مجاهد الصريمي / لا ميديا -

نحن في رحاب موسى هذا العصر لولا انقطاع النبوة. قلمه غدا سبباً واصلاً بين السماء والأرض. روحه كتابٌ سيتلوه، على امتداد دفق النهر الزمني، كل جيل عرف معنى الحياة والحرية. نحن في رحاب شاعر خاض غمار الموت ممتشقاً حروفاً صارت بما تم لها من كمالٍ تُعبرُ عن كمال مَن أبدعها، إذ غدت سيوفاً يمتشقها الفرد المدرك لها، ويحتمي في ظلالها المجتمع الذي تَكَوّن في كيانها. 

إنها الحكمة العملية المتجلية من خلال ما خلفه ضيفنا من نتاج شعري، وصل إلينا بعض منه عن طريق أحد تلاميذه النجباء المخلصين، والذي أعطانا بضع قصائد كانت لديه. ولعمري إنها لكنوز لو ظفرت بمثلها مملكة سليمان لما اندثرت، ولو حظيت بمثيلاتها مملكة سبأ لما طفت كصخرة على ظهر سيل شظاها على طول جزيرة العرب.
وقبل أن نضع بين أيديكم قصائد شاعرنا، تعالوا لنسأل تلميذه أنور قائد الشلفي عن أستاذه، وهو كاتب وأديب لنا معه وقفات أخرى ضمن سلسلة هذه المحطات. يجيب الأستاذ أنور قائلاً: هو الشاعر عبد العزيز علي عبده القدسي، يلقب بـ»أبو غسان»، وهو شاعر وأديب وسياسي يمني. توفي عام 2011، شغل منصب سكرتير أول مقر الحزب الاشتراكي اليمني، فرع محافظة صعدة، منذ أواخر الثمانينيات وحتى وفاته. وقد نُشِرَتْ له العديد من القصائد الشعرية المتنوعة عن طريق جريدة الحزب الاشتراكي «الثوري». وشاعرنا من مواليد مديرية التربة محافظة تعز.
يضيف الشلفي: «وهنا لا بد أن أعترف أني كتلميذ للراحل لم أحسن الحفاظ على موروث أستاذي. بالطبع لي ألف عذر على هذا التضييع والإهمال، لكني لن أسترسل الآن في أي شيء وسأكتفي بالحديث عن بعض ما أعرفه عنه وعن بعض قصائده التي وجدتها على حالها يوم ميلادها على الورق. وعزائي الوحيد عن ذلك الإهمال القديم أن أمنح نفحة عطر من الذاكرة لأجمل وطن شعر عرفته في حياتي؛ علماً أن هناك قصائد كثيرة مشتركة بيني وبينه، وقد ضاعت أيضاً ولم يبق منها إلا ذكرى الراحل في وجداني الذي سأظل أبكيه بصمت في زمن الضياع». وهنا توقف التلميذ الحاكي عن أستاذه لأن هطالة الدمع أقوى بكثير من شذرات الحديث، ولأن حشرجات الحزن أثقلت على كاهل البوح. أمسك كلّ منا لسانه عن الحديث، وأطلق العنان لفكره، بما فتحت له عظمة المتحدث عنه من عوالم زاخرة بالفكر والنضال، والتمسك بالمبادئ، والحمل لهموم الناس، والتبني لقضاياهم، والدفاع عن حريتهم، والمطالبة بحقوقهم. وتلك سمات شخصية ضيفنا الذي كتب القصيدة الوطن، وأبرز اليمن واليمنيين عبر لوحات شعرية متعددة، رسمت صورة الوجه اليمني أرضاً وإنساناً من زوايا وأبعاد مختلفة. يمكننا تتبعها كما يأتي: 
أول درة تبرز بين أيدينا هي هذه القصيدة؛ وهي بعنوان «أبحثُ عن أغنية»، كتبها الشاعر وبحسب ما رواه لنا تلميذه في عيد العمال وذلك في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، والقصيدة من الشعر الحر وتنبني على أربعة مقاطع. في المقطع الأول يحاول الشاعر وضع خلاصة ما يريد إيصاله بين يدي اليمن الثكلاء، التي من شدة ما لاقته من أحزان ومرت عليها من كوارث لم تعد تمتلك قدرة على الرؤيا التي تمكنها من الأخذ بزمام مصيرها وتقديم موجبات وجودها. فالشاعر يبحث عن ثورة تتغنى بها العقول راسمةً خططاً توصل نبض القلوب بزناد البنادق ومعطى انبعاث الاحاسيس بفوهاتها فالتتار قد عادوا في ظل زمان عقيم مات الأحياء في كنفه قبل موتهم بالسيوف التي سلها التتار بوجوههم؛ فما جدوى حياة تحكمت الغزاة المتخلقة بوجهين بذور تترية على ثرى يمنية يغتالون الورود ويشيدون اللحود؟ ثم يعمق الفكرة أكثر من خلال ما عقده على جيد العمال والكادحين، وذلك في المقطع الثاني حيث يبدي صورة المطرقة وقد تحولت إلى امتداد لنبض قلوب العمال وآلة تنساب عليها مهاجلهم ليخرجهم عن دائرة الدمى بما يجعلهم يدركون حجم التضليل، فـ»نيرون» ذلك الطاغية قد ارتدى وجه المسيح. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ يصبح الخدر والسكون والانسحاق أمام الطاغي والمستبد شيئاً من الدين بل مما يجب العلم به والعمل على أساسه بالضرورة. وخطر هذا الانقلاب للصورة والهدم والخلخلة لطبائع الحقيقة ومترتباتها لا يتوقف عند هدم قداسة الدين والمسخ لقيمة المعاني القائمة بها حركة الرسالة، بل يذهب لهدم الدنيا. فالخبز الذي هو حق لضمان بقاء الحياة يصبح رصاصة تحقق الموت أو جواز سفر للنفي والإبعاد عن الوطن. ويستمر الاحتجاج من قبل الشاعر بصوت أعلى، وذاك ما ضمنه المقطع الثالث والرابع. وهنا نورد النص بين يديك عزيزنا القارئ كاملاً:

