علي نعمان المقطري / لا ميديا -
إن الأمم لا تحقق نهضتها إلا عبر الثورة والحرية والاستقلال، فهناك تلازمية حتمية بين الجانبين، وكأن العلاقة بينهما هي علاقة سبب ونتيجة وعلة ومعلول، ولا يظهر أي منهما إلا بالآخر؛ لأن النهضة من طبيعتها لا تحدث حقيقة إلا إذا انطلقت من إرادة مستقلة حرة وبعيدة عن نفوذ الأجنبي، أياً كان، وبما هو أجنبي يصير ممتنعاً عن السماح أو الرضى بفعل النهضة الوطنية؛ لأنها حتماً لا تحقق مصالحه وأغراضه، ولأنها تعني استبعاد كل نفوذ أجنبي مهما تكن نسبته، وهذا يتعارض ويتعارض مع أغراض وأهداف ومطامع الدول الكبرى والإقليمية والمحيطية، فالنهضة تعني خصماً من حسابات جميع دول الاستكبار والهيمنة والرأسمالية العالمية والإمبريالية، ويترجم هذا ماليا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا ووطنيا بخسارتها مئات المليارات من الدولارات كل عام، وتراجع مساحة رقعة السيطرة والاستغلال والسلب والنهب، وخروج أقسام من الأراضي والثروات كانت تحت السيطرة الأجنبية وهيمنتها.

ويحسب ذلك من خلال مراجعة الكشوف الخاصة بالاستيراد والتصدير والإقراض إلى البلاد النامية الباحثة عن النهضة والاستقلال، فالنهضة الاقتصادية مثلا تعني التصنيع الوطني وتراجع استيراد السلع الغربية الصناعية وتوفير العملات الصعبة في البنوك والخزائن الوطنية وتقوية العملات الوطنية واستقرار أسعارها وتخفيف فاتورة الاستيراد وتحسن أحوال الناس في البلد المعني بالنهضة ولو جزئيا؛ ولكن الدول الكبرى والأغنى تستعمر الدول الأفقر وليس العكس، فلا دول مثلها أو أكبر منها تستعمر أبدا دولا أغنى منها فتحقق الغنى والقوة لدولة مكافئة تمتنع عنها إمكانية الإخضاع والهيمنة عليها وتستحيل، وقد جربت تلك المحاولات من الدول الغربية بعد عصر نهضتها وفي عصرها اللاحق، فأدى بها ذلك إلى حروب طويلة مستنزفة لا نهاية لها، وأدت بها إلى الخسائر والإهدار لقواها وطاقاتها، فقد اخترعت لها أسلوبا جديدا للغنى من أقدار الفقراء والمستضعفين من الأمم والشعوب التي مازالت لم تصحُ بعد من نومتها وغفلتها ولم تدرك مكامن قوتها وثرواتها وطاقاتها، ولم تفهم بعد مخاطر الاستعمار الغربي ومصائبه.
وتعلمت دول الغرب أن تبني عصباً وتحالفات لها من بين أعضائها، وأن تقتسم معهم الفوائد التي تجنيها من الشعوب الأخرى الفقيرة في القارات الآسيوية والأفريقية واللاتينية. وقد اعترف جورج بوش الابن بأنه يشن حرباً صليبية على البلاد العربية التي ترفض سياستهم وقيمهم ونفوذهم الاستعماري بوضوح، فهي حرب حياة أو موت، حرب وجود؛ ذلك أن وجود الإمبرياليات الغربية مرهون باستعمارها واحتلالها وهيمنتها على البلاد وأن تبقيها فقيرة محرومة من مقدراتها.
إن الدول الاستعمارية الرأسمالية الغربية قد استنفدت مصادر ثرواتها وخيراتها خلال القرنين الماضيين، ولم تعد قادرة على توفير متطلباتها الحياتية والرفاهية والعيش لشعوبها ولدولها اعتمادا على قدراتها وثرواتها الخاصة الغربية، فأراضي الغرب لم تعد قادرة على إطعام شعوبها منها، وفي المقدمة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها في القارة العجوز، ولذلك قررت الخروج من مصيبتها عبر استعمار القارات البكر المجاورة منذ بداية القرون الخمسة الماضية، وهكذا استعمروا أمريكا اللاتينية والشمالية من قبل البريطانيين والفرنسين والإسبان والبرتغاليين، ثم اتجهوا نحو آسيا وأفريقيا والصين والهند والهند الصينية وغيرها.
ولم يقتصر الاستعمار على الاستعمار العسكري القديم، استعمار القوات البرية والبحرية والجوية القديمة، فقد جاءت أمريكا بأسلوب استعماري جديد يقوم على الاستعمار بالوكالة، وعلى الاستعمار الاقتصادي والثقافي الناعم والسيطرة الناعمة. وأياً كان الأسلوب فجوهر الاستعمار واحد، كما الإمبريالية الأمريكية الجديدة أساليب الاستعمار الداخلي والخارجي معا، والمهم هو أن الاستعمار أصبح لازمة ضرورية لجميع الدول الغربية، لأنها اعتادت أن تستهلك من الموارد الاقتصادية أكثر مما تملكه حقيقة في بلادها واقتصادها ومن قدراتها على الشراء بمواردها وأموالها الفعلية، ولذلك لجأت إلى الاستدانة الهائلة من الموارد المملوكة لدول أخرى، وهي لا تستطيع أن تردها لأصحابها، ولذلك تسوف في الآجال والسداد وتوقع الصكوك والسندات الورقية التي لا تنفع كثيرا عند اشتداد الأزمات العامة لتلك الدول.
