مروان أنعم / لا ميديا -

كائن مجهري صغير استطاع أن ينسف من الأذهان ما صورته سنوات طويلة من الفبركات والأوهام السينمائية التي قدمتها أفلام هوليوود طوال عقود للمشاهدين في كل بقاع المعمورة. لطالما كان الإنتاج السينمائي والتلفزيوني لهوليوود يركز على فكرة البطل الأمريكي والغربي الذي يحمل هموم الإنسانية، والساعي إلى نشر قيم الديمقراطية والحرية، وتقديم بطل الفيلم نفسه أضحية (غالباً البطل لا يموت) في سبيل إنقاذ العالم من الفضائيين، بل كافة البشريين أيضاً المعادين للثقافة الرأسمالية والساعين لتدمير كوكب الأكشن الأمريكي ذي الفنتازيا الخيالية. 
إن سرعة تفشي فيروس كورونا في المجتمعات الغربية أثبتت أن الغرب الرأسمالي المتوحش، كان يسوق الوهم إلى مواطنيه وإلى العالم، فالنظام الصحي سقط في أول اختبار حقيقي مع الكارثة التي سببها الفيروس، وانكشفت معه أقنعة لطالما توارت خلف ادعاءات نبذ الكراهية والعنصرية، وحقوق الإنسان، وغيرها من المصطلحات.

عنصرية عابرة للقارات
الأحزاب اليمينية العنصرية والفاشية في أوروبا، وكذلك الدمية الأمريكية ترامب وصلوا إلى السلطة عن طريق إطلاق الحملات الدعائية عن خطورة المُهاجرين وما يشكلونه من عبء على فرص العمل والنظام الصحي للدولة.
ومع اجتياح الفيروس لأوروبا وأمريكا، انهارت المنظومات الصحية أمام الأعداد الهائلة من المصابين، ولم يجد المواطن في تلك الدول إلا التغريدات أو التصريحات الساذجة والعنصرية للقادة.
فعندما ظهر فيروس كورونا في الصين، وصف ترامب الفيروس بالصيني، في إشارة عنصرية وشماته مقيتة، أرادت تحقيق مكسب سياسي واقتصادي على حساب الصين، وتصويرها بأنها مصدر وباء للعالم، وذلك بهدف عزلها عن العالم وإلحاق أكبر ضرر باقتصادها.
إن وصف ترامب للفيروس بـ«الصيني» يعيد إلى الأذهان الممارسات التي كانت تمارس في العصور القديمة، حيث كان الاعتقاد السائد حينها بأن كل من يصاب بمرض معدٍ، إنما حلت عليه لعنات السماء، وأنه ملعون بلعنات الشياطين، مما يتوجب نفيه أو قتله.

بروبغندا عنصرية
إلصاق تهمة الفيروس بالصينيين ـ بالرغم من أنها ليست تهمة ـ ومحاولة إيهام العالم بأن فيروس بيولوجي يحمل جنسية دولة ما، هي من السخف والحماقة.
تلك الحماقات دفعت العديدين في الولايات المتحدة وأوروبا إلى شن حملات من التنمر والتمييز العنصري واللفظي ضد الآسيويين الذين يحملون ملامح صينية، ففي أمريكا نشرت شابة صينية منشوراً وصفت فيه ما تتعرض له من مضايقات شبه يومية وكراهية متصاعدة في أوساط المجتمع الامريكي، كوصفها بـ«آكلة الحيوانات» و«الصينية القذرة» و«حاضنة للفيروسات».
وفي بريطانيا تم رمي عدد من الطلاب الآسيويين بالبيض في مدينة ليستر، أما في ألمانيا فقد نشرت مجلة «دير شبيغل» مقالاً بعنوان «فيروس كورونا: صنع في الصين».
بل إن هذه العنصرية تجاه الآسيويين وصلت إلى بعض الدول العربية التي تأثرت بالبروبغندا العنصرية التي أسهمت في نشرها الملتيميديا الغربية، فقد انتشر مقطع فيديو لشباب مصريين في القاهرة يصرخون في وجوه عدد من المارة الآسيويين، واصفين إياهم بـ«كورونا متجولة».
وسارع الخليجيون إلى التحريض على إيران، والزعم بأنها التي صدرت إليهم الفيروس، في الوقت الذي كشف تقرير لقناة «DW» أن الأعداد الهائلة للرحلات الجوية القادمة من فرنسا وإيطاليا ومصر، ترجح افتراضية نقل الفيروس من تلك الدول إلى دول خليجية.
تلك الممارسات العنصرية روجت لها وسائل الإعلام الغربية من خلال تبني ونشر الخطاب الداعي إلى شيطنة الصين وإيران، واستغلال ذلك لفرض عزلة اقتصادية وسياسية عليهما، ولكن سرعان ما ضرب الفيروس ضربته في الدول الشامتة تلك، وجعلها تنكفئ على مصيبتها.

