علي نعمـان المقطـري / لا ميديا -

من يقود النهضة؟
ليس كل من يقود النهضة أو يحاول قيادتها قادرا على الفوز فيها وتحقيق أهدافها ومشروعاتها دوما فهي -أي النهضة- ليست مجرد مشروعات مادية بحتة وأرقام لزيادة الدخول المالية لخزينة الحكومة، بل هي أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.
وإذا كان لا يدرك نظريا ولا عقليا طبيعة المهام الوطنية الكبيرة وتحديدها نظريا وعلميا وسلفا قبل الشروع بأي مشروعات عملية فهو يهدر الوقت والجهد والموارد القومية للأمة، لأن قضية النهضة قضية كبيرة متشابكة تتلاقى فيها الأبعاد والجوانب الوطنية والدولية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية والعقيدية والتاريخية والشخصية والجماعية وتنصهر في بوتقة واحدة لتنتج ذلك المزيج الكبير المسمى النهضة.

النهضة والقيادات المأزومة
وقد ابتلينا في أمتنا العربية والإسلامية بقيادات من هذا القبيل ومازلنا نعاني منها ومن آثارها وعقلياتها من كل الاتجاهات المأزومة من اليمين والوسط واليسار من التقليديين والتحديثيين الليبراليين من المعاصرين والمتخلفين والقدامى، وكلها للأسف ظلت تنظر إلى النهضة بأنها مجرد أرقام وحسابات وأموال في أحسن الأحوال، وهي ليست كذلك، أي أنها لا تدرك طبيعة المعركة التي تخوضها ولا من هم الأعداء ولا من هم الأصدقاء في الداخل والخارج، وبلغة العصر نقول إنهم كانوا ومازالوا يفتقرون للاستراتيجيات الصحيحة أو إلى الفكر الاستراتيجي الشامل الذي يستوعب قضايا النهضة بشموليتها.
وأول قاعدة في أي حرب أو معركة هي معرفة تامة بطبيعة الحرب والمعركة وتحديدها وتعريفها بدقة بتحديد ماهيتها وتعريفها من جميع جوانبها. إن هذا التحديد هو الشرط الأولي لفهم وإدراك ماهية الحرب أو التحدي الذي يواجهك وحجمه وأبعاده وجذوره وقواه واتجاهاته، وكانت هذه المهمة الأولية تأتي فوق مستوى عقليات القيادات الحاكمة أو المسيطرة، وهي أنواع عديدة غير متماثلة.

القيادات ألوان
يمكن أن نبرز نماذج من القيادات المأزومة التي ابتلينا بها ومازلنا نبتلى بها وكلها قادت النهضة إلى مصير بائس مأساوي لا يكرس سوى المزيد من التخلف والضياع والفساد والاستبداد والتبعية والقهر والظلام والظلم وتبديد الثروات والطاقات والعبث وتنكب طريق التطور والتقدم والاستقلال طريق التلاحم بالحرية والثورة والكفاح الشامل وغير منفصل عنها.
1. قيادات تقليدية وطنية تخلفت عن التاريخ: أي أنها من خارج العصر الراهن بعقلياتها وثقافتها وفكرها ومعلوماتها وتعليمها وخبراتها ومعارفها، وهي متجمدة منعزلة عن مجريات التاريخ ومكتفية بما كسبته من معارف تقليدية قديمة تعود إلى القرون الماضية وتعتقد أنها قادرة على معالجة مشاكل العصر الذي لا تحياه في وعيها أصلا ولا تحس به وتستغرب من مشكلاته المعقدة وتقف عاجزة عن مواجهته واستباقه بخطوات واعية نحو المستقبل، وهي عاجزة عن رؤية المستقبل بعين معاصرة حديثة موضوعية.
وفي المثال اليمني فإن القيادات الوطنية قد أنجزت مهمة التحرر الوطني السياسي بنجاح كبير وحققت الاستقلال السياسي للقسم الرئيسي من البلاد لكنها وقفت عاجزة عن استكمال التحرر الوطني للجنوب اليمني وعجزت عن تحرير القسم الشمالي المحتل عسير ونجران وجيزان، كما أنها وقفت حائرة أمام قضايا النهضة الاجتماعية الاقتصادية ولا شك أنها كانت حسنة النوايا وتفتقر إلى الموارد المالية المطلوبة، ولكنها في الوقت نفسه كانت تفكر بطريقة متخلفة عن العصر فلم تفهم معاني نداء الشعب وأنينه من آثار الجوع والحاجة والفاقة الاقتصادية ومنجزات العصر العلمية وحاجاته إلى مواكبة العصر ومطالبه الضرورية في حدها الأدنى، فقد ظل الشعب يشكو ويئن لأسباب حقيقية من قسوة الموظفين والحكام والمسؤولين الذين يتم تعيينهم في الأقاليم والمحافظات والألوية ولا هم لهم سوى جمع الأموال منهم إلى جيوب الموظفين والمسؤولين والقضاة والشيوخ والنافذين، كان الشعب بحاجة إلى تحسين حياته ومعيشته الضرورية في مجال الطرقات والصحة والتعليم والاقتصاد والبنية التحتية والكهرباء والثقافة.
نعم، الدخل الحكومي قليل، ولكن الدولة لم تفتش بعد عن مخزونات البلاد من الثروات الطبيعية المتنوعة المتوفرة حتما ولا تحتاج إلى كثير نفقات ومعاناة كالبترول والذهب والغاز والفضة والنحاس والملح وكلها متوفرة، فنحن جزء من تركيبة الجزيرة العربية الجيولوجية، ما الذي يمنع ذلك؟
إنها العقلية التقليدية المغرقة بالأوهام والمخاوف من الأجانب، والعجز عن مواجهتهم والانغلاق عن الكفاءات الوطنية المحلية المتوفرة والمهاجرة.
إن مصيبة تلك الحكومات والقيادات كانت في أنها تخاف الشعب وتنظر بعين الريبة إليه فلا تثق به وتحصر اهتمامها على نخبة ضيقة من الناس تشركهم في قراراتها العامة وحدهم وهم أبعد ما يكونون عن عامة الناس وعن الشعب ومعاناته، بل هم سبب معاناته فعلا، فهل هذا خلل عقلي أم منهجي أم فكري؟ إنه كل هذا، وهذا ما يؤدي إلى افتراق الطريق بين الحاكم والناس والشعب وهذا ما يفتح الأبواب أمام تدخلات الأجانب ووكلائهم ومؤامراتهم وفقدان المصداقية أمام الشعب الذي صارت تستهويه دعوات الأجانب ووكلائهم والمضللين منهم لأنه لم يجد من دعوة الحاكم ما يثبتها في الواقع.
وعندما نسمع الشاعر البردوني يقول في قصائده مطلع الخمسينيات: 
"أخي إن أضاءت قصور الأمير
فقل تلك أكبادنا تضرمُ
(وحكومتنا) أشرف أشرافها سارق
وأنبلهم قاتل مجرمُ"
وهو يشير إلى الفوارق المعيشية الطبقية بين أقلية من الأمراء المالكين من البيت الحاكم ممن أمكنهم أن يشتروا الموتورات الكهربائية وأضاؤوا قصورهم بالنور اللامع الحديث وكسروا ليالي البؤس والحزن والملل المسيطرة على بيوت الفقراء وتزداد بؤسا كلما رأوا هذا الضوء في بيوت الأمراء فهو يشير إلى غياب العدل في توزيع الثروات الوطنية ويضخم مشاعر السخط في نفوس العامة، ويقسم الشعب الواحد إلى شعوب وطبقات متعادية متحاسدة تنذر بمعارك مستقبلية بين الأمة الواحدة، فهو صوت شعبي صادق وطني لا شك في وطنيته ولا يعبر إلا عن معاناته ومعاناة مواطنيه وشعبه أصدق تعبير.

لقد استشهد أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعلي بن أبي طالب والحسين والحسن وجميع الثوار في الإسلام من أجل تلك القضايا الكبرى ولم يقاتلوا الباطل من أجل دنيا أو حكم أو مجرد وراثة أو ملك شخصي أو عائلي إنما من أجل أن يقوم دين محمد في الأرض كما أراده الخالق وتكبر هذه القضية عندما يكون الحاكم منطلقا من مبادئ الإسلام والنبوة والعترة الكريمة المطهرة الشريفة وينتمي إليها، وهنا تتضاعف المصيبة على الأمة.

