهول يكفي لأن يكون أي رجل شريفا إذ أحبك يوما.
أنت الآن مسجى في الثلاجة، وعدوك على طاولة التشريح أمام العالم كله، صرعت المسخ يا يحيى وأحلته جثة تختبر الإنسانية ماهيتها المهجنة وكيف نشأت ومن أي تجربة آثمة مختلة تكون هذا المسخ.
أثخنوك يا سيدي؟ لم يدركوا أنهم بإطلاق الرصاص على جسدك إنما أطلقوا النار على مرايا فارتدت بوجههم، ذلك أنك لحظة سقوطك شمخت مثل مرآة لم تتكسر بقدر ما عكست للعالم وجودا من وجهين على أحدهما ملاك مبتسم وعلى الآخر تكشيرة شيطان يحتضر.
«ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل»، هذه الآية أنت تحفظها وتتمتها: «إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيله، فلما كتب عليهم القتال تولوا».
تولى العرب والمسلمون يا سيدي المسجى جثة بطل في ثلاجة المسخ.. تولوا.
وكان أبي وهو من قرية اسمها الدنوة في ريف إب باليمن يلكزني بأصابعه الضخمة كلما قرأتها «توااالوا»، ويزمجر: تولوا.
المهم يا طالوتنا، ولحظة أن فصلت بالجنود وقلت إن الله مبتلينا بنهر، شربنا منه ولم يغترف الليبرالي غرفة بيده، بل انهمك يعب الماء بشراهة المتهافت الساذج معتقدا أن العدو هو منظومة حقوق وحريات «ودعم سخي» وفرص إشهار في المحافل الدولية وجوائز، شرب النفطي من أنانيته وجشعه والجبناء من ضعفهم، وحين واجهت العدو قال لك البقية الباقية الذين يظنون أنهم ملاقو الله: «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة».
الفئة القليلة هم كل إنسان تبقى في هذا العالم وقد تكاثروا الآن وأمست أصواتهم هي الأعلى، وأنت هنا النسخة المعكوسة من مروية عدوك وعدونا عندما كان مظلوما، عندما استقوى الضعيف المظلوم بـ«الوظف» (والوظف بكسر الظاء قماشة تضع داخلها حجرا وتطوح بها وترمي)، هي المقلاع، وهي المسمى الآن لدفاعاتهم الجوية ومنظومتهم الصاروخية الدفاعية «مقلاع داود» وبذلك المقلاع قتل ابنهم داود عدو وقاتل أمته فتربع على العرش وأورث هذا الهول والجريمة مجسدة لبني جلدته المتعطشين للثأر من كل البشر، وكأن المظلوم وبشكل حتمي يتحول آخر المطاف لجلاد، ويا للمفارقة أن تكون أنت داودنا وبيدك المقلاع وتسقط برجمة «الوظف» والحجر أكثر الكائنات عنفا ووحشية، المظلومون وحدهم يرثون سرديات الأساطير وأسفار وآيات الكتب المقدسة.
وها نحن، حالة استحضار لزمن لا تعيش المنطقة عاثرة الحظ هذه دون استعادته «الصراع العرقي محمولا على الدين».. استعادوا ملكهم القاتل فاستعدنا فتانا الشجاع، ألا يرضيك هذا يا فتانا المسجى؟
أنت داودنا معكوسا على أسفار التوراة، ولقد توقف داودهم عن كونه نبيا لحظة أن أحال الملك لمنهج قتل ولحظة أن تشهى وشبق بتلصصه على جسد زوجة حارسه الفاتنة «يوريا» وهي تستحم وتسيل قطرات الماء على جسدها الأبيض المستحم تحت وميض القمر.
من يومها ورث المظلوم مروية الظالم الذي كان يوما ما مظلوما.. أحالتهم مرويتهم لقتلة ينشدون الأمان وأحالتنا فظائعهم لمقتولين ينشدون العدالة والمآثر وبقية رجاء في عدالة تتخطى غرائز البشر.
أراك في تكوينات أعقاب السجائر، وعلى الحائط في ملامح أبي الراحل، حاجبيه الأشيبين ذاتهما، إيماءات غضبه الصادق ورحمته الشافية، في زجاج السيارات وعلى صفحة الماء المتبقي لأغسل به همومي وضعفي.
لطالما ابتعدت عن المتدينين وتوشك أيها المتدين الطاهر المهول أن تجعلني أحبهم، أنت جوهر الدين وشفرة الرسالة المحمدية، أنت تعويذة الأساطير، أنت المستوى الأعلى من محاولات الذكاء الاصطناعي برمجة الإنسان فتخطيته وبرمجت البشرية بأسرها على ثنائية الحق والرحمة.
أضعف وأهذي وأهوي وأتضعضع وأتمزق وأتهابل وأخور وألمح وجهك فأتماسك.. أفقد إنسانيتي فأسمعك تقول: سنأخذها منكم خاوة.. فأكون الخاوة والكمال.
كل مساء يا سيدي أنقص فأكتمل بك.. كل هجعة أنزوي على نفسي وأتحلزن مثل محارب ساموراي تخلى عن قائده فأود في الصميم لو أبقر بطن هذا الوجود العربي بعصاك التي ألقيتها لتلقف ما يأفكون.