لقد عودت شعوبها على الاستهلاك الكبير والرفاهية بأكثر من قدرتهم على الدفع الفعلي، فتلجأ إلى الاستدانة والاستدانة والاستدانة دون توقف من أموال المودعين الآخرين من أصحاب الاقتصادات الريعية البترودولارية ذوي السيولة الوافرة واقتصادات الصين واليابان وألمانيا وإيران وروسيا التي تحقق فائضا ماليا في موازين تجارتها الخارجية مع الغرب، لأنها تفرض تقشفا على شعوبها نسبيا ولا تصرف أكثر من قدرتها على السداد الفعلي.
ومن هنا فإن الدول الغربية مجبورة على مواصلة سياستها الاستعمارية الجديدة بالسيطرة عبر الوكلاء والعملاء والحروب بالوكالة والاستعمار بالوكالة من خلال أنظمة استعمارية إقليمية صاعدة كالسعودية والإمارات وتايوان وأوكرانيا وقطر وأستراليا وكندا، وهكذا بعد أن أضحى التدخل المباشر مكلفا جدا ولا تقوى عليه في ظروفها الراهنة، لذلك نلاحظ صعود النزعة الإمبريالية الإقليمية وتسيدها مشهد الهيمنة في أكثر من بلاد، وتقف الإمبريالية الأم الأمريكية والغربية المركزية من خلفها، وما يجري من عدوان سعودي إماراتي طويل إنما يتم ومن خلفه الحامي الإمبريالي الأمريكي الغربي مباشرة والبريطاني الفرنسي، وأمامهما المرتزقة المحليون والأجانب، وهي ظاهرة تتصاعد في ظل تصاعد أزمة الإمبريالية الغربية ومزيد عجزها وضعفها الاقتصادي والعسكري، وتتحول إلى المقاولات الباطنية من الداخل، فهي ترسم الخطط والاستراتيجيات الاستعمارية وتعد أتباعها الإقليميين الأغنياء للتنفيذ الفعلي على الأرض المستهدفة بأدوات محلية وإقليمية وعالمية مشتركة، بعد أن كانت هي التي تقوم مباشرة في الماضي بالجهد الاستعماري الإقليمي والعالمي، وتحول قواتها النوعية وقياداتها وقدراتها التقنية إلى شركات للتأجير والإعارة بموجب القانون المعمول بهذا الشأن من الحرب العالمية الثانية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرهم، وهي تطوير لآلية الحرب بالوكالة والنيابة وبالمركز الإقليمي الكبير الصاعد الآن في أكثر من إقليم من العالم.

تشارك الهيمنة الإمبريالية بين المركز والأطراف
هو نوع من تشارك الهيمنة الاستعمارية بين المركز الاستعماري القديم وبين المراكز الجديدة التي صعدت ماليا وعسكريا وشوفينيا وجيوسياسيا، والتي خلقها الاستعمار نفسه، مثل السعودية و"إسرائيل" والإمارات ومصر وباكستان وقطر وجنوب أفريقيا وكوريا وجنوب فيتنام في الماضي وشاه إيران وغيره، وكلها أنظمة كيانية وظيفية استعمارية النشأة والعقيدة تابعة وكيلة لمركزها الأوروبي الغربي وامتداد له، وهذه الظاهرة كانت جديدة في السابق، أما اليوم فهي أهم سمة للاستعمار الجديد (الإقليمي والعالمي)، لأنها صارت المخرج الوحيد للاستعمار من أزمته ومن مشاكل سيطرته الدولية التي لم يعد يستطيع فيها ممارسة الدور السابق بنفسه في الأقاليم البعيدة عن مركزه الجيوسياسي الجغرافي الأصلي في الغرب.
ظاهرة تشارك الهيمنة الإمبريالية بين المركز والأطراف أصبحت اليوم أهم سمة للاستعمار الجديد؛ لأنها صارت المخرج الوحيد للاستعمار من أزمته ومن مشاكل سيطرته التي لم يعد يستطيع فيها ممارسة الدور السابق بنفسه في الأقاليم البعيدة عن مركزه الجغرافي، فذلك يكلفه فوق طاقته الآن في عصر ضعفه البنيوي الشامل، ونتيجة ذلك ينتقل إلى تقوية المراكز الإقليمية التابعة له، ويحولها إلى قوى كبرى إقليمية تابعة، ويعهد إليها جبراً بقسم من المهام الاستراتيجية والعسكرية والأمنية، ويوسع من جيوشها المحلية، ويمنحها الزمام لكي تكرس قوتها وسيطرتها وكالة عنه، حيث يحولها إلى استعمارات وإمبرياليات إقليمية ومحلية تؤدي مهامه نيابة عنه.
ويقوم المركز بتأجير الأسلحة والقوات النوعية والأجهزة والتقنيات والمعلومات والخبراء والأقمار الصناعية الفضائية، وتتعهد هي بتوفير الجيوش البرية من المرتزقة المحليين المطلوبين للهيمنة على الأرض والسيطرة على المواقع والممرات والمناطق الغنية بالثروات لاستنزافها وتقاسمها.