ما حدث عندنا وفي بلادنا وحولنا، أن الجميع يدعي الحكم باسم الإسلام والشعوب تسمع وترى وتحكم من خلال تجاربها هي وانطباعاتها ومعاناتها اليومية وتقيم على طريقتها وتصيب وتخطئ، حكامنا المسلمون الوطنيون استلموا السلطة بعد ثورة تحررية طويلة عظيمة ظافرة ضد الاستعمار التركي وأصبحوا سادة البلاد وأصحاب القرار والكلمة والسياسة، فلماذا أضاعت العقود والسنوات دون نهوض؟
كان الحكم مطلقا فلا برلمان ولا مشاركة سياسية ولا أي قيود على القرارات السيادية ولا فترة زمنية تقيد الحاكم ولا أي قيود، فلماذا ضاعت أمام الحكم والشعب تلك السنوات والجهود وتحولت إلى مشكلة داخلية استنفدت طاقات وقوى البلاد والمجتمع؟
إذا راجعنا الإجابات الصادرة عن الحكام خلال العقود تلك سنجدها في منتهى الغرابة والعجب، فهم ينكرون أصلا وجود المشكلات والمطالب تلك وأحقية الشعب بها مادام هو راضيا وساكتا، ولكنه غير ساكت ولن يستمر في السكوت والصمت إلى الأبد، وأحيانا نجدهم يستعينون بالدين بطريقة خرافية ليقنعوا العامة بالقبول بما يصيبهم فهو قدر من الله وامتحان، فلماذا يمتحنون بكل هذا المقدار من البؤس والشقاء والظلم، أليسوا عباده ومخلوقاته وأحباءه؟ إنهم يمكن أن يمتحنوا بالأشياء التي لا علاج لها ولا قدرة بشرية على تجاوزها، هذا ممكن وبعد أن تكون حقوقهم أعطيت لهم، أما قبل هذا فلا وألف لا، وهو واضح في ذلك في قوله تعالى في كتابه الكريم بما معناه أنه لا يظلم الناس مقدار شعرة، وما هو بظلام للناس ولو بمقدار خردل. وهو فهم سلفي متخلف وخرافي وتوظيف سياسي سطحي للدين ولا يصلح للعصر الراهن، عصر صناعة كل شيء وإدراك وفهم كل شيء في العالم المادي وتعلم كل شيء، وانتقال العلم والمعلومة والأخبار بسرعة البرق والضوء والشعاع، فلا يمكن إخفاء شيء على الناس، والشعوب تعلم أكثر من حكوماتها، ولا يمكن تفسير شيء من الظواهر خارج إطار ما هو معروف في العلوم الطبيعية والحيوية، وهو عصر لا يقبل العقل فيه تفسير العوامل المرضية والحيوية بالإعادة إلى إرادة واختبارات من الخالق وما هي منها أصلا ولن تكون، كان هذا في العصور الماضية البعيدة الظلامية في أوروبا بهدف إرهاب الشعوب والأشخاص الأحرار، وقد أصبحت مصدرا للاستفزاز عندما يسمعها الناس في العصر الحديث، فهل كان الحاكم آنذاك يؤمن بها أم يستخدمها مجرد تبرير وتخلص من المأزق المباشر؟
وفي الحالين هو في أزمة حقيقية، وهي تكشف لنا الكثير عن العصر وعن الحكام وعقلياتهم وسياقهم التاريخي الذي ظلوا يعيشون فيه خارج العصر والتاريخ العام للبشرية والإنسانية، كما تكشف عن طبيعة المصالح الاجتماعية التي ينتمون إليها في مجتمعاتهم وشعبهم، وإلى أي أمة ينتمون، من أمة المترفين أم من المحرومين الفقراء والكادحين، وكثيرا ما تغضب هذه المقولات الاجتماعية الواقعية كثيرا من الوطنيين الأثرياء، لكن هذا لا يهم فكل يعبر عن مجتمعيته الخاصة في النهاية، ومهمة الحاكم أن يقف موقفا عادلا بين الحدين لا أن يذوب في حياة الأقلية الغنية وينسى الأغلبية المحرومة المظلومة وحياتها وينتظر منها أن تصبر، وكيف تصبر وأمامها تكبر الفوارق بين الطبقات كل يوم، ومهمة الحاكم المسلم هي أن يذيب تلك الفوارق بين الطبقتين بالإجراءات الاجتماعية والسياسات الضريبية والتأميمات عند الضرورة، فالقرآن كتاب الله صريح في ذلك، فهو ضد كنز الذهب والفضة والاحتكار والربا واحتكار المال بين الأغنياء وحدهم، فلسنا بحاجة إلى إيراد الكثير من الشواهد والقواعد الإسلامية الصريحة.
في واقعنا اليمني، رغم الفقر والبوس العام للملايين، فأنت ترى أقلية تحتكر المال والثروات والأراضي والكنوز، وكانت أقلية تستعبد البشر حتى عهد قريب وبقاياها مازالت قائمة إلى الآن، وهي تجمع الأموال بشتى الطرق الملتوية الحرام طوال عقود حتى صارت دولة بين أفراد قلائل من النافذين، وللأسف كان الحكام يحمون تلك الشريحة في وجه كل المحرومين الفقراء والمقهورين من قبلها، هذا كان يقيم الحواجز بينهم وبين الشعب وطلائعه وقواه، وهكذا تأتي لحظات تاريخية في حياة الأمم الحية تخلع فيه أغلالها وقيودها وترفض استمرار العيش بالطريقة القديمة الجائرة التي لا عدالة فيها ولا مساواة ولا إخاء ولا رحمة ولا توزيع عادل للثروة العامة ولا نهضة عامة اجتماعية ولا تقدم ولا رقي ولا أمان حينها، لا يبقى أمامها سوى الكفاح والصراع وشهر السنان بعد أن عجز البيان عن إقناع ذوي الأمر والشأن، أي أن الثورة تصبح الخيار الوحيد مهما تكن نتائجها وأكلافها.
ولكن الثورة قد تقع في الاختطاف أحيانا من قبل أعدائها المتسترين بستار الأحرار والثوار، وهذا وارد ويحصل أحيانا عندما تكون الشعوب ناقصة الخبرة والأحرار الواعين الشرفاء، وهذه حالة مؤقتة تستطيع الشعوب تجاوزها بثورة ثانية وثالثة ورابعة، فالثورة هي عملية تصحيح دائم لا تتوقف وإلا ماتت، فهي كالسابح في البحر الواسع العميق إذا توقفت الحركة في الجسم غرق الجسم وهلك، فالحركة الدائمة المستمرة شرط لبقاء الثورات حية ومستمرة، ولكن الشعوب لا تدرك أحيانا ولا تميز بين الوطني الشريف الحق من الوطني المزيف الشديد التلون والمراوغة، في تلك الظروف تستطيع القوى الإمبريالية التسلل إلى قصور الحكم مستغلة تخلف العقلية الحاكمة وعدم اتساع آفاقها ومداركها وخبراتها.

الرجعية تتسلل إلى قلب القصر الحاكم
إذا كانت تلك القيادات عاجزة عن فهم ما يجري حولها وما حول البلاد والعالم بشكل عام، فلم تدرك خطورة القضية النهضوية ولم تفهم بعمق مسألة استراتيجية الاستعمار البريطاني الغربي (الإخواني والسلفي المشترك) والعدوان الذي ينطوون عليه، كما لم تفهم من هم الأصدقاء الحقيقيون لليمن وللوطن ومن هم الأعداء الحقيقيون للبلاد والعرب والمسلمين، ولم تدرك الألاعيب الغربية الجارية باسم الإسلام، وكان هذا الجهل الاستراتيجي هو المدخل الخطير الذي تم الضرب والاختراق منه، ومازلنا نعاني إلى الآن من آثارها فقد أضاعت علينا أقاليمنا المحتلة وستجبرنا حتما أن نقاتل من أجلها من جديد من المستقبل، وهذا له آثاره ونتائجه المكلفة على الوطن ونهضته وعلى حسابها بالضرورة، ويتضح ذلك من خلال السياسات التي اتبعتها في التعامل مع تلك الأطراف والقوى العدوانية في حقيقتها وكأنها أحبة وإخوة وأصدقاء.