دعوات إجراء تجارب على الأفارقة
إن الحملات العنصرية التي تتبناها وسائل الإعلام الغربية واضحة بما لا يدع مجالاً للشك، ولا تندرج ضمن نظريات المؤامرة التي يرددها الكثيرون، فعندما تستضيف قناة «إل سي أي» الفرنسية المشهورة، طبيبين فرنسيين يصرحان بإمكانية إجراء تجارب العلاج على الأفارقة، فلا يمكن اعتبار تصريحاتهما من قبيل الصدفة أو الخطأ غير المقصود.
فقد صرح الطبيبان «ميرا» و«لوشيت» بإمكانية إجراء تجارب سريرية في أفريقيا للقاح «بي سي جي» المضاد لداء السل، لمعرفة مدى فاعليته ضد فيروس كورونا.
وكشفا عن إجراء اختبارات سابقة في القارة الأفريقية، قائلين: «إن الاختبارات ستسفر عن نتائج أفضل عند إجرائها في أفريقيا، حيث لا توجد أقنعة ولا علاج لفيروس كورونا الجديد، مثلما تم فعل بعض الدراسات في الإيدز».

أفريقيا ليست معملاً لفئران التجارب
تصريحات الطبيبين الفرنسيين أثارت عاصفة من الانتقادات والغضب، فقد ندد نجم كرة القدم الإيفوارية ديديه دروجبا، على حسابه بمنصة «تويتر» قائلاً: «أفريقيا ليست معمل تجارب. أود أن أندد بتلك الكلمات المهينة والخاطئة، وفوق كل ذلك تنضح بالعنصرية»، فيما وصف اللاعب الكاميروني إيتو الأطباء الفرنسيين بكلمتين فقط بمنشور له قائلاً: «الأطباء الفرنسيون القتلة».
ومن جانب آخر، فقد رفع نادي المحامين في المغرب دعوى قضائية على الطبيبين لدى القضاء الفرنسي، بتهمة التشهير العرقي، ووصف النادي ما جاء على لسان الطبيبين بالكلام البغيض والعنصري.
وأدانت منظمة الصحة العالمية تصريحات الطبيبين الفرنسيين الداعية لجعل القارة الأفريقية ميدان اختبار للقاح ضد فيروس كورونا.
في حقيقة الأمر، فإن الطبيبين الفرنسيين أفصحا عن طبيعة الثقافـــــــة الاستعمارية المتأصلة لديهما ولدى العديد من الشعوب والدول الغربية التي كان لها إرث استعماري وحاضر مقَّنع بالاستعمار الناعم الساعي إلى نهب الثروات والخيرات ودعم الفساد في هذه الدول للإبقاء على قبضتها المستمرة لهذه الدول الغنية بثرواتها الطبيعية، في الوقت الذي تعاني شعوبها من فقر مدقع وظروف معيشية قاسية.

