«لا» 21 السياسي -
لقد مرّت السيطرة على النظام الغذائي العالمي بعدّة مراحل. 
فحتى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أخذ تدفُّق الغذاء غالباً اتجاه جنوب - شمال. 
وبحسب الدكتور إيريك هولت - غيمينيز (Holt -Gimenez, 2010) كانت دول الجنوب تُطعم دول الشمال وتُصدِّر لها الحبوب خاصة، بأسعار تنافسية.
«امتدّ أوّل نظام غذائي حتى فترة الكساد الكبير (1930)، وقد ربط الواردات الغذائية من الجنوب والمستعمرات الأمريكية في اتجاه التوسُّع الصناعي الأوروبي» (Holt-Gimenez, 2010).
وقال إيكارت ورتز (Woertz, 2014) في مقاله «تاريخ النُّظُم الغذائية والشرق الأوسط»، إنه «بعد الكساد الكبير، ظهر النظام الغذائي الثاني بعد الحرب العالمية الثانية. كانت الزراعة المدعومة في البلدان الصناعية والتخلُّص من الفائض في اتجاه العالم النامي في صميمه». عكس «النظام الغذائي الثاني، تدفُّق الطعام من الشمال إلى الجنوب، لتغذية صناعة الحرب الباردة في العالم الثالث»، و»سيطر إصلاحيو الرأسمالية (Reformists) على نظام الغذاء العالمي من مرحلة الكساد الكبير في الثلاثينيات، إلى حين بشّر رونالد ريغان ومارغريت تاتشر بالعولمة النيوليبرالية في الثمانينيات، والتي تميّزت بتحرير الأسواق، والخصخصة، ونمو واحتكار الشركات أحادية القوّة لنظم الغذاء حول العالم» (Holt-Gimenez, 2010).
لقد قام النظام الغذائي الثاني على أساس برامج دعْم الزراعة، وتشجيع التصنيع الغذائي، وقوانين حماية الإنتاج خلف الرسوم بطريقة لا يمكن اختراقها، إلّا من خلال البرامج العامة للمساعدات أو المنح الغذائية. نجح هذا النظام في تداول المنتجات الزراعية تحت مسمّى منح، لا سلع، تُنقل عبر آلية «مدفوعات مقابلة» من الدول المتلقّية في البنوك المحلية تُستعمل وفقاً لتقديرات المستشارين الأمريكيين المحليين (Friedman, 2005).
أطلقت هارييت فريدمان على النظام الغذائي ما بعد الحرب العالمية الثانية تسمية «نمط الغذاء الصناعي - التجاري»، لتأكيد أسس التصنيع الغذائي وحماية الدولة. تضمّنت هذه الحماية دعْم الصادرات الزراعية كميزة أدّت إلى تحوُّل الولايات المتحدة إلى «المصدّر المهيمن»، والمستعمرات ودول العالم الثالث إلى مستوردة للغذاء بعدما كانت مكتفية غذائيّاً، وأوروبا إلى منطقة مكتفية ذاتيّاً ومنطقة تصدير رئيسة (Friedman, 2005).
مع بداية الستينيات من القرن الماضي، دخل النظام الغذائي العالمي مرحلة «خصخصة الزراعة، التي أعطت الأولوية للأرباح الزراعية للشركات الكبرى على الناس والكوكب» (Walton, 2022). أبرز مثال على ذلك هو ما يسمّى «الثورة الخضراء». عندما تعاونت الهند مع «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» ومؤسسة «فورد»، اعتمدت زراعتها على الكيميائيات الزراعية والتربية المكثّفة للنباتات. «هذا التحوّل نحو الزراعة الكبيرة والزراعة الأحادية الأكثر ربحية، جعل صغار المزارعين أكثر اعتماداً على الأسمدة الكيميائية الباهظة الثمن، ما أجبرهم على الدخول في مستويات متزايدة من الديون» (Walton, 2022).
في ما يتعلّق بفائض الإنتاج، تشير جينيفر إيديس (Eddis, 2014) إلى أن المساعدات الغذائية كانت الطريقة المناسبة للبلدان المانحة للتخلُّص من فائض إنتاجها الزراعي، ولاحقاً تكريس التبعية الغذائية لها. وأعطت مثالاً لتأكيد ذلك، بياناً للسياسي الأمريكي هوبير هامفري، عام 1957، صرّح فيه، في مجرى تأكيده أهمية المساعدات الغذائية الأمريكية واصفاً إياها بـ»الأخبار الجيّدة»: «إذا كُنتَ تبحث عن طريقة لجعل الناس يعتمدون عليك وتابعين لك، من خلال تعاونهم معك، يبدو لي أن الاعتماد على الغذاء سيكون رائعاً».
بدأت ملامح النظام الغذائي الثالث تتظهّر مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين. عمّق هذا النظام عملية التصنيع الغذائي التجاري وعولمها عبر ربط الشركات المحلية بالشركات عبر القارية. «دمج النظام الجديد مناطق جديدة في سلاسل البروتين الحيواني مثل الصين والبرازيل، وعزّز سلاسل التوريد المتباينة مثل ثورة السوبرماركت للمستهلكين المتميّزين للفواكه والخضار الطازجة والأسماك، وولّد كتلة بشرية من النازحين نحو الأحياء الفقيرة بعد مغادرة صغار المزارعين أراضيهم» (McMichael, 2009).

 في ظل النظام الغذائي الأول أرسل الإمام يحيى سفينة حبوب كمساعدة للشعب الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، وفي ظل وضلال الأنظمة الغذائية اللاحقة صارت معونات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) إلى صناديق ذخيرة وأكياس رصاص.

«بدائل النظام العالمي المسيطِر: الغذاء نموذجاً»، فايز عراجي، نقلاً عن «الأخبار» اللبنانية - بتصرف.