لم يعد ميناء الاصطياد بمدينة الحديدة أو ما يسميه أبناؤها (المحوات)، كما كان عليه قبل تاريخ 26 مارس 2015م (اليوم الذي شن فيه التحالف الأمريكي السعودي حربه على اليمن أرضاً وشعباً وبحراً)، وهذا الفارق في المشهد يدركه من زار الحديدة وسوق بيع الأسماك قبل ذلك التاريخ، ومن يزورهما حالياً، حيث لم يبق منه سوى صوت خالد منذري (38 عاماً)، الملقب بـ(ديك المحوات)، والذي يصدح في المكان عندما يدير مزاداً لبيع الأسماك الطازجة الواصلة من البحر.
ويظهر الفرق بمجرد دخول حوش الميناء الذي يوجد فيه رصيف إنزال لحمولات قوارب الصيادين، وسوق لبيع أسماك صيدهم المتنوعة, حيث يلاحظ الزائر فوراً خفوت ذلك الضجيج الكبير الذي كان يصدر منه أثناء عمليات البيع والشراء, وظهور عدد كبير من قوارب الصيد راسية على مرفأ المحوات، والصدأ يجتاح حديدها الذي يغلف خشبها المهترئ، ما يدل على أنها لم ترتطم بأمواج البحر منذ فترة طويلة.
كما أن الكميات الكبيرة متنوعة الأصناف من الأحياء البحرية قد انخفضت بشكل مرعب، وكأن وحوشاً التهمت ما في البحر الأحمر من كائنات. وعندما تذهب إلى الأشخاص الجالسين على تلك القوارب المهجورة التي دمر طيران العدوان 204 منها، لتسألهم ما الذي حل بهذا المكان, ترى البحر مرسوماً على وجوههم يخبرك أنهم صيادون، فتقفز إجابة السؤال إلى ذهنك دون أن ينطقوا بحرف واحد، وهي أن هذه الفئة البسيطة من المجتمع اليمني نالت نصيبها من همجية العدوان والحصار، مثل بقية الفئات، ولكن بشكل أكبر، حيث بلغت خسائر القطاع السمكي نتيجة تلك الهمجية 3 مليارات و115 مليون دولار، كما أن العمود الفقري لهذا القطاع (الصيادين) أصبحوا يُقتلون في عرض البحر بتهمة إبحارهم في مياههم وصيد أسماكها، ما جعل معظمهم يتوقف عن مزاولة هذه المهنة، مفضلاً أن ينتظر الموت بين أبنائه قصفاً أو جوعاً على أن يخرج من بينهم متوجهاً إلى البحر ثم لا يستطيع رؤيتهم مجدداً.

الذاهب إلى البحر مفقود
(الذاهب إلى البحر للصيد مفقود والعائد منه مولود) هذا هو المثل الشعبي الذي يحكي لسان حال الصيادين الذين يصطادون في مياه البحر الأحمر، نتيجة استهداف طائرات الأعداء لقواربهم وسط البحر.
علي طالب مهيم (ثلاثيني العمر) خرج في الثالث من أبريل الجاري، في رحلة صيد إلى مياه البحر الأحمر المطلة عليها مدينة الحديدة, يصاحبه فيها والده الكهل واثنان من إخوته، على متن قاربهم الخشبي البسيط الذي من المفترض أن يخيموا فيه لـ10 أيام حتى يعودوا بصيد وفير. ومع إدراكهم الخطر الكبير الذي من الممكن أن يواجههم بفعل طائرات الأباتشي المحتلة لأجواء مياههم، والتي نهشت سابقاً أجساد الكثير من زملائهم بوحشية, إلا أن صعوبة الأوضاع المعيشية الناتجة عن الحصار المفروض من قبل الغزاة، أجبرتهم على سلك طريق احتمالات الموت فيه كبيرة.
ولما انجلى ليل اليوم الثاني لرحلتهم وبدأت خيوط شمس صباح اليوم الثالث بالظهور, استيقظ الحاج طالب وولداه على صوت مرعب لإحدى تلك الطائرات التي لا تملك أجنحة وإنما مروحتين تحلق بهما؛ واحدة على ظهرها والثانية على ذيلها, بعد أن اقتربت من قاربهم الراسي بالقرب من جزيرة زقر، وأفزعت نومهم, وما إن لمحت علي الذي كان لا يزال يغط في نومه ولم يستيقظ مثل البقية، حتى وجهت فوهة رشاشها صوبه, وأطلقت عليه رصاصات اخترقت جسده بوحشية، وبقسوة لا نظير لها أبلغت والده وأخويه الذين يشاهدونها تنهش لحمه، أنه لن يستيقظ ثانية, لتؤكد انتهاء رحلة صيدهم في بداية يومها الثالث، وتضيف مجزرة جديدة إلى قائمة المجازر التي ارتكبتها بحق الصيادين وسط البحر.