ولأن المركز لم يعد قادراً على تحمل أكلاف الحروب الإقليمية فإنه يقوم بتخطيط الحروب، ويترك للأطراف شن الحرب على المناطق التي يطمع في السيطرة على ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية واستعباد شعوبها، وتقوم هي بالدور الإمبريالي الأهم في الميادين. ولكي تبقي البلاد الفقيرة تحت الهيمنة الدائمة فهو لا يسمح لها بالنهوض والتقدم مهما حاولت، ولا يسمح بنقل التقنيات والمعارف والمعلومات والعلوم إلى الشعوب الناهضة النامية، وهو يحارب بكل أسلحته وطاقاته لمنع وصول تلك العوامل والأسباب إليها، ويحاربها بكل الأسلحة والقدرات التي يملكها هو وأحلافه مجتمعين. ولذلك نلاحظ كيف تحشد الولايات المتحدة القوات من عشرات الدول المحالفة لها في العالم كله ضد خروج أي بلد أو دولة واقعة تحت نفوذها عن طوعها ومحاولتها الاستقلال والالتفات ولو قليلا إلى مصالحها القومية ومصالح شعبها.
وقد رأينا عشرات الدول في الحملة ضد العراق وسورية وليبيا وإيران وكوبا وفنزويلا وكوريا والصين وروسيا، وهي الآن تشن حملة عدائية كبيرة ضد بعض حلفائها وعملائها الذين يريدون متابعة مصالح بلدانهم النفطية، فهي تدبر الانقلابات والاغتيالات للشخصيات السياسية التي لا تروق لها سياستها، وتتصرف كلص ورئيس عصابة إجرامية، لا كدولة لها احترامها بين الدول، تتصرف كمجرم بشع لا يتورع عن ارتكاب أي شيء مهما كانت سفالته ضد خصومها، وتنفق مليارات الدولارات على ملاحقتهم والنيل منهم جسدياً ومعنوياً وإعلامياً ونفسياً واقتصادياً وثقافياً، ولا تتوقف، وقد بلغ مجموع محاولاتها لاغتيال الرئيس فيدل كاسترو أكثر من ألف محاولة فاشلة، وهي تعلن صراحة أنها لا تتورع عن أي شيء يمكن أن ينزل الأذى بخصومها من الوطنيين عبر العالم، مهما كلفها ذلك من أموال وموارد وخسائر، فلا يهم شيء مثلما يهمها بلوغ غايتها الحاقدة ضد الذين يتجرؤون ويفكرون بمصالح أممهم وشعوبهم.
وقد سبق لها أن قتلت الكثير من الزعماء الوطنيين، ومنهم الزعيم التشيلي الوطني سلفادور الليندي، والزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، والزعيم الأفريقي الكونغولي باتريس لومومبا، والزعيم البنمي عمر توخوس، واغتالت رئيسها الإصلاحي جون كنيدي، والزعيم الباكستاني ذوالفقار بوتو، كما اغتالت الزعيمة الوطنية الهندية الكبيرة أنديرا غاندي وابنها راجيف غاندي، وهما ابنا الزعيم الوطني للهند جواهر لال نهرو، كما اغتالت الملك فيصل في السبعينيات حين أراد منها تخفيف تعصبها قليلاً لعدوان "إسرائيل" على العرب، كما استهدفت بالاغتيال والحرب السيد حسين بدر الدين الحوثي وزملاءه، كما استهدفت مع عملائها الرئيس الوطني صالح الصماد، وآلاف الوطنيين اليمنيين، وأكثر من نصف مليون يمني سقطوا نتيجة حصارها الجوي والبحري والبري، وغيرهم كثيرون.
وهذا مجرد مثال لمدى البشاعة التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والصهاينة ضد الزعماء والشعوب التي تحاول الخروج عن طوعها واستبدادها وهيمنتها المطلقة. وهي تدبر الانقلابات والحروب ضد كل بلد يفكر في حريته واستقلاله ونهضته. وما تاريخ أمريكا وحلفائها إلا تاريخ من الحروب الوحشية ضد الشعوب والأمم الحرة الأبية التي أبت أن تخضع وتذل للاستعمار الأمريكي الأنجلوسكسوني. وقد دبرت أكثر من مائة انقلاب خلال القرن الماضي والحالي ومازالت. وها هو آخر انقلاب عسكري دبرته ضد أكثر من رئيس وطني منتخب في أمريكا اللاتينية، وآخرها انقلاب في بوليفيا ضد الرئيس الوطني المنتخب العام الماضي، وها هي قبل أيام فقط تدبر انقلاباً عسكرياً يطيح برئيس جمهورية البيرو المنتخب، وقبله دبرت انقلاباً في أوكرانيا ضد الرئيس المنتخب لتسقطه بالوسائل الانقلابية والمال السياسي والتهديدات والاستفزازات الناتوية، وفجرت حرباً أهلية هناك ظلت مشتعلة أكثر من 15 عاما ومازالت مشتعلة، والحرب الأوكرانية الروسية الراهنة مثال حي على أعمالها الإجرامية واستعدادها لتعريض الأمن والسلام الدوليين للخطر من أجل أغراضها التوسعية الأنانية دون تردد.