وكانت تلك القوى التي تسللت إلى قلب الحكم، وصارت في رأسه وفي أهم مواقعه وتحظى بالثقة الكاملة رغم أن المعلومات كانت قد تسربت حول المؤامرات الجاري تنفيذها قبل شهر واحد من انفجار المؤامرة ووصولها إلى الإمام يحيى في صنعاء، ولكنه اكتفى بسؤال عبدالله الوزير وهو رأس المؤامرة عما تلقاه من معلومات حول الانقلاب المخطط له لاغتيال الإمام وولي العهد والسيطرة على الحكم بدعم بريطاني سعودي إخواني وهابي، وبدوره أجاب الوزير على الإمام بالمناورة والتضليل والكذب والتبرير فصدقه الإمام يحيى وكان اسمه قد ورد في رأس المؤامرة ومعه علي الوزير وعبدالله الوزير (الصغير) وغيرهم من أسماء أعضاء النظام الجديد بكامله عبر صحافة عدن التي وصلها خبر بالشروع بالتنفيذ من جهات داخلية فأسرعت إلى النشر حسب الخطة المتخذة من سابق وحسب التوقيت السابق، ولكن التوقيت قد تأجل لشهر بعد أن فشلت المحاولة الأولى للاغتيال، وقد تعجلت النشر دون أن تنتظر نتائج التنفيذ الأول، وهو ما كان فرصة لإمام اليمن لإحباط الجريمة تمت بالصدفة والحظ الطيب، ولكن الإمام يحيى أضاعها بسهولة ويسر، بعد أن صعق المتآمرون من الرعب عندما صارحهم الإمام بالأخبار القادمة له من عدن عبر اللاسلكي ومعها مضامين ما نشرته الصحف العدنية بالتفصيل، فقد كانت قد نشرت كامل محتوى المخطط والقرارات والأسماء للقيادات الجديدة من المدراء العموم والوزراء والرؤساء والإمام الجديد ونوابه والمحافظين والقضاة والمجالس العليا والقيادات العسكرية والأمنية وقوائم بالسفراء الجدد وكل شيء يتعلق بالانقلاب ونظامه وإجراءاته الجديدة الأولى، وهي كانت ضمن نسخة مودعة في عدن لدى الفريق القيادي هناك من المتآمرين (النعمان والزبيري) وبقية الجماعة وقد كان بينهم اتفاق أن ينشروا المخططات بمجرد سماع أنهم في صنعاء قد بدأوا التنفيذ بالاغتيال، وكانوا في قبضة الإمام عندما تلقى الأخبار تلك برقيا وقبل أن يعلم المتآمرون بالخبر ويتلافوا نتائجه ومن السهل توقيفهم أو تحييدهم أو مراقبتهم والاستعانة بالقبائل المحيطة بالعاصمة التي كانت تتولى حماية العاصمة والتي ظلت موالية للإمام حتى النهاية حتى بعد الاغتيال والسيطرة على العاصمة.
وكان الإمام يحيى يتمتع بشعبية واسعة بين القبائل والمواطنين العاديين في عموم اليمن المستقل الذين بادروا إلى العمل المضاد للانقلاب ما إن سمعوا نبأ الاغتيال في أغلب المدن الكبرى وفي العاصمة على الخصوص، وتم إلقاء القبض على "الدستوريين الخونة" في الأحياء والحارات حيث يسكنون ويتواجدون، وهذا ما أكده المؤرخون ومذكرات المشاركين بالانقلاب أنفسهم وكيف وقعوا في أيدي سجون الدولة قبل أن يتحرك السيف أحمد الذي نجا من المؤامرة إلى حجة ويطلق من هناك نداءاته إلى القبائل اليمنية لاجتياح العاصمة وإسقاط الانقلاب واعتقال المنفذين والمجرمين والقادة الذين سلموا أنفسهم بعد حصار العاصمة من السكان الريفيين والقبائل اليمنية من بكيل وحاشد وحمير وهمدان ومذحج وغيرها، وهو ما يكشف الالتفاف الشعبي حول الإمام ونظامه الديني الوطني الشعبي ومدى شرعيته التاريخية الوطنية المتمثلة بثقة الناس البسطاء العاديين وولائهم له، رغم كل حملات التشهير والتجريح والإساءة إليه التي جبلت عليها وسائل السياسة الأجنبية وعملاؤها وهو ولاء استند أساسا إلى تجربة دوره في قيادة حركة التحرر الوطني وأبيه وأولاده التي امتدت سبعين عاما.
وهذا يكشف مدى سذاجة الحاكم الوطني وانعدام حنكته وافتقاره إلى سوء الظن الضروري في حده الأدنى كحاكم وضحية للمؤامرات الأجنبية والداخلية وعدم قيامه بالأمر بالتحقيق والتحقق حول المعلومات الواردة والمنشورة ومع المعنيين والمذكورين ولو من باب الاحتياط الأمني البسيط، وهو واقع لا يستطيع المراقب للأحداث أن يهضمه ويبلع حدوثه، وقد بلغ المعنيين الخبر بكل تفاصيله لمدة شهر، كما أن المؤامرة وقد كشفت قبل شهر من قيامها الثاني، فإن الإمام وولي عهده وأصحابه المقربين لم يحاول أي منهم أن يبحث عن الحقيقة عبر طرف آخر ثالث، وفي عدن مثلا كانت المعلومات تتداول في مقايل القات ومحلات الشاي وعلى مقاهيها وبالقرب من الناشرين الصحفيين وهم معروفون للإمام وموظفيه ومندوبيه في عدن وغيرها، وسوف يجد التفسير الصحيح وهو غير ما باح به الوزير لتبرير الحادثة بعد أن صعقته المفاجأة التي اتضحت على ملامحه.
كما أن القوى الأجنبية وقد دست عليه مجمعا كبيرا من القتلة والجواسيس والمتآمرين الكبار من الأجانب والمحليين معا، ولم يتصور أن العدو السعودي البريطاني، وقد خضنا حروبا معهما مازالت آثارها لم تجف بعد، لم يتصور أنهما سوف يستمران في استهداف اليمن عبره هو وأولاده ورجاله المقربين، وهذا يوضح أن الإمام يحيى لم يفهم كلية طبيعة السياسة العصرية الغربية والسعودية الراهنة وعلى ماذا قائمة هي؟
إذن هو وطني لا شك فيه، ولكنه وطني قاصر عن فهم عصره وخصومه وأعدائه وأصدقائه، وهذه السمات هي أخطر ما يمكن أن تصيب سياسيا أو حاكما ولا تحتمل أبدا في إطار الحكم والدول، فصاحبها شخصية طيبة إلى حد السذاجة والاستهانة بالأخطار واللامبالاة إزاءها، وهذا ما يورد المهالك والمصائب للحكام وللأمم والشعوب.

الحاكم الوطني وعدم إدراك أهمية النهضة الاقتصادية والعلمية والحداثة والتطور الاجتماعيين
لم يكن المعارضون للإمام يحيى وحكمه يشيرون إلى نواقصه إلا من الباب الاقتصادي التنموي الاجتماعي العلمي، ولا يستطيعون الطعن في خلقه وطهارة يده ووطنيته، وإنما كانوا يركزون الطعن على النواحي الاقتصادية والإدارية والعلمية العتيقة، وفي هذه النواحي كانوا محقين، ولكنه الحق الذي أرادوا به الباطل وليس الحق، فلم يريدوا إصلاح الاقتصاد فعلا إلا بقدر ما يخدم مصالح الشركات الغربية التجارية التي يمثلونها، وكان أهم شعار في برامجهم وشعاراتهم وصحفهم هو فتح الأبواب أمام التجارة الأجنبية والمحلية ومنع دولة الإمام من الاتجار وحدها مع الأمم الأخرى، ويرون في بريطانيا مثلا أعلى لملكية دستورية لملك يملك ولا يحكم، فمن يحكم؟ إنه البرلمان التجاري المكون من ممثلي الشركات الكبرى والتجار الكبار والإقطاعيين اللوردات، فأين موقع الشعب البسيط من البرلمانية الإنجليزية المتوخاة والمبشر بها؟ وأين موقع الجنوب اليمني المحتل في يمن البرلمانية القادمة؟ إنه ثمن الدعم البريطاني السعودي للأحرار.
إنهم كانوا قد تنازلوا سلفا عن الجنوب اليمني المحتل للإنجليز وسلاطينهم وعملائهم وهم لا أحد يعلم كيف سيحررون الأمة من ظلم إمامها إذا كانوا يخدمون استعمارا أشد ظلاما واستبدادا وإذا كانوا يسلمونه أغلب أراضي اليمن ويتنازلون عنها نهائيا في دستورهم الذي لا يذكر الأراضي المحتلة بكلمة واحدة، إذا هم يضللون ويزورون ويدعون الحب والعطف على الشعب وهم يتمونون من مخازن أعدائه الحقيقيين والمعلنين المعروفين، وكانوا إذا سئلوا عن الاستعمار للجنوب فهم يجيبون بأن لا شأن لهم به، فعن أي يمن يحكون إذن؟
إنه يمن "المتوكلية" وحدها فقط وليس كاملا أيضاً، بل ينقص منه عسير ونجران وجيزان وغيرها من أراض يمنية محتلة، وهذا هو المهم والباقي مجرد لغو لا معنى له أو شعر ونثر للهجاء والمديح لكل المناسبات، ثم يكررون الشكوى حول انعدام التعليم والطرقات والمدارس والمشافي وغياب المصانع والمعامل والمزارع الحديثة والرعاية الصحية والاجتماعية والتعمير والإنشاء، وكلها صحيحة ولكنها دعاوى للاستخدام والتوظيف ليس إلا، فقد كشف التاريخ والواقع كيف أن هؤلاء (المتحررين) وقد حكموا، مارسوا أسوأ أشكال التبعية وغياب السيادة الوطنية وأشكال من الظلم الاجتماعي والفردي واختلاس وسرقة الأموال الوطنية العامة وتقاسموها مع أولادهم وأسرهم وعشائرهم، ويكفي سماع كلمة الشهيد إبراهيم الحمدي في ذكرى العام الأول من تسلم السلطة، وكيف كانت أيام الإرياني والنعمان والأحمر ونظامهم، ماذا قال؟ "لقد تسلمنا الحكم والجيش جيوش وكل عسكري يستطيع أن يبز أي مواطن بالقوة ويضعه في السجن أو يقهره ويبتزه أمواله وحقوقه، وأسرة واحدة تسيطر على قيادة الجيش اليمني وقوامه، وهي أسرة الشيخ الأحمر والشيخ أبو لحوم صهره، والسيطرة على موازنات الدولة، وكل شيخ له حصة من الموازنة المالية هو وقبائله وعشيرته وليس جميع الشيوخ في اليمن، بل فقط عشائر معينة محدودة، وكان الشيخ سنان أبو لحوم وحده وأولاده وإخوته العشرة يسيطرون وحدهم على جميع حلقات المناصب القيادية للجيش اليمني ومنهم علي ومحمد ودرهم وسنان و.. و.. و.. وغيرهم من بيت أبو لحوم، يسيطرون على قيادات أغلب ألوية الجيش اليمني ومحافظاته ومناطقه العسكرية، ومنها قيادة قوات الاحتياط العام وقيادة اللواء المدرع الأول وقيادة اللواء وقيادة محافظة الحديدة الإدارية والعسكرية وقيادة قوات المدرعات وقيادة محافظة تعز وقواتها المسلحة ومحافظتها الإدارية عبر أخيه درهم أبو لحوم قائد تعز الأعلى".
وبالجملة، إذا علمنا أن قوات المدرعات كلها بالكامل تحت أيدي إخوة سنان أبو لحوم وحدهم، وهو شيخ قبيلة بكيل ونصف أمي ولم يتلق تعليما من أي نوع كان، فقد وظف مثقفا ليكتب له مذكراته يعمل في مركز الدراسات والبحوث اليمني.
أما الشيخ الأحمر فقد فكوا له أميته في الخمسينيات من قبل الأستاذ النعمان في حجة، فأين هؤلاء الذين فرضوا أنفسهم معارضة ومستوى ثقافتهم وتعليمهم وإخلاصهم؟!
وإذا راجعنا مستوى ثقافة الإمام يحيى أو ابنه أحمد وتعليمهما، فنجد أنهما كانا كبارا في مستوى التعليم والثقافة والمعرفة، وأن هناك فارقا هائلا بينهم وبين معارضيهم.
ومن حيث الحداثة فإن التعليم العام في اليمن كان تقليديا في أغلبه، وهذا واقع، ولكن المعارضين كانوا يرددون الشعارات لا إيمانا بها وإنما هي استخدام وتوظيف للوصول إلى الحكم بدعم وتوجيه المصالح الأجنبية السعودية والبريطانية، وقد بانت تلك الأهداف بوضوح بعد وصولهم إلى الحكم، فقد بادروا إلى تنفيذ ما أراده الأجانب من أهداف وغايات، منها التنازل النهائي عن عسير ونجران وجيزان وفرسان وغيرها من أراض يمانية سليبة، والإمام يحيى لم يتنازل عنها نهائيا، وإنما وقع اتفاقية مؤقتة حددت بعشرين عاما فقط قابلة لاستئناف المفاوضات أو إلغائها.
ورغم الضعف الذي كان يمر به الإمام والهزيمة والحصار العسكري البريطاني السعودي الأمريكي المباشر والفقر الشديد، وهي قضايا حقيقية، ولكنهم لم يكونوا يقولون ذلك إلا على سبيل التهييج والتحريض والكلام السياسي، لأنهم عندما وصلوا ثانية إلى الحكم في انقلاب 5 نوفمبر 1967 وبرعاية سعودية بريطانية أمريكية مباشرة كان كل شيء متوفرا لهم وتحت أيديهم الأموال والمساعدات والبترول والغاز والذهب وكل الثروات وقد أخرجت فقد ظل الفقر يتسع إلى مقاييس هائلة، والفساد والمحسوبيات والتبعية والرشوة واختلاسات الأموال العامة ومعاداة الحركة الوطنية والتحررية اليمنية والإنسانية لحساب الأهداف الغربية والسعودية وأضيعت الأراضي اليمنية مجددا بشكل نهائي، وشهد اليمنيون أنظمة للجور والاستبداد لم يسمع العالم بأشباهها، ووصل أعداد العاطلين عن العمل أكثر من 12 مليون عاطل العام 2011، منهم مليونا عاطل خريج شاب من الجامعات والثانويات العامة ولا يجدون عملا لهم وهم يعولون أسراً وعائلات.