الصياد حسن محمد (39 عاماً) وآخرون تحدثوا لصحيفة (لا) أثناء لقائها بهم في ميناء الاصطياد بمدينة الحديدة، عن قصة استشهاد زميلهم علي, والحالة السيئة التي لحقت بوالده وشقيقيه عندما شاهدوا طيران الأباتشي التابع للعدوان وهو يقتله دون أن يستطيعوا فعل شيء لإنقاذه. مؤكدين أن المجازر المروعة التي يرتكبها الطيران المعادي بحق الصيادين اليمنيين وسط مياههم، دفعت معظمهم إلى التخلي عن مهنة الصيد، لأنهم لا يضمنون عودتهم من رحلاتها مادامت هذه الطيور القاتلة تحلق فوق رؤوسهم. وهذا يضاعف حجم المعاناة التي يعانيها أبناء الحديدة بفعل العدوان والحصار.
وبلغ عدد الصيادين الذين استشهدوا في المجازر التي ارتكبها طيران العدوان بحقهم في عرض البحر، قرابة 140 شهيداً، والجرحى أضعاف العدد, حسب معلومات حصلت عليها أسبوعية (لا) من مسؤولين في ميناء الاصطياد.

الصيادون خلف قضبان المعاناة
الصعوبات التي يواجهها الصيادون أثناء رحلات صيدهم، كانت محصورة في السابق على الرياح واضطراب البحر، لكنها لم تمنعهم من مزاولة عملهم رغم استمرارها لأكثر من شهر, فالتغلب على تلك المعوقات لا يحتاج إلى أكثر من المبيت في جزيرة زقر أو جزيرة الطرفة التي تفصلها عن سوقهم مسافة 9 أميال بحرية, بدلاً من المبيت وسط البحر.
أما الآن، ومع بداية العدوان، فقد أصبحوا يواجهون تحديات كبيرة تتمثل في استهدافهم من قبل الطيران، بالإضافة إلى التحديات السابقة، لأنه أصبح من المستحيل الوصول إلى تلك الجزر التي كانت بمثابة منازل تؤوي الصيادين اليمنيين، وتحميهم من شتى مخاطر البحر، بفعل قطاع الطرق من مرتزقة العدوان.
واتضح أيضاً من حديث الصياد زيدون (28 عاماً) أن أكثر ما يعانيه أبناء البحر (الصيادون) هو سجنهم خارج مياه وطنهم التي اعتادوا العيش فيها سنين طويلة, حيث أضحوا غير قادرين على دخولها مع أنها أمام أعينهم, لأن العدوان جعل احتمال الموت أمراً مؤكداً.
الصياد حسن محمد يضيف: إلى جانب هذه المعاناة التي يواجهها الصيادون، هناك معاناة أخرى تتمثل في تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي لهم ولأسرهم، فالصيادون كانوا يمكثون وسط البحر أياماً عديدة ليحصدوا كميات كبيرة من الأسماك تُباع بالملايين, وكان متوسط محصول الاصطياد في البحر لـ10 أيام فقط مليون ريال, أما الآن فلا يمكن البقاء تلك المدة، لأن الثمن الذي سيدفعه الصيادون في هذه الحالة هو حياتهم.
ويتابع حسن حديثه: حتى في حال بقينا هذه المدة في البحر، فإننا لا نبيع إلا بثلث القيمة السابقة, لأن الكمية التي نصطادها قليلة ولا تساوي سابقاتها بسبب قلة الأسماك التي أفضت إليها عمليات صيد جائر تقوم بها سفن عملاقة حليفة للعدوان.
وأفادت معلومات وردت في تقرير أعدته وزارة الثروة السمكية والهيئة العامة لمصائد البحر الأحمر، تدني متوسط استهلاك الفرد السنوي من الأسماك على مستوى الجمهورية، حيث وصل إلى كيلوجرامين ونصف بدلاً من 14 كيلوجراماً.