وهناك الكثير من الأمثلة التي توضح بجلاء استحالة تحقيق النهضة في ظل الهيمنة والتبعية وغياب الاستقلال. وها هي العديد من الحروب التي أشعلتها على ظهر الكوكب وآخرها العدوان على اليمن والحرب الأوكرانية الروسية والحرب في العراق وسورية وليبيا وأفغانستان وأذربيجان وأرمينيا، واستمرار التدخل والتخريب في إيران والعراق ولبنان وسورية وليبيا واليمن وروسيا وتركيا وكازاخستان وتركمانستان وكولوميبا والبرازيل وفنزويلا وكوبا وغيرها من البلدان دون توقف.
وها هي إيران الحرة تتعرض للمؤامرات وإثارة التمردات والتخريب وشن حملات الاغتيالات ضد رجال الدولة وموظفيها وقادتها، وتتعرض المرافق الحكومية للتدمير والاستهداف والتفجير بهدف إثارة نقمة الشعوب ودفعها إلى الاحتراب لمجرد أنها اختارت طريق الاستقلال الوطني والحرية. وتتعرض لبنان وسورية وفنزويلا والصين لحملات مستمرة من التخريب والفتنة والحصار الاقتصادي. ويقف لبنان منذ أشهر عاجزاً عن اختيار رئيس جديد للجمهورية لإبقائه عرضة للانهيارات المتلاحقة اقتصادياً وسياسياً ولمعاقبته على دوره الوطني الاستقلالي واستعصاء شعبه على الخضوع للإملاءات الأمريكية السعودية "الإسرائيلية" للخروج من محيطه العربي ومن قضاياه القومية التحررية ومن احتضانه للمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال "الإسرائيلي" وتفاعله مع قضايا أمته العربية.
والبعض يشير إلى المثال الكوري، ونهوض المنطقة المحتلة من الولايات المتحدة (كوريا الجنوبية) وما تحققه من دخل قومي وناتج محلي سنوي كبير، وهذا مخالف للواقع الحقيقي، فهذا الكيان مقتطع من الدولة الكورية حين احتلته أمريكا في الخمسينيات خلال الحرب الأمريكية التي شنتها ضد كوريا لمنع تحررها ومنع اتحادها واستقلالها، وهي الآن مجرد كيان محتل أمريكياً وغربياً، مثله مثل تايوان بالنسبة للصين، وتحتله قوات أمريكية منذ العدوان الأمريكي في الخمسينيات، ومازالت كوريا الشعبية المستقلة تواصل مطالبها بتحقيق تحريرها وتوحيدها.

راهنت أمريكا على وجودها في الجزء الجنوبي لكوريا، المحتل بقواعدها العسكرية وأساطيلها وأسلحتها النووية، متحدية المجتمع الدولي والقوانين الدولية والإنسانية، وهم يقولون ما تردده الدعايات الغربية والأمريكية الموجهة ضد الجمهورية الكورية الشعبية الحرة المستقلة، وتشير إلى المصاعب الاقتصادية التي تواجهها بسب المؤامرات والتحديات الإمبريالية، وبسبب اتجاهها لحماية استقلالها وحريتها بما توجهه من أموال وإمكانيات نحو البناء الأمني العسكري حتى أضحت اليوم قوة نووية وصاروخية إقليمية كبرى قادرة على منع التدخلات الأمريكية الموجهة ضدها ومواصلة برامجها التنموية الصناعية الزراعية والعلمية والتكنولوجية، إنها تواصل بشكل حثيث نهضتها الشاملة.
البعض مازال يعتقد أنه يمكن إحداث نهضة ولو بسيطة وغير مكتملة في ظل التبعية وغياب الحرية والاستقلال الكامل، ويظن أن بإمكانه التقدم وإحداث إصلاحات تدريجية، رغم غياب الاستقلال الكامل والحرية. وهذه مزاعم لا أساس لها، وقد تحدث جزئياً ومؤقتاً بعض الإصلاحات قبل أن تنتكس الحركة التي انطلقت دون أن تكتمل أركانها وأسسها وشروطها فتظل تصارع المشكلات والمعوقات حتى تسقط تحت معاولها وثقلها، لأنها تكون أضعف قوة وأطرى عوداً في غياب مقوماتها الكاملة، وكأنها تجربة أولية تاريخية تسمح برؤية التحديات الحقيقية الواقعية القائمة في التجربة المستمرة وفي المحاولات التالية؛ ولكنها لا تستطيع الاستمرار ولا تقوى على البقاء والتطور في وجه ما يقف أمامها من عقبات وإشكاليات ومصاعب.

مشكلة المنهجيات الخاطئة لرجال النهضة
ومن أولى المشكلات التي تواجه النهضة هي كيفية طرح المشكلات وتحديدها وجوهرها الاجتماعي التاريخي، وماهيتها وهل نبدؤها جميعاً في وقت واحد أم على مراحل وحقب متعاقبة، وما هي المناهج التي نتبناها لتحقيق النهضة المنشودة في ظل الاستعمار والتبعية والتجزئة؟! وهي إشكالية واجهت العرب والمسلمين واليمنيين منذ القرنين الماضيين، ومازالت إلى الآن ما انفكت تواصل الضغط على الأمة وتضيق خياراتها وأولوياتها. فالرغبة في إحداث النهضة وحدها لا تكفي لإنجاز المهمة بنجاح، بل لا بد من التسلح بمنهجية علمية صحيحة لمعالجة المشكلات التي تطرحها القضية، وأولها: كيفية طرح المشكلة والإجابة على أسئلتها وتحديد الآليات التي عبرها يتم تحقيق الأهداف المرجوة وتحديد أولوياتها.