2. نوعية قيادية حديثة تبعية بطبيعتها
وإلى هذا النوع ينتمي العديد من القيادات التي عرفناها من أصحاب الدعوات القومية والإخوانية الليبرالية والإسلاموية الزائفة واليساروية التابعة للخارج وللخليج والغرب، وقد امتلأت فترة الخمسينيات والستينيات بمثل أولئك القيادات القومية والوطنية واليسارية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وقد أشرنا إليهم سابقا.
إنهم لم ينفصلوا عن روابط بلادهم القديمة بالغرب وبالاستعمار القديم والجديد رغم أنهم استلموا السلطات وصاروا حاكمين في بلادهم، ولكنهم ظلوا مقيدين بالروابط القديمة مع الغرب الاستعماري التي في نهاية المطاف كانت هي التي أسقطتهم وأسقطت سلطاتهم وحكوماتهم، ومثال ذلك ما عاناه الزعيم الوطني اليساري سلفادور الليندي، رئيس تشيلي البلد اللاتيني الذي عانى ومازال من الهيمنة الرأسمالية الأجنبية والمحلية المتحالفة معها وكيف أنه وقد انتخبته الجماهير العمالية الشعبية التشيلية رئيسا للبلاد بأغلبية كبيرة، وانتظرت أن يحقق برامجه في الاستقلال الحرية والتحرر من الهيمنة الأجنبية، راح يحافظ على ارتباط جيشه الوطني بالدوائر العسكرية الأمريكية الإمبريالية من حيث التدريب والتسليح والخبراء العسكريين المشرفين على بناء قواته المسلحة والبعثات الدراسية إلى المعاهد الأمريكية، ولم يقدم على قطع جميع الروابط مع العدو كما فعلت إيران وفنزويلا وكوبا بعد أن استقلت من أول يوم، حيث تصبح أولى المهام للحكم الوطني الاستقلالي هي قطع تلك الروابط البنيوية المقيدة للدولة التي تحاول الاستقلال، قطع الروابط التي يتسلل عبرها المستعمر الإمبريالي اليانكي إلى مفاتيح الدولة والقوة ويخترقها ويشتري العملاء ويجندهم تحت أغطية الصداقات والتدريب المشترك والمساعدات المالية والعينية والمناورات المشتركة وعبر تدريس الضباط وكبارهم في معاهده العسكرية العليا وكلياته وأكاديمياته المتخصصة تقوم المخابرات الأمريكية والغربية بتجنيد كبار الضباط والقادة الأجانب الدارسين إلى صفوفها بشتى الأساليب والسبل بحيث لا يستطيع أحد أن يتجنب مناوراتها ومكرها عندما يكونون تحت رحمتها في بلادها، وقد أوقعت آلاف القادة في حبائلها وشراكها، وعبرهم تدبر مختلف الانقلابات والاغتيالات والتصفيات لكل الرموز الوطنية الاستقلالية الذين لا ترضى عنهم الولايات المتحدة والغرب وعبر الضابط التشيلي بينوشيه جرى اغتيال القائد الوطني السابق وزير الدفاع وحل محله عميل أمريكا الجنرال بينوشيه ليقوم باغتيال الرئيس التشيلي سلفادور الليندي في العام 73 والقيام بانقلاب عسكري فاشي دموي أزهق دماء مئات الآلاف من التشيليين الوطنيين وزج في السجون بمئات آلاف أخرى وللسيطرة على الحكم وإعادة البلاد إلى نير التبعية الأمريكية من جديد.
وإذا كان من درس هنا يجب التركيز عليه فإنه هو أن الثقة بالمستعمرين وباحترامهم للقوانين والمعاهدات وبحقوق الأمم الأخرى هي بلاهة كبرى ما بعدها بلاهة إلا الخيانة المباشرة، وكم من البلاهات العربية الإسلامية التي تصدر عن القيادات النافذة قد أودت بنا إلى الهاوية تلو الهاوية وإلى المصائب تلو المصائب هي كثيرة ولا يمكن عدها، والمهم هو التعلم منها وحتى هذه لا يمكن انتظارها من بلهاء كالقادة العرب للأسف، إنهم مسكونون بداء الجهل والغرور والعصبية والأوهام بالعرفان والاستعلاء، وكم من المصائب عانيناها أمام أعيننا تتكرر، فهل استفدنا من دروسها؟ أبدا فمازال جيل بكامله من الحمقى يجادلون في مدى عصمة عباقرتهم من الحكام العرب والمسلمين، وهذه الرؤوس قد غابت عن المسرح في معظمها الآن، ولكن تركتها مازالت في العقول مترسخة، لأنها سيطرت على الوجدان الجمعي للأمة لعقود من الزمن، وكان الناس ينظرون إليها بأنها معقد الآمال ومحط الرجاء في تحقيق النهضة والاستقلال فإذا بها تفاجأ بأن كل المشاريع القومية النهضوية كانت مجرد أحلام إعلام وخطابات، ومصيبة هذه البيروقراطيات هي أنها كانت تؤمن بأنها ستحقق النهضة بطريقتها الخاصة بدون ثورات ولا مشاركة الشعب ولا قواه الوطنية الثورية، وأنها وحدها سوف تحقق النهضة والحرية والوحدة والاستقلال والتقدم الاجتماعي والثقافي والعلمي والتقني وتوصيل الإنترنت لكل بيت ولكل طالب كمبيوتر.
كانت الأمة تطالب بما هو أدنى، فقط تطالب بالعيش الرخيص والكرسي الخشبي للطالب البسيط لكي يدرس الأولاد بشكل آدمي وإنساني، فأغلب الطلاب يدرسون تحت الأخشاب والأشجار والأكواخ في أريافنا العربية واليمنية ويتزاحم مئات الأفراد في قاعة واحدة أو فصل واحد ومع معلم واحد، بينما تهدر الأموال العامة على تفاهات الأشياء، هبات وعطاءات وهدايا موازنات ومخصصات ومكافآت ونثريات وبترول وتنقلات ومواصلات ومصاريف عامة لمن لا يستحقها ووظائف تتكرر لنفس الأفراد من المحظوظين في النظام.
مازال العالم يتندر علينا إلى الآن حين أعلن في مجلس النواب عن أن أحد المحظوظين قد غنم 36 وظيفة في جهاز الدولة على مسمع من زعيمه، لشخص واحد ومعروف اليوم أن عدد المكررين المزورين في كشوف وظائف الدولة قد بلغ حوالي الثلث وأكثر من القوام الإجمالي وأحيانا النصف، وخاصة في الجانب العسكري والأمني والمخابراتي، فقد حلب الثروة الوطنية أفراد معتوهون أمثال عفاش وعلي محسن والأحمر وزبانيتهم بدون رحمة.

3. نوعية قيادية تقليدية إسلاموية وهابية تطبيعية تابعة للغرب وللصهيونية
وهذا النوع من القيادات يغلب اليوم على معظم البلاد العربية المسلمة من الخليج إلى المحيط، وخاصة في بلاد النفط والغاز والثروات الطبيعية، وهل يمكن أن ترجو أمتنا أي نهضة منها رغم تدفق الأموال إلى خزائنها وبنوكها؟
ليست النهضة قضية مال فقط، إنها حرية إرادة الوطن الناشد للنهضة والحرية والاستقلال، والوقائع هي التي تتكلم هل حققت المملكة السعودية مثلا أي نهضة حقيقية في أي مجال من المجالات طوال قرن من حكم الأسرة الغريبة؟ لا لم يتحقق شيء ولن يتحقق شيء مادامت تحت الهيمنة الأمريكية الغربية الاستعمارية الاستبداية القائمة.