حقوق الإنسان كذبة عالمية
إن R03;السياسةR03; الأمريكية والأوروبية، لا تمت للإنسانية بصلة، فهي تسعى لاستغلال وباء كورونا لخدمة سياساتها الاستعمارية والاحتكارية القائمة على التسلط وعدم احترام سيادة واستقلال الدول، كما ترفض التعاون مع الدول الأخرى لمكافحة هذا الوباء.
في بدايات شهر مـــارس، وعندما انتقل الوباء إلى جمهورية إيران الإسلامية، رفض الدمية ترامب رفع الحصار عن المستلزمات الطبية التي تحتاجها إيران لمواجهة تفشي الوباء، بل ذهب إلى حد الشماتة والسخرية، طالباً من إيران تقديم التنازلات السياسية كي يقدم لها بعض المساعدات الطبية، ولم ينصت كذلك إلى دعوات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية لتقديم المعونات الطبية إلى إيران.
ومازالت الإدارة الأمريكية تمارس القتل الجماعي للشعب الإيراني بأكمله، تنفيذا لرغباتها السياسية، فهي تلوح بعصا العقوبات والتهديدات الأمريكية لكافة الشركات والدول الراغبة في مساعدة إيران، ومارست الدور نفسه مع فنزويلا، حيث أصر ترامب على مواصلة العقوبات ضدها، بل فرض عقوبات إضافية عليها، في معاداة سافرة للإنسانية والشعوب، إنه نموذج فريد من استغلال الأوبئة للكسب السياسي، في تجاهل تام لأبسط المعاييــــر الإنسانية.

حرمان كبار السن من حقهم في الحياة
مع فشل المنظومة الصحية وعجزها في أوروبا وأمريكا، عن مواجهة التفشي السريع لفيروس كورونا، ظهر الوجه القبيح للعالم الغربي، وسلوكياته المتوحشة تجاه الإنسان وحقه في الحياة، وقد تمثلت هذه السلوكيات في ممارسة الانتقائية تجاه من يحق لهم الحصول على الخدمات الطبية، حيث أصدرت كل من أمريكا وإيطاليا وبريطانيا قراراً أثار موجة من الاستياء والغضب، يقضي بمنح الأولوية في الحصول على أجهزة التنفس الصناعي للشباب والصغار على حساب كبار السن، حتى وإن كان هؤلاء الأخيرون يعانون من أمراض مزمنة.
تلك الدول الكمبرادورية الرأسمالية لا تنظر إلى الإنسان إلا من زاوية ما يقدمه لاستمرار عجلة الإنتاج، فكبار السن باتوا يشكلون عبئاً على نظام الرعاية الاجتماعية، التي تكلف الدول مليارات الدولارات سنوياً، لذلك فإن الفرصة سانحة للتخلص منهم لتوفير النفقات الكبيرة التي تتكبدها تلك الدول من رعاية صحية ومرتبات للتقاعد.

قرصنة ولصوصية 
أصبحت الدول الأوروبية تعيش حالة من الهستيريا والقرصنة المتبادلة على مستوى الدول والأفراد، جراء تصاعد أعداد الإصابات بفيروس كورونا.
إذ قامت إيطاليا في 23 مارس بالاستيلاء على شحنة من الكحول الطبية كانت متوجهة إلى تونس، فيما سبق أن استولت جمهورية التشيك على شحنة كمامات قوامها 100 ألف قناع طبي مقدمة من الصين إلى إيطاليا.
واستولت الولايات المتحدة الأمريكية كذلك على شحنة تحمل 200 ألف كمامة كانت متجهة إلى ألمانيا، وسبق وأن اعترضت أمريكا طريق شحنة من أقنعة طبية كان يفترض أن تتوجه إلى فرنسا بعد أن تم شراؤها من الصين، ليقوم أمريكيون بشرائها على مدارج المطارات الصينية قبل إقلاع الطائرات لتسليمها لفرنسا.
وكانت شركة سويدية اتهمت فرنسا بالاستيلاء على 4 ملايين كمامة أرسلتها إلى إيطاليا وإسبانيا. ودخلت تركيا نادي القراصنة، ففي 4 أبريل أوقفت تركيا طائرة تحمل 162 جهاز تنفس اصطناعي كانت في طريقها إلى إسبانيا، قادمة من الصين، كما استولت ألمانيا على 240 ألف كمامة أرسلت من سويسرا إلى النمسا.
ومن المثير للسخرية أن الحكومات باتت تشرع لعملية السرقة والقرصنة التي تتبعها، فقد أصدرت الحكومة الفرنسية قراراً يسمح بمصادرة كل الشحنات الخاصة بالمستلزمات الطبية، فالدولة هنا أصبحت تمارس دور اللص والقرصان، وبقرارات رسمية.
والجدير بالذكر أن الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، كان انتقد التضامن الأوروبي خلال أزمة فيروس كورونا، معتبراً هذا التضامن بأنه «خرافة وكذبة».
فوتشيتش طلب أيضاً المساعدة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، واصفاً إياه بالأخ، متوعداً الاتحاد الأوروبي عقب القضاء على الجائحة، بمراجعة الجدوى من البقاء في الاتحاد الذي تخلى عن صربيا في وقت المحنة.