ومن أسباب انتكاسات النهضة في الماضي اتباع المنهجيات الخاطئة في تحقيق أهدافها واختياراتها. ويتجلى هذا في غياب النظرية الفكرية النهضوية التي تحدد قوى النهضة الاجتماعية الحقيقية ومهام النهضة وآلياتها ومشكلاتها الموضوعية والذاتية.

لا نهضة في ظل الرأسمالية التجارية الطفيلية التابعة للأجنبي
النهضة لا يمكن تحقيقها خبط عشواء، ولا اعتماداً على حسن نوايا القادة وإرادتهم الطيبة، بل هي بحاجة إلى قوى اجتماعية لها مصالحها في تحقيق النهضة والتنمية ولا تتعارض مع اتجاه النهضة والتحرر من الهيمنة والتبعية، والاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي.
فالنهضة العربية والقومية قد ارتكست وانتكست لأنها اعتمدت على حكام وقوى اجتماعية لا مصالح لها في النهضة الوطنية والاستقلال والحرية؛ لأن علاقاتها ومصالحها التجارية والاقتصادية والثقافية تتشابك مع الدول والمجتمعات والشركات والاحتكارات الغربية الاستعمارية، مما يجعلها حتماً حرباً على النهضة الحقيقية، وإن ادعت غير ذلك ورفعت شعارات نهضوية ووطنية؛ ولكنها مازالت غارقة في وحول التبعية والاستعباد الغربي الكامل.
فإمارات النفط وممالكها الذهبية الغنية بالثروة النفطية والمالية مازالت تستورد كل شيء من الغرب ومن الخارج، ولا تصنع حتى مناديل النظافة ودفاتر الكتابة وصابون الغسيل وأحذية الحمام وحقائب المدرسة وملاعق الطعام، وتهدر أموالها على سلع الترف والكماليات التي تستنزف الأموال والثروات دون طائل، بينما يمكنها إنتاجها محلياً بمعامل بسيطة التكوين وتتوفر موادها وخاماتها وعمالها، مما يجعلها في متناول البلد نفسه دون حاجة إلى استيرادها من الخارج؛ ولكن الإشكالية هي أن قوى الحكم تتكون من كبار تجار الاستيراد ووكلاء الشركات الغربية ويحققون أرباحاً طائلة تذهب إلى جيوبهم وحدهم، ولا تستفيد الدولة واقتصادها منهم شيئاً، بل إنها تتعرض لتخريب اقتصادها الوطني وسلعها المنتجة محلياً، مما يؤدي إلى انتكاس التنمية والفقر والتضخم وبعثرة العملات الصعبة القادمة من الخارج مقابل النفط والغاز المصدر والمواد المنتجة وتتراجع نتيجة ذلك النهضة الوطنية.
ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للجمهوريات القومية التحررية المدعاة زوراً عن الرجعيات العربية المزورة، فلا تختلف عن بلاد الممالك والإمارات الرجعية كثيراً في مجال التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب. فالرأسمالية التجارية الطفيلية الليبرالية المتوحشة لا تنتج أبداً أية نهضة أو تنمية، وإن راجت التجارة واتسعت التبادلات مع الخارج، واتسعت نتاجات الضرائب الحكومية وعائداتها، فالمهم هو مقدار ما تدفعه اقتصاديات البلاد من احتياطاتها الاستراتيجية وعملاتها الصعبة ومن ثرواتها الداخلية لمواجهة متطلبات التجارة الخارجية الاستيرادية الاستهلاكية الكمالية، ومثال على ذلك أن كل ما تدخله البلاد من عملات صعبة يصل إلى مئات المليارات من الدولارات تعود من الباب الآخر لمواجهة فاتورة استيراد البضائع الاستهلاكية الكمالية الترفية الأجنبية التي لا ضرورة لها ولا فائدة، فأغلبية الشعب لا يحتاجها ولا يطلبها أصلاً ولا يملك الأموال الكافية لشرائها، وإنما هي أقلية مترفة عابثة في الحكم والمجتمع تسيطر على مفاتيح الاقتصاد الوطني ومقدراته وحكومته وإدارته وتسيّر الاقتصاد وفقاً لمصالحها وأهوائها ومصالح الشركات الأجنبية الغربية وأهوائها وأطماعها، وهي متناقضة حتماً مع مصالح الاقتصاد الوطني، فهي أولاً تعمل وكيلة حصرية له ولاحتكاراته العملاقة، ويتعاون الجانبان الداخلي والخارجي أو الاستعمار الخارجي والداخلي الاقتصادي الذي لا يرى بالعين المباشرة، لأنه يغلف خلف الشعارات والدعايات الديماغوجية عن التقدم والتطور والنهضة الكاذبة التي لا وجود لها.