بالأمس القريب كان أحد وزراء المملكة السعودية الفصحاء يقول "لقد صارت المملكة اليوم تتحكم بالعالم كله وهي القوة الكبرى فيه"، من خلال النفط؛ والنفط سلعة موقوتة نافدة مهما طال الزمن أو قصر، فماذا بعد نفاد النفط؟ هل بعد الرمال المالحة لديها شيء؟ فلا زراعة ولا مياه ولا صناعة حقيقية وكل شيء يستوردونه من الغرب بما فيها المياه للشرب حيث تستورده من تركيا ومن أستراليا حتى مياه زمزم نفسها التي جفت منذ زمن، ها هي الآن هذه الأيام غارقة بالأمطار والسيول الضخمة التي أغرقت مدنا كبرى مثل جدة والرياض والمدينة وذهبت كلها إلى الصحراء، فلا يوجد سد واحد يمكن أن يحتويها ويحفظها للأيام الجافة وما أكثرها في الحجاز ونجد، ولكن نعم الدخل كبير والناتج قليل، بداخلها 15 مليونا وأكثر من العمال الأجانب يعملون في أتفه الأعمال التي لا تحتاج إلى تأهيل عال ومع ذلك يعاني نصف مواطنيها من البطالة والفقر، ما هذا التناقض الغريب؟

إشكاليات النهضة
 إذا تحدثنا باختصار عن أزمات النهضة فإننا يجب أن نركز على البعد القيادي للنهضة، لأن البعد القيادي سواء المأزوم أو الجديد يلعب الدور الحاسم في مصير النهضة. والبعد القيادي له بعدان آخران هما البعد الشخصي والبعد الاجتماعي الطبقي والاقتصدي والمصالحي والمجتمعي والقومي والقبلي والأسري.
والبعد القيادي يجب ألا يفهم بالبعد الشخصي وحده، لأنه لن يفهم ولن يستقيم القول حوله ولن يكمل بشكل صحيح وأمين، فالحقيقة أن البعد الشخصي للقيادة محكوم بدوره بالبعد الاجتماعي الطبقي العام للقائد الفرد والزعيم رغم إمكاناته الفردية وتوجهاته الشخصية الإيجابية أحيانا، إلا أن البعد الطبقي الاجتماعي يتحكم في نهاية المطاف بالجانب القيادي كله، لأنه هو الذي يحدد مصير المشروع كله في نهاية المحاولة بالنجاح أو الإخفاق بما يتطابق مع المصالح الطبقية السياسية والتي يمثلها الزعيم والزعماء والمشروع النهضوي كله، فإذا لم تتطابق مصالحها مع النهضة فإنها أول من يتآمر عليه وعلى النهضة، وأول من ينحو نحوا مغايرا للنهضة الوطنية والاستقلال والحرية وتصبح التبعية هي قصدها الأول ومذهبها السياسي المقدس الذي تعمل على أساسه، والأمثلة كثيرة من التاريخ الواقعي على هذه الحقيقة التي نراها أمام أعيننا كل يوم في أكثر من بلد من البلدان التي تدعي أنها تتبع النهضة والثورة والاستقلال والحرية وبعضها تدعي الاشتراكية والقومية والإنسانية الزاهرة والحرية، وهي مازالت تراوغ وتناور وتحيا في ظل التبعية الاقتصادية والفكرية والثقافية والسياسية الاستراتيجية، وهذا مبدأ ثابت في علوم الاجتماع السياسي الحديث الغربي والشرقي وإن كان يبدو جديدا في كتاباتنا الحديثة.
وكل تلك المناورات قد انفضحت وبانت الآن بعد الأحداث والتطورات التي واجهتها بلادنا والعرب والمسلمون وجمهورياتهم القومية المتحررة والمستقلة والعظمى، ولم يعد أمامنا سوى تحليل أسباب هذا الخراب والانهيارات لا البكاء على أطلالها من جديد، فقد شبع العرب البكاء عبر التاريخ حتى أصبحت البكائيات هي أهم ملمح في أدبنا وشعرنا وفكرنا وليس في هذا أي إيجابية يمكن التغني بها في ظل الهزائم والانتكاسات التي وواجهت شعوبنا ومازالت نتائجها قائمة.
ونحن لا نتشفى بأنفسنا وهزائمنا ولكننا نعترف بها وننقدها بصرامة وننزل الزعماء المقدسين عن عروشهم الصورية التي لا يستحقونها والتي خطت في مخيالنا وفي ذاكرتنا العربية وتأبى أن تغادرهما دون أن ننكر إيجابيات من يستحقها منهم، وإن كانوا قلة شديدة جدا لا يسلمون عند الحساب من النقد والتفنيد على مشاركتهم في تضليلنا وأسطرة عقلياتنا وخرفنتها بدلا من جعلها واقعية وحقيقية، ولكن لماذا لم تستطع القيادات السابقة أن تحقق أهداف النهضة الوطنية والقومية؟
لأن النهضة ثورة وتناقض بنيوي شاملان ضد عوامل الاستبداد والاستعباد والاستعمار والتابعية، وقد حاول بعض الزعماء النهضويين السابقين أن يقنع الرأي العام العربي والوطني أنه يمكن تحقيق نهضة وطنية في ظل شيء من التبعية وشيء من الالتحاق الخارجي متذرعا بأنه لا يمكنهم التخلي عن تداخل الاقتصادات العالمية مع بعضها البعض، واقتصاداتنا جزء منها فلا يستطيع بلد الاستغناء عن غيره، وأن يكتفي باقتصاده ومقدراته دون الحاجة للآخرين من الجوار العالمي والدولي والإقليمي وهذا محض هراء في حقيقته وأول الوهن هو هذا الكلام الذي نسمعه من القادة المترددين الخائفين الذين يدعون النهضة والاستقلال، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بأن الاستقلال والحرية لا يتحققان بدون نهضة ولا نهضة تتحقق بدون استقلال وحرية وسيادة جادة.
والحقيقة هي أن التشابك الاقتصادي القائم مع الغرب هو عملية مقصودة ممنهجة مخططة مصنوعة صناعة لتجعل الاستقلال الوطني مستحيلا كما نراه الآن في أي بلد يحاول الاستقلال عن الغرب، ولكنه ليس مستحيلا في جوهره، إذا أرادت أمة وعزمت على الكفاح من أجل استقلالها فإنها لا بد أن تبلغه مهما كانت المصاعب، والمثال ما نراه في إيران وسوريا ومحور المقاومة وروسيا وكوريا وفنزويلا وكوبا والصين وغيرها تثبت أنه ممكن إذا ما قررت أمة أن تكافح من أجل استقلالها وحريتها فإنها قادرة ولن تخسر سوى قيودها فقط وتكسب ذاتها وحريتها واقتصادها وثرواتها وحقوقها.
وقد ظل هؤلاء المترددون لعقود يروجون ويبررون لعلاقاتهم وتحالفاتهم المشبوهة مع الغرب بأنهم لا يستطيعون أن يحققوا الاستقلال والنهضة في وقت واحد، فلا بد في نظرهم أن نقبل التضحية بأحد طرفي المعادلة لصالح الطرف الآخر، أي أنه يجب إحداث النهضة مع قبول شيء من التبعية الخارجية الضرورية والمؤقتة، وهذه قمة المغالطة السياسية كما كشفتها الظروف والتاريخ، فلم تتحقق أي نسبة من النهضة في ظل استمرار علاقات التبعية والارتهان والوصاية الخارجية، والأمثلة على ذلك واضحة ولا نحتاج لإعادة توضيحها وشرحها، ويكفي أن يخلو الإنسان إلى نفسه ليراجع السياسات تلك بموضوعية واستنارة ليصل إلى النتائج المنطقية المترتبة على تلك المقدمات والوقائع والمعطيات الماثلة أمام أعيننا جميعا.

النهضة والجماعات الاجتماعية ودورها الحاسم في تطورها وإخفاقاتها
بالنسبة للتجربة النهضوية الأوروبية، وهي النموذج الراهن للنهضويين العرب والمسلمين والمتغربين، فإنها كانت قد حدثت خلال قرنين من الزمن، الخامس عشر والسادس عشر، مشكلة مقدمة للثورات التالية التي جاءت بعدها، وأهمها الثورة الصناعية والاقتصادية والتنويرية العقلية التي رافقتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم جاءت الثورات البرجوازية الكبرى كخاتمة لها وللتطورات التي بدأت من النهضة. وقد استغرقت مسيرتها التدريجية البطيئة تلك خمسة قرون. وكانت الثورة الفرنسية الكبرى نهاية القرن الثامن عشر، وسبقتها الثورة البرلمانية الإنجليزية في القرن السابع عشر، ثمرتين لتلك النهضات الاقتصادية والعقلية والفكرية التي سبقتهما.