(1)
أغوص بغابات عينيكِ أبحث عن أغنيةْ
بها تتغنى البنادق
فهذا زمان عقيم
يستلّ فيه التتار السيوف
ويغتال ورد الحدائق

(2)
أغوص بغابات عينيك أبحث عن أغنية
بها تتغنى المطارق
فهذا زمان الجحود
تقمص نيرون فيه ثوب المسيح
ليمنحنا كسرة الخبز
إما رصاصاً
وإما جوازَ سفر

(3)
زمان به تهرب الذات من ذاتنا
إلى عالم من كؤوس
فحين تخف الرؤوس
نصوغ الأماني للجائعين سنابل
ونصحو على صوت جنكيز خان
فنقسم هذا زمان المشانق
هذا زمان اغتيال الحروف
هذا زمان احتضار الأماني

(4)
أغوص بغابات عينيك أبحث عن أغنية
بها تتغنى الزنابق
تشرئب الرؤوسُ بها
تتشرْنَقُ شمسُ بلادي
لتكسو البلاد بألوانها الزاهية
 وقبل انقضاء هذه السطور، يطيب لنا منح عينيك هدية عزيزنا القارئ بعنوان «قراءة يمانية على جدار الغربة»، وهي من أجمل ما قُد من شغاف قلوب الشعراء ليرتديها الوطن كحلة لا يبليها تقلب الأزمان ولا يفنيها تعاقب، العصور. (ملاحظة ورد في النص اسم ميسون وأوسان وهما لأبنا الشاعر): 

(1)
لأني انتظرتُ مجيءَ النوارس من مدن الغيب 
انتظرت هطولَ المطر
لأني انتظرت بأن يبزغ الفجرُ من عتمة الليل 
انتظرت انشقاقَ القمر
فلم أر غيرَ ذبول الشجر
لم أر غيرَ احتضار البشر
وقررتُ يا وطني الاغتراب 

(2)
بعيدٌ أنا عن بلادي 
يمتصّني الحزنُ
ويقتاتنيَ عبرَ الليالي القلق
وأرسم في لوحة العمر 
لأوسان نجماً 
وميسون أرجوحةً وشفق
بعيدٌ أنا عن بلادي 
ولكنِّ أحفر في صدر قلبي تضاريسَ أمي اليمن 

(3)
بعيدٌ أنا 
والعيون هنا 
تخيّرني في أن أمتطي الريح إليك 
أو أن أموت كآبةْ
وأنا العاشق المستهام بحبك 
تمنيت لو طرت فوق سمائك 
مثل سحابةْ
لو أستظل برمش عيونك 
فأنتِ أغنيتي والصبابةْ

4 - قراءة أخيرة
قرأت في كتب الأسفار
بأن الوجدَ الظامئَ لا يروي العطشى
والشوقَ يفجر في النفس ينابيعَ الحب 
للوطن المصلوب 
للتربةْ
وحبي لبلادي أبديٌ 
صخريُّ اللون 
تجرَّعَ آلام الغربةْ