ذهب أهل التطبيع مع الصهيوني بعيداً جداً، حيث تحولوا إلى وكلاء للشركات الصهيونية التجارية التي تنهب الثروات القومية وتهرب العملات الصعبة وتضخ المخدرات والحشيش والأفيون والكوكايين والهيروين والكبتاجون إلى الأسواق العربية وإلى البيوت والأسر العربية المسلمة وإلى الجامعات ومراكز الشباب وأولاد النعمة، ويدعون النهضة والتنمية وهم بعيدون عنها.
وبعد خمسين عاماً من انقلابات وثورات النهضة القومية العربية التحررية فلا تحرر ولا نهضة ولا استقلال، وأولهم مصر، أرض الكنانة العربية، فأين النهضة منها وهي مثقلة بالديون وشحة رغيف الخبز لمواطنيها في أوجها، والمعاهدات الاستعمارية تقيدها لصالح العدو الصهيوني؟! وأين استقلالها؟! وأين استقلال سيناء، وأجزائها وجزرها وممراتها وخلجانها معروضة للبيع، وتكبلها معاهدات معسكر العار (الداوودي) وسلامه المخزي؟! أين صناعتها؟! وأين إنتاجها الوطني؟! أين زراعتها؟! وأين خبزها ودقيقها، وهي كانت تفيض بالخيرات والنعم، بل كانت مصر هي سلة قمح الإمبراطورية الرومانية لقرون طويلة وإلى عهد قريب؟! ومثلها الجزائر العربية القومية التحررية الشعبية النفطية الزراعية، وكل ما تدخله اليوم من أموال ضخمة من عائدات النفط والغاز تعود إلى جيوب الشركات الفرنسية والأمريكية الغربية على شكل استيراد سلع وبضائع أجنبية لا ضرورة لها ويمكن تدبيرها وإنتاجها في الداخل الوطني ولا حاجة إلى استيرادها من الخارج.
ولا يجب أن يفهم هذ الكلام بأنه رفض للرأسمالية الإنتاجية الوطنية الزراعية الصناعية المستقلة ودورها النهضوي، وإنما رفض لدور الرأسمالية الطفيلية التابعة للأجنبي، المعادية للنهضة الوطنية والإنتاج المحلي والصناعة والزراعة الوطنيتين، رفض لسيطرتها وتحكمها في المجتمع والبلاد كلها؛ لأنها لا تملك إلا طريق الشيطان والخراب والطغيان والاستغلال والفساد والفقر والديون والعبث والأزمات والانهيارات الاقتصادية... فما الذي أنتجته الحكومات السابقة غير الديون والخراب والفقر وبيع الأوطان والأراضي والأعراض والتخلف والمزيد من الضياع والجهل؟!
لا يمكن لأمة أن تنهض بذاتها قبل أن تتسلح بالمعارف الفكرية والعقلية. وكان الحكام قد منعوا تدريس العلوم العقلية والفكرية في المدارس والجامعات، وفي المجتمع بشكل عام، وكانوا يرمون بالزندقة كل تواق إلى الفكر والفلسفة والعلوم العقلية والحكمة؛ لأنهم يخشون انفضاح حقيقة أفعالهم وسياستهم، وجردوا التعليم من كل جوهره الحقيقي التنويري.

الاستعمار والنهضة
النهضة القومية والوطنية المقصودة هي نهضة بلاد مقهورة بالاستعمار والتبعية والفقر والتأخر والاستبداد والطبقية والاستئثار والحرمان. فلو تصورنا بلدا مستعمرا مقهورا غير مستقل؛ كيف نحقق نهضته؟ ومن أين نبدأ؟ وهل نأخذ جميع المشكلات في الوقت الواحد نفسه أم نبدأ بقضايا الأساس والرئيسي من المشكلات التي يتوقف عليها حل بقية القضايا في المستقبل؟

القضايا الأساسية والأولية
إن أولى القضايا هي التخلص من الاستعمار والتبعية والهيمنة الأجنبية والاستبداد والاستعباد، فهل يمكن تحقيق النهضة العامة في ظل الاستعمار والاستبداد الأجنبي وحليفه الداخلي؟!
طبعا، لا يمكن تحقيق ذلك، ولا أدنى ولا أقل منه إطلاقا.
لقد عاشت بلادنا تحت الاحتلال التركي قرابة 200 عام، كما رزحت تحت الاحتلال الأوروبي الغربي 130 عاما، وفي ظل التبعية الجديدة لنصف قرن في الجمهورية، ومازلنا تحت الاحتلال والحصار والسيطرة الأجنبية لقسم كبير من بلادنا. ورغم الحملات الكبيرة للتعليم والإصلاحات والبنية التحتية التي تمت عفوياً بفعل نشاط الشعب نفسه، فإن النهضة لم تتحقق بعد، وما يزال يفصلنا عنها الكثير من الزمن والإنجازات والمهام، وأولاها إنجاز التحرر الوطني وإعادة الوحدة اليمانية لأرض اليمن التاريخي، وهي القضايا التاريخية التي عبرت عنها الحركة الوطنية الشريفة بأسماء وأشكال عديدة مختلفة.