يمكن تقسيم مسيرة النهضة الأوروبية إلى جانبين رئيسين ومسارين تاريخيين متواليين، فالنهضة المادية الاقتصادية والفكرية قد سارتا أولا، ثم لحقتهما النهضتان الصناعية والسياسية لتكملاهما وتعطياهما الشكل النهائي للنهضة والتقدم العام للمجتمع وللدولة والحكم. وهذا المسار البطيء لا يمكن تكراره الآن في العصر الحالي، ولا يمكن أن تنتظر الشعوب عدة قرون أخرى لتحقق ما حققته أوروبا، فهذا ما تحاول العقليات الأوروبية الفكرية أن توحي به لنا وعلينا من خلال المفكرين المتغربين أدعياء النهضة والتقدم، والهدف الحقيقي هو تأخير نهضة الأمم والشعوب حتى تصبح مستحيلة في واقعها وتظل مرتهنة للأجنبي وللتبعية الخارجية خدمة للاقتصادات الغربية التي تعيش وتنعم من هذا التشابك وهذا الارتهان والتبعية الاقتصادية والسياسية، تبعية الشرق للغرب، وتشابك مصالحه واقتصاداته. وجوهر ذلك هو ما كرسته أوروبا الرأسمالية الإمبريالية خلال القرون الماضية، من توزيع للنشاط الاقتصادي العالمي أو التقسيم الدولي للعمل، كما تسميه النظريات الاقتصادية الأوروبية التي تفرضها على المتغربين الدارسين والمثقفين التوابع، وتفرضها على البلاد الفقيرة التابعة والمحتلة وشبه المستعمرة.
فقد فرضت عليها ما يمكن أن تنتجه وما لا يجب أن تنتجه من منتجات ومن سلع ومزروعات ومصنوعات وطنية، بحيث لا تنافس أي منتوج أجنبي، وهذا من شروطها لتقديم أي قرض أو سلفة تحتاج إليها البلاد النامية. ومقابل كل اقتراض تطرح عليك الدول الكبرى عبر البنك الدولي الأمريكي الغربي المشترك التابع لها، تطرح شروطها بندا بندا لتنفذها في بلادك قبل تسلم أي قرض (تحت قاعدة ربط السياسي بالاقتصادي)، فهي بصراحة تطرح عليك أن توجه سياسة بلادك بما يرضيها ولا يغضبها ولا يغضب "إسرائيل" أو يعرضها للخطر والمتاعب، فهي تعتبر "إسرائيل" جزءا عضويا منها وشرطا لن تحصل على القرض أو المنحة التجارية أو الصفقة التي تنتظرها لبلادك. وهي تشترط مسبقا عدم إقامة أي نهضة صناعية أو زراعية حقيقية في بلادك، فأنت ممنوع من زراعة القمح أو من صناعة الحديد والصلب في بلادك، وممنوع من بناء إقامة سدود ضخمة للمياه، وممنوع من إقامة مفاعلات نووية سلمية مدنية رخيصة التكاليف لتوليد الكهرباء وللصناعة الواسعة...
وعندما أرادت مصر في الخمسينيات، بعد ثورة يوليو 1952، أن تقيم سدا للنيل لكي تجمع وتحفظ فيه المياه التي تذهب هدرا إلى البحر في وقت الصيف والفيضانات وتشح المياه في الشتاء وتعاني المجاعات من الشحة وتعاني الإغراق للأراضي في الصيف عندما تكثر نسبة المياه بدون تخطيط لاستخدامها واستقبالها الذي لا يمكن أن يتم بدون إقامة سدود ضخمة على طريق النيل، وهنا قامت قيامة الغربيين، الأمريكيين والأوروبيين، وأصروا على ألا تسمح لمصر أن تقيم تلك المنشآت المائية الضخمة، لأنها سوف تحررها من الحاجة إلى استيراد القمح والمحاصيل الضرورية للعيش، وكانت سوف تحصل من السدود على الكهرباء إلى عموم الريف المصري وستصل الكهرباء إلى الفلاحين وتغير حياتهم، حيث ستصل إلى كل بيت وقرية، وسوف تتسع الصناعة الوطنية التي تحتاجها مصر وتخفف الاستيراد من الخارج الأجنبي، حيث تبعثر أموالها ومداخيلها من العملات الأجنبية الصعبة، وهذا ما تريده أوروبا وتفرضه كسياسة عبر عملائها وشركائها ووكلائها في الحكم والدولة التابعة أو تنفذه تحت الضغط الاقتصادي والحاجة إلى القروض والفقر والجوع.
إن أوروبا والغرب يريدك أن تفعل ما يحقق لهم أغراضهم وأهدافهم هم أولا، لا ما يحقق أهدافك الوطنية من تقدم وتطور. ومن هنا تأتي الحقيقة الموضوعية القائلة باستحالة النهضة والتقدم مع سيطرة أوروبا والغرب والتبعية للأجنبي أياً كان، واستحالة النهضة في ظل التبعية للأجنبي والغربي مهما كان، كما تعرض العراق للتدمير وقصف مفاعلاته السلمية النووية في مطلع الثمانينيات، حيث قامت "إسرائيل" بتنفيذ ضربات جوية بمساعدة أمريكية فرنسية بريطانية سعودية مشتركة، فدمرت مفاعلات تموز بعد أن خسرت عليها عدة مليارات اشترتها من فرنسا الصديقة واستأجرت منها العلماء والخبراء الفرنسيين ليشتغلوا فيها، وهم أنفسهم، الفرنسيين، من تجسس للغرب ولـ"إسرائيل" لإنجاح الضربات الجوية الدقيقة من الجو على المفاعلات بعد أن استنزفوا العراق الأموال والمليارات.
ورغم ذلك فإن صدام حسين وجماعته لم يتراجعوا عن الولع بحب الفرنسيين والأوروبيين والغربيين حتى موته. إنه الهيام بالغربيين وملذاتهم ومغرياتهم التي لا تنتهي، ويمكن استيرادها من قوارير العطر إلى قوارير المشروبات الروحية إلى الملابس الفاخرة وإلى السيارات والحقائب اليدوية والأحذية والأدوية والعصائر والمياه المعلبة إلى القمح والأرز والمعكرونة والحلويات وقطع غيار الحمامات والبناء والكهربائيات والنجف والألعاب الرياضية والملابس الداخلية وأوراق المراحيض والدفاتر المدرسية... كل شيء يتم استيراده، وكل ما دخل من أموال للبلاد وخزائن الدولة والبنوك الوطنية يعود كله وأكثر منه إلى الخارج على شكل تسديد لأثمان السلع التي تستورد، والتي لا حاجة لها أصلا وليست ضرورية. ولو استعرضنا القوائم الاقتصادية والتجارية للدول العربية والمسلمة سنجدها متطابقة، وكلها تعاني العجوزات وتحتاج إلى تغطيتها بالاقتراض من الخارج. وتلك هي الأدوار الشيطانية الجهنمية التي يتم إدخال البلاد النامية فيها غصبا وعبر رشوة رؤسائها وزعمائها المفوهين الخطباء المحرضين على الحرية والتقدم والاستقلال والتنمية والنهضة.

السـؤال المصيبــة
قد يسأل سائل نبيه قائلا: مادام الحال هكذا، فلماذا يستوردون من الخارج الكماليات وغير الضروريات إذن؟ ولماذا لا يصنعون في الداخل ما يمكن تصنيعه وإنتاجه، وتوفر كل شروط صناعته من مواد خام وأسواق وقوى عاملة عاطلة محتاجة يأكلها الفقر والبطالة والبوس والجوع؟
نعم، هو سؤال كارثي في حقيقته، إلا أننا نفهم الإجابة بعد كل هذا أن تجار الجملة والمفرق والاستيراد الذين يسيطرون على سياسة البلاد العربية بقوة (الضباط الرأسماليين والشيوخ الإقطاعيين)، وهي شريحة الحكم الإمبريالية التي تتقاسم مع الأجنبي الأرباح والتجارة ولا يهمها أن تخرب البلاد والاقتصاد وأن تباع البلاد مقابل الأموال والتجارة الشيطانية المربحة لها وحدها فقط، لأن البلاد عندما تعجز عن توفير الأموال الصعبة للاستيراد يتم تخفيض قيمة العملة الوطنية وترتفع الأسعار في الداخل أمام الفقراء والمستهلكين البسطاء والشعب الكادح الفقير الغلبان وهم أغلبية الأمة أغلبية السكان، وتزداد ديون الدولة والبلاد نتيجة ذلك ومعها تزيد نسبة الفقر والبطالة والجوع والخراب الاجتماعي ومعها السرقات والجرائم والمخدارات وتفكك الأسر والمجتمعات ويضعف الدين والإيمان والوحدة والوطنية.
وهو الحال نفسه لأي بلاد عربية أخرى أو إسلامية، نفس السياسة، نفس التبعية والهيمنة الأجنبية، ونحن نركز أكثر على البلاد التي تدعي أنها قد تحررت وتغيرت وتطورت زورا وكذبا، وها هي مازالت تحت نير التبعية والهيمنة الأجنبية رغم الشعارات المفخمة الكبيرة عن الثورات والاستقلال والحرية والتقدم والحقوق، لكن ليس هناك تقدم ولا استقلال ولا حقوق.

