لا ميديا -
الزمان: السنة الهجرية الأربعون، بتوقيت فجر التاسع عشر من شهر رمضان. المكان: مسجد الكوفة. كانت الدنيا على موعد مع الدم الطاهر المسفوح في محراب الله. كانت الملائكة تملأ أرجاء السماء لاستقبال خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، أعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. يتسلل أشقى الأشقياء ليطعن سيد الأتقياء. كان المحراب يئن حزناً بتلاوته عليه السلام، والرواق يتنفس عطراً، وكأنني أقف الآن في أهل العراق: «يا أهل العراق، يا أهل الكوفة الغراء، احزنوا وأبكوا، فإن سيد هذه الأرض قد مضى إلى ربه، لقد تخلفتم عن الجهاد فعانى أمير المؤمنين وطفح قلبه بالألم وبث شكواه إلى الله».
فلقد واجه أمير المؤمنين (عليه السلام) مصاعب جمّة، ولعلّ ليس هناك من سمعه يبوح بشكواه الأصليّة خلال حياته، وإن كان (عليه السلام) كثيراً ما يشتكي القوم ويؤنّبهم من على المنبر. لم تقتصر شكواه على مساءلة الناس على عدم توجّههم إلى ميادين الجهاد، فلقد كان قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتصر ألماً، وكان الهاجس الذي يقلق أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعلّق بوضع الأمّة من بعده.
روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطب في آخر جمعة من شهر شعبان وتحدث عن شهر رمضان وشرفه وثواب الطاعة فيه، فقام إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل، ثم بكى (صلى الله عليه وآله)، فقال له أمير المؤمنين: يا رسول الله، ما يبكيك؟ قال: يا علي، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك».
وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، خذلوه وتخلوا عنه، حتى انتابه قلق كبير على مآلات مأساوية من بعده، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أي ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه (ويشير إلى لحيته) من هذه (ويشير إلى هامته).

استشهاده
خرج ابن ملجم، فأتى رجلا من أشجع، يقال له شبيب بن بحيرة، فقال له: تساعدني على قتل عليّ، نكمن له في المسجد الأعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وشفينا أنفسنا منه، وأدركنا ثأرنا؟! فلم يزل به حتى أجابه.
فأقبل به حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم، قد ضربت لها قبة، فقالا لها: قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل. قالت لهما: فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع. فانصرفا من عندها، فلبثا أياما ثم أتياها، فدعت لهما بحرير فعصبت به صدريهما، وتقلدا سيفيهما، ومضيا فجلسا مقابل السدة التي كان يخرج منها عليّ (عليه السلام) إلى الصلاة.
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أنبئ مرّات ومرّات بخبر استشهاده، فبعد الركعة الأولى هب شبيب بن بحيرة فضربة بالسيف على رأسه، فسقط على الأرض، ثم قام عبدالرحمن بن ملجم بطعنه بسيف مسموم. كانت العبارة التي سُمعت منه وتناقلتها المصادر هي: «بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة»، فتلك الليلة، التي هي بمثابة العزاء والمصيبة بالنسبة للمسلمين جميعاً، تحولت إلى ليلة ظفر وسرور وفوز بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كان على موعد معها. ويبدو أنها كانت ليلة جمعة؛ ففي بعض الروايات كانت ليلة التاسع عشر ليلة جمعة، فيما تقول روايات أخرى إنّ ليلة الحادي والعشرين كانت ليلة جمعة. وبعد يومين من طعنه توفي عليه السلام ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك، في ليلة القدر المباركة صعدت روحه الطاهرة إلى الله. والسلام عليك يومك ذاك ويوم تبعث حيا.