كانت هناك محاولات نهضوية نامية بسيطة كلها تعرضت للتدمير والانقلاب والتخريب من قبل القوى المهيمنة والطامعة والمسيطرة، فلم يتبقَّ منها شيء سوى الذكريات المريرة والدامية وبعض الأفراح الغامضة التي نجترها اجترارا كلما تذكرناها. فأي مجال يجب الإشارة إليه يمكننا معرفة وضعنا في مقابل الدول الأخرى في العالم، بما فيها الأقل تقدما والأكثر فقرا، نجدها تتخطانا من حيث مؤشرات التنمية والاقتصاد والتصنيع والإنتاج والتعليم والثقافة والتأهيل والبنية تحتية والكهرباء والمياه والسكن والطرقات والسكك الحديدية والجسور والمعادن والتنجيم والتنقيب والمعيشة والصحة والتربية...

لا نهضة في ظل التبعية الأجنبية
العقبة الرئيسية الأولى للنهضة هي التبعية الخارجية والهيمنة الأجنبية على القرار الوطني ونهب الثروات والاستيلاء على الأراضي والحقوق. والأمر لا يحتاج إلى إثباتات وبراهين جديدة لكي يقتنع الناس؛ لأن الأمر واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار. وعليه فإن قضية التحرر الوطني الكامل تتقدم على أي قضية أخرى، وإن جاورتها وسايرتها في ظروف معينة. وقد كشفت التجارب السابقة لبلادنا والعالم من حولنا أن من المستحيل تحقيق أية نهضة في ظل الاستعمار والهيمنة الأجنبية مهما عملت من بهارج وألوان على وجودها لتزويقه وتلميعه وإظهاره بمظهر مقبول للعامة، فالحقيقة لا يمكن إخفاؤها دوما، فقد ظل الكتاب الرسميون في أكثر من بلد يتحدثون عن الإنجازات التي تمت في البلاد العربية الواقعة تحت الهيمنة الأجنبية؛ لكنها سرعان ما انهارت تلك الأقاويل والادعاءات والبهارج تحت ضوء الشمس الساطعة.
وقد قدم الاستعمار نماذج للتنمية في ظل السيطرة الأجنبية يريد بها إثبات أنه يمكن تحقيق النهضة في ظل الوجود الأجنبي. وكانت تجارب مجوفة من داخلها. ومن هذه النماذج المشوهة كانت كوريا المحتلة، وتايوان التابعة، وهونج كونج ومصر الساداتية الفاقدة لاستقلالها، والسعودية والدويلات الخليجية الملحقة بالإمبريالية الأمريكية الصهيونية، وجمهوريات الموز اللاتينية... وهي أقاليم غنية جدا من حيث ثرواتها الباطنية والظاهرية؛ ولكن تلك التجارب انهارت تحت ثقل الديون الخارجية والقروض الضخمة التي تقيدها إلى الأبد.
كانت البرازيل وفنزويلا وكولومبيا من النماذج المثيرة في تلك التجربة المزيفة للتنمية. وها هي البرازيل تنهار تحت عبء الديون والإفلاس. وها هي فنزويلا قبل الثورة البوليفارية الجديدة تصل إلى الإفلاس، وأيضاً كولومبيا. ومصر نعرف إلى أين وصلت في تنميتها التابعة الصورية العاجزة عن إشباع مواطنيها الخبز الجاف، إذ يعيش الملايين من سكانها داخل المدن في المقابر، حيث لا يستطيع الفرد العادي توفير إيجار شقة بسيطة ليتزوج ويعيش فيها، رغم أنه يشتغل؛ ولكن الأسعار نار في كل شيء، والبلاد مازالت رغم تبدل الرؤساء إلا أن النهج ما يزال واحدا، وهو التبعية للأمريكيين والخارج، والبحث عن المزيد من القروض، ورهن السيادة الوطنية لدى البنوك الأجنبية، ومازالت سيناء بدون سيادة مصرية حقيقية عليها حتى الآن، وقد بلغت الديون الخارجية أرقاما فلكية تجاوزت في العام 2021 مبلغ 137 مليار دولار، حسب تقرير البنك المركزي المصري للديون الخارجية فقط، ولا يشمل الدين الداخلي وبالجنيه المصري، حيث يبلغ الدين الداخلي 2 تريليون جنيه، أي أن الدين الداخلي يساوي 50 مليار دولار، بينما الدخل العام السنوي يساوي 50 مليار دولار فقط، فكيف يستطيع اقتصاد أن يستمر في دفع الفوائد السنوية البالغة نسبة العشرة في المائة على الأقل؟!
طبعاً، لا يستطيع، حيث ترتفع أصول الديون، ويدخل الاقتصاد دائرة جنونية من الأزمات. فكل الدخل لا يمكّنه من دفع الأقساط السنوية المترتبة عليه. وليس هناك دولة في العالم وقعت في هذه الدائرة واستطاعت أن تفي بأقساط الدين وفوائده. فقد انهارت أغلب الدول الكبيرة الديون تحت عبء الأقساط والفوائد والربا. ولو راجعنا حركة الدين العالمية نجد أنها أزمة كبرى تعم العالم الرأسمالي كافة. فقد أعلن البنك الدولي أن حجم الديون الخارجية للدول المستدينة بلغ 430 تريليون دولار العام الماضي 2021، وفي المقدمة تأتي الدول الكبرى نفسها: الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ دينها الخارجي والداخلي 70 تريليون دولار، وهو دين يبلغ نسبته 300% من الدخل السنوي العام للبلاد. وهي أزمة كارثية أن تتجاوز نسبة الديون حجم الدخل القومي السنوي للبلاد بثلاثة أضعاف. وهي ديون لا يمكن دفعها حقيقة، فتقود إلى انهيار اقتصادي دولي حتمي.