هذا ما تبقى لنا، حشرجة بطل مشينا معه «ورفضنا أن نموت معه».. آية متربعة على عرش وهبه الرحمن للعبيد ليستعيدوا آدميتهم، وكلمة تتردد في جنبات الكون مثل تعريف مقتضب وأخير لطريق المسلم المظلوم يحشرج: ارجع إليهم، فلنأتينهم بما لا قبل لهم به.
أقسم لك إنني مشفق على هرقل الذي كان قبلك، والإسكندر الأكبر الذي كان بعده، وأسأل: أمام طودك وجلالك ومهابتك وعظمتك، ما معنى العظمة؟ لا قبل قبلك ولا بعد بعدك.
في الحد الفاصل بين عالمين، حيث تمور أرواح الأبطال، ألحظ ابتسامة الإسكندر وإيماءات اعترافه القسري وهو يجثو عند قدميك مرددا: جعلتني أخجل من مآثري، وكأنك في التاريخ بين زمنين مروية خالدة، وفي الميتافيزيقا ملاك، وفي الجغرافيا تلة وصخرة تكسرت عليها جيوش الأعداء.
أقسم لك يا سيدي إنني مشفق على الملك آرثر لحظة امتطاء جواده واستلال سيفه ليثبت على التلة وحيدا بمواجهة جيش ليذود وحده عن أهله وبلاده، ما الذي يتبقى له وهو يتابع من برزخه دنيا يحيى التي ارتجلها للتو وآخرة يحيى التي وضع بها حدا لغرور الأبطال.
وعلى المستوى الشخصي يا يحيى أنا الحلاج أهمس أمامك بتواضع وامتنان: منحتني فخجلت. ومن فرط حضورك اليومي في ذهني كل دقيقة وأنت تقول: سننتزعها منكم خاوة، وعلى إيقاع رميتك الأخيرة أردد:
حويت بكلي كل كلك يا قدسي
تكاشفني حتى كأنك في نفسي
حتى إنني بدأت ألتزم وأصلي الخمس كونك كنت ملتزما وتصلي كل يوم خمس مرات.
أن أكون نسخة منك لعشرين ثانية فحسب، ذلك عمر مديد وأبدية، عشرون ثانية فحسب، أتم فيها صلاتي وأجلس على مقعد متهالك لأواجه جيشا وعوالم متواطئة وعالما شريرا بأسره، أواجهه بعصا خشبية وقلب شجاع لا ينام، عشرون ثانية فحسب وأرحل بعدها راضيا ومستبدلا لدنيا مكتظة بالصغائر والترهات.
تدري يا أبي؟ انحاز الليبراليون التنويريون متعهدو مقولات حقوق الإنسان للقاتل، بينما انحاز الإسلاميون المتهمون بكل تعصب وعنف للضحية، فعلى أي الجانبين أنام؟
نم قرير العين، الله يعرف رعيته، والبشر سيجدون تعريفهم آخر المطاف لعدالة تتخطى دوافع البشر.
كأنما نطقت لغة الفيتنام واليابان القديمة وامتشقت سيف حنبعل وقاتلت بحربة بوسايدن.
مجموعة أو قطيع من المقلدين لليبرالية، المستنمين على مشاهد الجنس المصور يحاولون النيل من إرثك العظيم، يحاولون التقليل منك بكلك، فيخطر لي أمر العنف الجسدي ضدهم لا الحوار، إنهم خصومي الشخصيون ما حييت.. أعدك.
فقط يعجزني مشهد متخيل للخنازبر في «تل أبيب» وهم يدلفون للثلاجة ويقلبون جسدك الطاهر، يرون منك ما كنت تستحي أنت أن تراه يا ابن عفان، فأكاد أصاب بالصرع.
نفايات تسعى للنيل منك يا وريث الديانات الثلاث، يا آل عمران وقد اتهم الأراذل ابنتهم العذراء.. صلبوك على قمة جبل القدس، لكنك لم تصرخ كيسوع: إلهي لماذا تخليت عني. بل ربطت ساعدك مرددا: لن أتخلى عن أهلي المغلوبين.
أنت داودنا وقد أجهز على جالوت بحجر.. وأنت نبينا محمد لحظة الخذلان في الطائف وهو يتحامل على جسده الواهن الجريح بقدمين داميتين وأصابع مرتعشة، ولم تمتلك ترف الإفصاح عن ضعفك الإنساني لتردد: اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي «وإن عاتبت في ذلك الفيديو بعينين دامعتين»، ولكنك رددت: إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟
أسلمك القريب لعدوك، لكنك امتلكت أمرك.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، أن أضل أو أضل، أو أن أجهل أو يجهل علي.
جيد أن مقامك لا يصغي لما يقوله الجاهلون الآن.. وفي المحصلة استجمعت في حنجرتك خالدا وصلاح الدين وسيف الدين قطز وصرخت من غياهب تاريخنا وحدك: يا خيل الله اركبي.
جسدك المسجى يا سيدي من تثنيات جسد غاندي قبل أن تلتهمه النيران، وبين حاجبيك ترتسم غضبة جيفارا قبل أن يغدروه، وفي أعماقك تتردد تميمة وتعويذة ومطلع قصيدة العربي: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ».

أترك تعليقاً

التعليقات