انتهازية سياسية
«في السياسة لا تشكل الأمور غير المنطقية عقبة»، تلك المقولة لنابليون بونابرت إنما تعكس فلسفة الدول الرأسمالية، فعندما يتعلق الأمر بتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية ضيقة على حساب إلحاق الضرر بأرواح المواطنين، فإن الساسة لا يتوانون في الدفع بعامة الشعب إلى قعر الجحيم، لتحقيق مآربهم.
ففي فرنسا، وقبيل تفشي الوباء، أصر الرئيس والحكومة والأحزاب السياسية على إجراء R03;الانتخابات البلديةR03;، بالرغم من المطالب الشعبية بتأجيلها خوفاً من انتشار الفيروس وسط تجمعات الناخبين. هذا الإجراء إنما يكشف بوضوح أن المسؤولين والأحزاب في فرنسا فضّلوا السعي إلى تحقيق مصالحهم السياسية الضيقة حتى ولو أدّى ذلك إلى التسبب بانتشار وباء كورونا وإلحاق الضرر الكبير بصحة وأرواح الفرنسيين.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد قال ترامب: «لا مانع لدينا أن نخسر الآلاف أو عشرات الألوف من الوفيات بسبب كورونا، لكن الأهم لدينا استمرار العمل والإنتاج»!
أي أن المهم بالنسبة له استمرار عجلة الإنتاج والاقتصاد بالدوران، مهما كانت الأرواح التي تذهب ضحية في سبيل بقاء نمط الإنتاج الرأسمالي.

قمة العشرين لا تكترث
وفي 26 مارس المنصرم، عقدت دول مجموعة العشرين اجتماعاً عبر الفيديو لمواجهة تداعيات تفشي فيروس كورونا عالمياً، وكان من المتوقع أن تصُب كل الجهود لتخصيص أموال ضخمة وزيادة التمويل للقطاعات الصحية، وخصوصاً لدى الدول النامية، للحد من سرعة تفشي الوباء، إلا أن مخاض مجموعة العشرين خرج بتوصيات وقرارات تحث على التنسيق لإنقاذ أسواق المال والبورصة المترنحة، وتحديداً القطاع الصناعي وشركات الطيران المتأثرين بحجم هائل من الخسائر.
تلك هي حقيقة الرأسمالية الشرسة المستعدة لسحق الإنسان تحت عجلة الإنتاج حتى ولو دفع الإنسان حياته ثمناً لذلك، وتلك هي المفاهيم والمبادئ التي اتكأت عليها الكانتونات الرأسمالية والاستعمارية لامتصاص قوة عمل الأفراد من مرحلة الشباب إلى سن التقاعد.
وإلى حين تجلي وانكشاف أزمة تفشي الفيروس في العالم، فعلى الغرب غير الأخلاقي وغير الإنساني ألا يحدثنا عن أهمية نبذ العنصرية والكراهية، والتي يتفوه بنقيضها كل السياسيين الغربيين، وألا يحدثنا أيضاً عن الأخلاق والحضارة المتمحورة حول حقوق الإنسان، وما دون ذلك من مصطلحات مزيفة، استطاع كائن غير مرئي أن يكشف عن سوءاتها وعوارِها ما بين ليلة وضحاها.