إن مصر اليوم تعيش على حساب سيادتها واستقلالها، للأسف، وعلى صدقات الدول الاستعمارية الكبرى، وهو اقتصاد معلق بالهواء، ولا يستند إلى أساس حقيقي وفعلي. ومثلها الكثير من البلدان. وتعد اليونان مثالاً سيئاً للدول الصغيرة المدينة، وبلغت مديونيتها أكثر من 300 مليار دولار. ومثلها ماليزيا، التي كانت تضرب بها الأمثال، وها هي الآن تكابد الديون والأزمات بعد أن وقعت في سلاسل التبعية للاقتصادات الأجنبية والمصارف الغربية والربا الشامل. ومثلها السودان وباكستان وإندونيسيا... وغيرها. إنها قضية التنمية في ظل التبعية بدون الاستقلال والحرية والسيادة.
ولماذا نذهب بعيدا في ضرب الأمثال وننسى ما رأيناه في بلادنا خلال الفترة الماضية في ظل النظام السابق من أضاليل عن النهضة الاقتصادية الزائفة رغم إنتاجنا النفط وتوفر الثروة الوطنية بأيدي الحاكمين، ومع ذلك فقد أغرقنا بالديون والبطالة والفقر والعبث المالي والإداري والاحتلال وفقدان السيادة الوطنية.
أما الهند، هذا العملاق السكاني الكبير الذي ينافس الصين من حيث عدد السكان، ففي مأساة إنسانية هائلة في حقيقته وحقيقة اقتصاده ومن يخدم من الناس وأي الطبقات... عدد الفقراء فيه تبلغ مئات الملايين، وهو في ارتفاع دائم، ويقدم صورة مأساوية حقيقية نشاهدها في أفلامهم وفي تقاريرهم الاقتصادية المريعة. بينما يحتكر الثروة المالية أقلية من السكان لا يصلون إلى نصف الواحد في المائة، يعيش مئات الملايين من السكان في ظل الإفقار الشديد والبؤس. وبالنظر لموازناتهم السنوية نلاحظ أن الأغلب منها يذهب إلى شراء الأسلحة كل عام من الغرب ومن الشرق ومن كل مكان، فهي أكبر بلد مستورد للأسلحة من الخارج. لماذا توجه أموال الشعب الفقير إلى تلك الأغراض والاتجاهات؟!
إنه الاستعمار الغربي المسيطر على قرارات حكوماتهم المتعاقبة، الذي يريد الهند ملحقة بالمصالح الغربية، ويجد من يعينه من الهنود أنفسهم على تلك السياسة القائمة على استفزاز الصين والباكستان دون سبب معقول سوى التحريض الغربي الذي يعدهم بالمساعدات والقروض والتبعية والدعم الوهمي، لكي تبقى المنطقة تحت هيمنته، فيثير لهم المشاكل باستمرار من خلال النفوذ الذي يملكه بينهم وفي بلادهم عبر حكامهم وطبقاتهم الثرية المستغلة التي تحتمي به من غضبة شعبها الفقير الجائع، وتبقيه تحت السيطرة بالأوهام والتضليل والأساطير والدعايات والإعلام والثقافة الخرافية والعاطفية السينمائية.
لقد استقلت الهند قبل أعوام من انتصار الثورة الصينية، ومع ذلك أين بلغت الصين وأين بقيت الهند؟ مازالت تزحف متخلفة عن ركب العالم، رغم سعة اقتصادها وثرواتها. ما الفارق بين النهضتين؟
إنه الاستقلال الحقيقي للصين، بينما بقيت الهند عالقة في سلاسل التبعية للمثال الغربي الإنجليزي، علما أن حجم الأموال التي جناها الاستعمار من الهند -حسب دراسات أجريت من قبل باحثين من جامعات أمريكية- بلغ 62 تريليون استرليني خلال فترة استعمار بريطانيا العسكري للهند.
وكانت الصين أكثر تخلفاً وفقراً بما لا يقاس عن الهند، حين بدأت نهضتها الثورية اعتماداً على نفسها وكرامتها، ورفضها أي مساعدات من الخارج، بعد أن عرفت مرارتها في بداية نهضتها، فاتخذت قراراً حازماً حرمت على نفسها الاعتماد على الغير، أكان صديقاً وقريباً أو خصماً، لا فرق عندها، كله اعتماد على الغير، كما حرمت على نفسها الديون إلا في أضيق الحالات والضرورات. وتعتبر الصين نموذجاً كبيراً للنهضة والتقدم والتنمية المستقلة السيدة على ذاتها وأرضها ومصيرها. فأين منها ألمانيا أو اليابان أو الولايات المتحدة وقد كانت في آخر القائمة؟ وكذلك إيران، فهي مثال للتنمية والنهضة المستقلة، ومازالت في بداية الطريق، بسبب الحصارات الغربية المضروبة عليها.