الطبقات الاجتماعية المجهضة للنهضة
لا تستطيع أي جماعة إنسانية تحقيق النهضة القومية إلا إذا كانت مستقلة في إرادتها ومصالحها وأهدافها عن القوة المسيطرة على البلاد، أي عن الأجنبي، وأن تكون متعارضة في مصالحها عنه، ولا يمكن التسوية بينهما، أي أنها داخلة في حالة بنيوية من الصراع الوطني التناحري ضد المستعمر والمحتل والأجنبي وأن وجودها غير قابل للاستمرار بوجوده ومصالحها غير قابلة للتسوية مع مصالحه، وأن الصراع الناجم عن تلك الحالة المستعصية، إنما هي علاقة صراع تناحري تعني علاقة نفي كل منهما للآخر، فوجود أحدهما يعني نفيا لوجود الآخر، وهذا التناقض الجذري بين الطرفين هو الذي يحول دن حدوث أية تسويات في منتصف الطريق تجهض حركة النهضة وتقطعها عن غاياتها الكبرى، لأن حركة النهضة لا تكون إلا حركة صراع تناحري حازم ضد كل ما يعوقها ويعرقل انطلاقها وضد المستعمر والأجنبي والاستبداد والجمود والرجعية والتبعية، فهي حركة شمولية ثورية تغييرية تطورية بقفزات كبرى في الفكر والعمل والممارسة، وعنوانها الكبير هو الذاتية المستقلة والاعتماد على الذات في ما نصنع ونزرع ونبدع، وأن تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، تعيش في بلدك حرا بعيدا عن كل نفوذ أجنبي أو وجود غريب أو تبعية أو استلاب للإرادة والحقوق والسيادة، وشروطها الاستقلال والحرية والوحدة والدولة العادلة الحرة.
وقد تعثرت تجارب النهضة في الماضي لأن قيادتها لم تكن قادرة على وعي مهامها التاريخية ومصادر قواها ونقاط ضعفها وحلفائها الحقيقيين وأن تتصدى للعدو وأن تحقق الحرية والاستقلال، لأن الاستقلال لا يتحقق إلا إذا كانت الطبقة المتزعمة للحركة الوطنية ضحت بالمصالح الذاتية والطبقية والنخبية التي يعرضها ويوفرها بخبث الاستعمار حيث يجذب إلى صف تجارته ومصالحه المشتركة الطبقة الثرية في البلاد أولا، فيشركها في التجارة والفوائد والعوائد وبحصة من المال العام ويسلم إليها العديد من المصادر المالية والتجارية والنفوذ الاجتماعي.
وفي جميع البلاد العربية التي تعرضت للاحتلال الأجنبي كان الغازي أول ما يعمله لترسيخ سيطرته هو أن يسلم إلى أيدي الطبقة الثرية الشؤون المحلية والإقليمية والإدارية والمالية وجمع الضرائب والمكوس، وأن يقتسم معها تلك الأموال والموارد، كما حولها مع الوقت إلى وكيلة حصرية لشركاته ومؤسساته التجارية ووكالاته، وبهذا خلق مصلحة مشتركة بينه وبينها أو زواجا كاثوليكيا كما كانوا يقولون، ولذلك أمكنه تحييد قسم كبير من النخبة المحلية الثرية والتي تعلقت بأهداب المستعمر وشركاته التجارية كما جذب إلى صفوفه أغلب المثقفين من أبنائها ومدهم بالدعم والعون في الحصول على الشهادات العليا والتعليم في جامعاته ومعاهده، ثم تعيينهم في سلك الموظفين والخدم العالي الرتبة ووفر لهم أسباب الحياة الطيبة المرفهة وأذاقهم كثيرا من غوايات الغرائز والمتع الحرام خلال فترة دراساتهم في الغرب وفتح عقولهم على مذاهب وفلسفات واتجاهات شيطانية تبرر الرذيلة والملذات وتشرعنها وتسهل بلوغها خارج القيم الأخلاقية والعقائد الدينية والثقافية وتهاجم الهوية الوطنية والقومية والإسلامية والدينية، ولذلك عرفنا جيلا من المثقفين والمتعلمين العرب من المفتونين بالثقافة والقيم والفلسفات الغربية، وعلى أيديهم سرعان ما تحولت الحواضر العربية إلى مراكز للفجور والرذيلة ومخازن للبضائع الأجنبية المحمية من المنافسة والقادرة على تدمير السلع الوطنية المحلية، إن وجدت، وأدت إلى خراب الفلاحين والزراع والحرفيين وتحولهم إلى متشردين وبروليتارية في المدن الكبرى حيث ينتظرهم المستعمر ووكلاؤه لاستغلالهم في مشروعاته الاستعمارية بأرخص الأجور، وراح قسم كبير من تلاميذ المستعمر يتحدث عن النهضة والاستقلال والحرية والتحرر من الماضي العفن ومن قيمه وهويته ويؤسسون الأحزاب التي تدعي الدفاع عن حقوق الشعب والأمة.
هذا التزاوج الفكري السياسي بين النخبة المحلية والمستعمر قد أجهض القضية الوطنية والنهضوية من الأساس، ورسم المستعمر حدود الحركة والحقوق ومعالم الأهداف المقبولة، وحدد الوسائل التي تجرم استخدام غيرها من وسائل الحسم والصراع.
إن المستعمر الغربي بعد أن استعمر البلاد خلق من أنصاره جماعات معارضة تطالب بالإصلاحات السلمية وتدين غيرها، وكأنه يقول للناس: "إن من حقي أن أستخدم القوة في استعماركم، وممنوع عليكم استخدامها لمواجهتي"، وشرع ما يشاء من القوانين والدساتير التي تشرعن احتلاله وسيطرته.

لا تستطيع النخبة قيادة الاستقلال والنهضة الوطنية إلا إذا كانت مستقلة عن الاستعمار والنفوذ والأجنبي وهيمنته، فالاستقلال الوطني لا يمكن تحقيقه بدون استقلال الطبقة القائدة للاستقلال عن النفوذ الأجنبي، وما إن يرسخ المحتل نفوذه في البلد حتى يرسخ سيطرته على المصالح الاقتصاية والمرتكزات الاجتماعية، وتداخل مصالح الطبقة القائدة للمجتمع مع مصالح الاستعمار التجارية والاقتصادية والاجتماعية جعلها طبقة مخصية عاجزة عن الإنجاب والفعل الحميمي وممارسة حياتها الطبيعية، وهذه الحالة واجهتها أغلب الأقطار العربية وشعوبها، ولذلك فإن الألباني محمد علي باشا الذي صار حاكما على مصر في القرن الثامن عشر بعد انتفاضة شعبية قادها أشراف وعلماء الأزهر ضد الطغيان العثماني فإنه عمد إلى منح رجال الدين رساميل مالية ليقوموا بممارسة التجارة ويصبحوا جزءل من النخبة المالية والمصالح الكبيرة في المجتمع، وكان هدفه هو تقييد حركتهم القادمة وجعلهم يفكرون ألف مرة قبل أن يتحركوا لطلب الإصلاحات والعدالة والاستقلال، لأنهم يصبحون في الوضع الطبقي المنعزل عن مصالح الشعب وضع يشتركون فيه مع الحكم السائد وطبقته المالية، ولذلك أمكن تقييد حركة رجال الدين والأزهر، لأنهم كانوا هم الفئة التي تقود العامة ومرتبطة بهم ومحل احترامهم والناس مازالت تثق بهم وبإيمانهم ودينهم.
وفي فلسطين استطاعت بريطانيا أن تقيد حركة الشعب العربي الفلسطيني من خلال تمكين جماعة الإخوان المسلمين التي أنشأتها في مصر ونشرتها في العالم بعد ذلك خدمة لمصالحها الاستعمارية، وجعلتها بأموال المستعمر ودعمه السياسي هي القوة المسيطرة على قيادة الأحزاب العربية الفلسطينية وعلى اللجنة العربية، وقد حولت قيادة الإخوان إلى مجموعة من كبار التجار المشتركين في وكالات التجارة البريطانية الخارجية وكانت سياسة وأهداف بريطانيا ومؤمراتها واضحة ومعلومة ومعلنة ولا تخفى على أحد، وقد جعلت الشعب الفلسطيني واقعا تحت تأثير تلك الجماعة التي تبدو إسلامية في خطاباتها وأقوالها ومظاهرها أما في الجوهر والحقيقة فكانت شريكة المستعمر في التآمر على أرضها وبلادها وشعبها وأمتها ودينها.
وعندما اشتعلت ثورة الشعب الفلسطيني ضد البريطانيين واليهود المستوطنين الذين أتى بهم الإنجليز طول فترة احتلالهم لفلسطين من 1917 إلى 1948، أي طوال ثلاثين عاماً وهم ينقلون المهاجرين اليهود إلى فلسطين بسفن الإنجليز وينفقون عليهم الأموال والأسلحة والإمكانيات وينظمونهم في جيوش حديثة ويعدونهم لقتل الفلسطنيين ويطردونهم من أرضهم وينهبون فلسطين أمام مسمع من أهلها المضللين، عندما انطلقت الثورة الشعبية المسلحة من نابلس وجبالها بقيادة فقيه شعبي ثوري وطني معروف ومجاهد مجرب مسلم عربي حر وشجاع، وقفت الجماعة العميلة ضده وضد الثورة بأوامر من البريطانيين ومخابراتهم، حيث أفتت ونشرت فتاواها بين المواطنين وفي المساجد ودور العبادة بأنه لا يجوز الثورة ضد الأصدقاء الإنجليز أو ضد بريطانيا الصديقة التي وعدتنا بمنح الاستقلال بالسلم والمفاوضات والصبر، وكسرت الإضراب الشامل الذي استمر أكثر من ستة أشهر متواصلة وكان معنى الإضراب العام للعمال والشغيلة العرب هو ألا تستطيع بريطانيا أن تنزل اليهود المستوطنين والمعدات والأسلحة في الموانئ العربية والفلسطينية، كما أن المشاغل البريطانية التي تشتغل بعمال عرب وفلسطينين سوف تتوقف، ولن تجد بريطانيا من يشغل لها قواعدها العسكرية ومحطاتها ومعامل تموينها ومخابزها العسكرية ومشاغلها الدفاعية وعنابرها الصناعية العسكرية التي تعتمد عليها في إنتاج قنابلها ورصاصاتها وذخائرها وتعتمد على أعمال الشغيلة والموظفين العرب والمسلمين في تشغيلها وتحريكها.
كما أن البنوك والشركات البريطانية والأجنبية كانت تشغل من العرب والمسلمين وتتحكم في الخدمات العامة والكهرباء والمياه والطبابة والنظافة والصحة التي توفرها للبريطانيين والجنود والقوات من جانب الشغيلة العرب، كلها تتجمد وتتوقف وتشل جميع أعمال المستعمر العسكرية والأمنية والاقتصدية والتجارية مع الخارج والداخل، مما يصيبه بالشلل التام في ظل ثورة شعبية وطنية متصاعدة يقبل عليها الشعب دفاعا عن وطنه ودفاعا عن أرضه وكرامته ودينه وهويته وعروبته.
وكان على شفا خطوات من نجاح ثورته وانتفاضته الشاملة وإجبار بريطانيا المحتلة على إيقاف الهجرة اليهودية والأجنبية إلى فلسطين والخروج منها ذليلة كما فعلت سوريا البطلة في مواجهة الاحتلال الفرنسي وكما فعلت ليبيا في مواجهة الإيطاليين وكما فعلت الجزائر في مواجهة الفرنسيين طوال قرن كامل ونيف حتى انتصرت واستقلت، وكما في اليمن في مواجهة الأتراك والإنجليز.