وذكرت المعلومات أن القصف الذي طال مراكز الإنزال السمكي عطل عمل 4586 قارباً، معظمها بمديرية ميدي بمحافظة حجة ومدينتي ذوباب والمخا بمحافظة تعز، قدرت خسائرها بـ655 مليوناً و170 ألف دولار, وبالتالي فإن عدد الصيادين الذين فقدوا مصادر دخلهم بلغ 36 ألفاً و668 صياداً.
وبسبب الانخفاض الكبير لمعدل الإنتاج السمكي منذ بدء العدوان، فقد توقفت 78 منشأة سمكية تتوزع بين مصانع تعليب ومعامل وشركات تصدير, وهذا جلب البطالة لـ18 ألفاً و652 يداً عاملة.

تحالف العدوان يدمر البيئة البحرية
لا يكتفي تحالف الشر بقتل الصيادين اليمنيين وسط مياههم الإقليمية, بل يمنع من نجوا من نيران طيرانه من ممارسة أعمالهم في الصيد وبيع ما يصطادونه مقابل مبلغ من المال يوفرون به احتياجات الحياة الضرورية لأسرهم، وبالتالي فإن تحالف العدوان يترك الصيادين وأسرهم فريسة الموت جوعاً.
وعلاوة على ذلك (يشن المرتزقة التابعون لتحالف العدوان عمليات تجريف لكل الأحياء البحرية، ليس لبيعها بملايين الدولارات فقط، بل لتدميرها وضمان عدم انتفاع اليمنيين منها في المستقبل)، بحسب المهندس يحيى شرف الدين، نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة موانئ البحر الأحمر اليمنية.
وأكد شرف الدين أن عمليات التجريف هذه للأحياء البحرية في البحر الأحمر تقوم بها شركات عالمية، تحت إشراف سفن العدوان ومنظمة الأمم المتحدة, وتقتل الشعاب المرجانية، ما يدفع الأسماك إلى الهروب نحو أقرب مياه مجاورة لمياه اليمن، وهي المياه الإريترية, وأكثر الأحياء البحرية المستهدفة من عمليات الصيد الجائر التي تقوم بها جرافات بحرية عملاقة من دول مختلفة، هو (خيار البحر) الذي يباع بملايين الدولارات, إلى جانب أنواع عديدة من الأسماك ذات الجودة العالية.
(عمليات الجرف العشوائية تجرف كل ما تجده أمامها في المياه، وبعد ذلك يتم تنقية الأنواع المرغوبة فقط، بينما ترمي ببقية الكمية التي لا تناسب المعايير إلى البحر بعد قتلها, أو تعطيها للصيادين الذين جنوا من بيعها ملايين الريالات)، حسب حديث أحد مشرفي السوق.
وأكد مسؤول آخر في ميناء الاصطياد: مياهنا تحتاج مئات السنين لينمو خيار البحر فيها من جديد، وتقدر خسائر الأضرار البالغة التي لحقت بالبيئة البحرية اليمنية نتيجة الصيد الجائر الذي يقوم به العدوان من أجل إنقاذ أحيائها من الغرق، حوالي مليار و50 مليون دولار، ناهيك عن تقييم الأثر البيئي الناتج عن أعمال التجريف هذه، والذي يقدر بحوالي 840 مليون دولار.
ويشتكي الصيادون الذين التقت بهم الصحيفة في ميناء الاصطياد، ممن سموهم الغواصين الذين يخالفون القوانين المتبعة، ويغطسون في المياه لمسافات كبيرة، ليصيدوا الأسماك بطريقة غير شرعية تهدد حياتها بالخطر. مشيرين إلى أنهم أبلغوا الجهات المختصة بهذا الأمر، لكنها لم تتحرك لنجدتهم.
يدرك الغزاة حجم الثروة السمكية التي تمتلكها الجمهورية اليمنية، لذلك يحاولون تبديد هذه الثروة وإهلاكها تماماً، وما يزيد من حجم المأساة هو سماح أسطول العدوان للصيادين الإريتريين بالصيد في المياه الإقليمية اليمنية، وبيع ما يصطادونه في السوق المحلية، بينما يُمنع اليمنيون أصحاب البلد من ذلك. بل إن تحالف العدوان ضمن لإريتريا عائداً مالياً ضخماً تجنيه من حرفية الصياد اليمني الذي استغل المحتل حاجته للقمة العيش، فسمح له بمزاولة مهنة الصيد في مياهها مقابل 3 آلاف دولار يدفعها للسلطات الإريترية لتمنحه رخصة اصطياد لمدة شهرين.