رشـوة النخـب القياديـة وخيانتـها لأوطانـها
والمسألة هنا تكمن في قدرة الاحتلال على رشوة قادة الشعب ونخبته بشتى الأساليب والطرق المباشرة وغير المباشرة وإفساد قادته أو كبارها وزعمائها، وهذه حقائق تؤيدها الوثائق والوقائع التاريخية المشهورة، وقد أثبت التاريخ أن الاحتلال نجح بنسبة كبيرة في تحقيق مؤامراته الإفسادية تلك، وهي عبر طريقين؛ إما عبر خيانة الزعماء وذلك بتوظيفهم في مخابرات المستعمر ومؤسساته السرية بشكل صريح ومباشر وعن وعي، وتغطية تلك الخيانة بغطاء ديني وإسلامي زائف ودسهم على الحركات الوطنية والإسلامية كالجماعت الماسونية والإخوانية أو عبر الزعماء الأتراك والصهاينة الوهابيين السعوديين الخونة الذين تمكنهم بريطانيا وفرنسا من السيطرة على المجال السياسي المحلي كما الأحزاب التي كانت قائمة في مصر خلال الاحتلال وبرعاية من الإنجليز أنفسهم.
وفي عدن والجنوب كانت بريطانيا قد أنشأت أحزابا سياسية تنفذ خططها الاستراتيجية وتحظى بعنايتها وتمويلها وتتشارك معها استغلال البلاد وثرواتها، ومنها حزب الأصنج وباسندوة والرابطة حزب السلاطين والإقطاعيين من عملاء بريطانيا، وحزب عدن للعدنيين، وحزب تجار مهاجري الهند والباكستان والأفارقة والأجانب الكومونولثيين عموماً، وكان هؤلاء يقدمهم الإنجليز كممثلين عن عدن والجنوب في أية محادثات سياسية تتحدث عن الاستقلال والمستقبل للمنطقة وعلاقتها ببريطانيا (الصديقة)، وهذا رأيناه في مصر وفي فلسطين والجزيرة العربية والمغرب العربي وتونس ولبنان والعراق والأردن وغيرها من البلاد العربية.

عمل الغازي الأجنبي التركي والعثماني والغربي الأوروبي منذ وطأت أقدامه الأرض العربية على تكوين طبقة مالية إقطاعية رأسمالية هجينة مختلطة من أبناء البلاد ومن أتباعه، وذلك من خلال تمليكهم الأراضي والأملاك العامة المشاعة والقبلية وأراضي الأوقاف والنذور العامة وسلمتها إليهم وحولتها إلى ملكيات خاصة بالأمراء والشيوخ والرؤساء المحليين المرتبطين بالمستعمر والأجنبي.

وكانت تشمل المشاعات العامة نسبة كبيرة من حجم الأراضي والثروات في البلاد الواحدة، بل إن السلطان محمد علي الألباني باشا مصر من قبل الأتراك كان قد قام بالسيطرة على جميع الأراضي الزراعية في عموم مصر وحول الشعب المصري العربي من ملاك أحرار للأرض التي يملكونها منذ أجيال عن آبائهم وأجدادهم وأسلافهم إلى مجرد أقنان، فلاحين خدم وأجراء للأرض ويدفعون "الأكار" للباشا وأتباعه وموظفيه وأمرائه الجدد من الأجانب الذين راح يقطعهم أراضي مصر بدلا عن أهلها.
وفي الشام والعراق وغيرها حدث مثل هذا، فقد عمل الأتراك منذ دخولهم إلى أرض العرب على انتزع الأراضي من أهلها وتوزيعها على أمرائهم وموظفيهم والقادة العسكريين لجيوشهم والشيوخ المتعاونين معهم من الرؤساء المحليين، وتحويل العرب الأحرار من ملاك لأرضهم إلى مكاريين لها وأكاريين ومستأجرين يعملون عليها ويدفعون إيجاراتها للأتراك، واستمر الحال على ذلك حتى القرن العشرين، أي مدة خمسة قرون وأكثر، ومن هذه الطبقة الاقتصادية الثرية العثمانية الهجينة نشأت البرجوازيات المحلية والرأسماليات الإقليمية، ثم تكاملت تلك الفئات الهجينة بالشرائح الاستعمارية المالية الأوروبية مع الاحتلال الأوروبي ونشأت برجوازيات محلية متداخلة المصالح مع الأجنبي المستعمر والمحتل، وقد جعلت طليعة المجتمعات العربية وطليعتها وصاحبة الثقافة والعلم الحديث منفردة ومؤهلة لسياسة وإدارة المجتمع والحكومات واحتكار النشاط السياسي والفكري، بينما كان أهل البلاد الأصليون من العرب محرومين من الثقافة والعلوم الحديثة ومن التجارة والمال ومن التأهيل والخبرات الحديثة.
وعندما طرحت قضية النهضة والاستقلال والحرية في القرن الماضي، فقد كان الأمر ملتبسا، فالذين تصدوا لتلك المهمة الجليلة كانوا في الأساس أبناء تلك الطبقة المهجنة المعلقة مصالحهم بالمستعمر والأجنبي اقتصاديا واجتماعيا، ولذلك ظلت تدور حول قضايا هامشية وجزئية محافظة لا ترقى إلى مفهوم النهضة والاستقلال والحرية الحقيقية كما يفهمها الغربيون والأوروبيون الذين سبقونا إليها، وحاولت النخب الاستعمارية الأصل المهجنة أن تتمصر وأن تتعرب وتتأقلم وأن تصبح طبقة محلية الطابع وأن تتكلم العربية الفصيحة واللهجات المحلية وأن تقترب من النخب القومية المحلية النابتة الأصيلة، وأن تعقد معها مصالح وروابط مع تراجع الإمبراطورية العثمانية واقترابها من زوالها، إلا أنها ظلت محاولات قاصرة لا يمكن بها إحداث الاندماج المتخيل وتجاوز الأزمة القائمة في المجتمعات المحلية الأصيلة، لأن الجماعتين اللتين تختفيان خلفهما كانتا متناقضاتين صميميا وبنيويا وعضويا تضمهما تناقضات لا يمكن التوفيق بينهما وبين مصالحهما، كانت كل مجموعة تمثل نمط إنتاج تهدف إليه وتتمناه مختلفا عن الواقع القائم بينهما وعن النمط الإنتاجي الاجتماعي السائد بفعل الاستعمار والاحتلال لا بفعل قوانين الطبيعة والحياة والسنن الكونية، فهو نمط إنتاج وطريقة للعيش تخدم طرفا واحدا من المعادلة هو المسيطر ولا تخدم مصالح وأهداف الطرف الآخر في المعادلة أي الطرف المستغل المظلوم وهو الأحق وصاحب الحق الأصلي.

النهضة والثورة الاجتماعية الشاملة
الحديث عن النهضة بمعزل عن الثورة الاجتماعية الوطنية الشاملة هو حديث فارغ عن المحتوى بالمعنى العلمي والواقعي والأكاديمي والتاريخي ولا يصلح مناقشته، لأنه هراء في هراء وهو يذكرنا بخطابات ومحاضرات وكلام عديد الزعماء العرب الذين أكثروا من الحديث عن نهضات لم تكن سوى ديماغوجية رخيصة يوجهونها إلى شعوبهم ويسخرون منهم ومن جهلهم وسذاجتهم ورغبتهم في تصديق ما يقولونه لهم من هراء في بدايات عهودهم ثم تعود لتلعنهم في كل مناسبة بعد أن تكتشف أنها واقعة ضحية نصب سياسي.
ولا يمكن استثناء الوطنيين عن الرجعيين منهم، فالكل مارس الخداع والتضليل على شعوبهم بنفس القدر، بل إن بعضهم اعتبر الإجادة في التضليل والكذب على الشعب هو جوهر السياسة، ولم أفهم مغزى أن يقرأ رئيس عظيم كتاب مكيافيلي "الأمير" خمسين مرة إلا عندما أعدت مراجعته ففهمت أنه يضع الخداع والكذب ويبيح الوسائل مهما تكن رخيصة في سبيل النجاح في تحقيق أهداف الحاكم مادامت الأهداف خيرة كالوحدة والتحرير والاستقلال، ففهمت المغزى أخيراً من إعادة قراءته خمسين مرة حتى حفظ غيبا من قبل الزعيم الأوحد إياه، وهو قد نجح في درسه لا شك، فهو لم يفهم من الأمير إلا الوسائل وليس الأهداف التي في أساسها الانتقال من واقع متخلف زراعيا وصناعيا وتعليميا إلى واقع جديد زراعيا وصناعيا وتعليميا وثقاتفيا وبنيويا، وأن تتغير حياة المواطنين البسطاء وأصحاب الدخل المحدود والفقراء إلى مستوى الطبقة المتوسطة على الأقل، وأن يزول الجهل العلمي والثقافي كليا عن المواطنين بشكل عام، وأن يتحول البوساء إلى قوى عاملة، وأن يتحول العاطلون إلى قوة منتجة مصنعة، وأن يتحول المزارعون المحرومون إلى طبقة متوسطة مالكة للأرض، وتتحول النساء إلى طاقة منتجة ولو في البيوت عبر المشغولات والحرف، وأن تشيد المصانع في كل مكان تتوفر فيه المواد الخام والمقومات الضرورية للتصنيع والتصدير والاستخدام المخطط له وتوفر الأسواق والجودة في المنتجات، وتمتد الطرقات لتشمل كل المناطق والعزل والمراكز والقرى ويتم رصفها بالوسائل المحلية المتوفرة، وشبكات نقل متطورة من سكك الحديد، والكهرباء والطاقة النظيفة من الهواء والرياح والشمس وغيرها بما فيها النقل عبر المصاعد الكهربائية التي عرفها العالم منذ قرنين وأكثر، وتطوير أساليب الزراعة إلى المستويات التي يعرفها العالم الآن من الوسائل والأساليب والتقننيات والأبحاث، بحيث يتم الاستفادة من الأرض ومن المياه المتوفرة بشكل أكثر اقتصادية وجدوى عبر إقامة المنشآت والسدود لحفظ المياه.