تقرير: نشوان دماج / لا ميديا -
في لحظة حَميّة كاذبة، وكي يبدو في مظهر الخليفة الموعود، يظهر أردوغان، زعيم الميكرفونات الصاخب، ليقول بأنه يدين بأشد العبارات العدوان الصهيوني على غزة، ويعلن «قطع تركيا جميع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب إحجام الأخيرة عن إنهاء الحرب في غزة».
مثل هذا الإعلان عن قطع العلاقة الحميمية بين تركيا والكيان الصهيوني لم يلبث أن تبين أنه نوع من قطع العلاقة من الباب واستمرارها عبر النافذة، حيث استبدلت صادرات أردوغان وجهتها «إلى إسرائيل» بـ»إلى فلسطين»، كنوع من التحايل على اللغة لا أكثر، أو كما يفعل الخونج مع بنوكهم الربوية وفق قاعدة ذبح الدجاج على الطريقة الإسلامية. وإلا ما الذي سيفعله محمود عباس وسلطته الكسيحة بصادرات الصلب التركية مثلا، خصوصا إذا عرفنا أنها بلغت في مارس الماضي وحده ما نسبته 9 آلاف بالمائة؟ فالنسبة المهولة هذه لا تتحدث عن سيخ أو سيخين يحتاجهما محمود عباس لإنشاء غرفة فندقية في رام الله، وإنما عن بنية صناعية ضخمة تجعل من الكيان الصهيوني المستورد الأول للصلب التركي.
غير أن هذه النسبة المهولة لم تقتصر على قطاع الصلب فحسب، بل تأتي قبلها نسبة الصادرات التركية إلى الكيان فيما يخص المواد الغذائية والزراعية. ففي الربع الأول من 2024، حلّت الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية ومشتقاتها في المرتبة الأولى ضمن الصادرات التركية «إلى فلسطين»، تلتها صادرات الصلب

حركات صبيانية
في أيار/ مايو 2024، أعلنت حكومة أردوغان وقف كافة أشكال التبادل التجاري مع «إسرائيل». غير أن البيانات الرسمية، بحسب ما أوردته صحيفة «بيرغون» التركية، تظهر أن التجارة بين الطرفين لم تتوقف، بل استمرت عبر مُحلّل جديد اسمه «فلسطين» لتتحدث عن قفزات هائلة حدثت في صادرات الصلب والسجاد «إلى فلسطين». شبه الجملة هذه «إلى فلسطين» تحاول الحكومة الأردوغانية من خلالها أن تبرر عهرها بوقاحة لا تقل عهرا عن الفعل نفسه، فهي تعرف أن فلسطين التي تقول إن صادرات الصلب والسجاد والحبوب بمختلف أنواعها تذهب إليها، تخضع معابرها بالكامل لسيطرة «إسرائيلية»، وبالتالي لا داعي لهذه «الحركات الصبيانية» من حكومة تريد أن تدعي شرفا ليس لها أصلا، فالأرقام لا تثير تساؤلات واسعة حول التناقض بين الموقف السياسي والخطوات الاقتصادية الفعلية وإنما تفصح عن جعل تركيا لفلسطين بمثابة قنطرة للإبقاء على علاقتها الحميمة مع الكيان.

ارتفاع غير مسبوق للصادرات التركية إلى الكيان
وفقاً لبيانات أعلنتها وزارة التجارة التركية ومجلس المصدرين الأتراك (TİM) لشهر آذار/ مارس الماضي، شهدت صادرات تركيا من الصلب «إلى فلسطين» ارتفاعاً غير مسبوق بلغ نحو 9 آلاف بالمائة مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق. وبلغة الأرقام بلغت قيمة صادرات تركيا من الصلب «إلى فلسطين» في مارس/ آذار 2024 نحو 13 مليوناً و901 ألف و470 دولاراً، مقارنة بـ153 ألفاً و400 دولار فقط في الشهر نفسه من عام 2023، وهو ما يمثل زيادة سنوية مذهلة بنسبة 8,962.2 %.
وعلى صعيد الربع الأول (يناير -مارس)، بلغت قيمة صادرات الصلب 41 مليوناً و421 ألفاً و420 دولاراً، في مقابل 177 ألفاً و560 دولاراً في الفترة نفسها من العام الماضي، أي بزيادة قدرها 23,228.1 %.
وهذا يطرح سؤالا كبيرا بشأن الاتساق بين الموقف السياسي المعلن والسياسات الاقتصادية الواقعية. فبالرغم من إعلان أنقرة وقف التبادل التجاري مع «تل أبيب»، تشير المؤشرات الرقمية الرسمية إلى أن هذا التبادل لم يتوقف أصلا، وإنما أعيد توجيهه عبر شيء اسمه الأراضي الفلسطينية، التي يعرف الجميع أنها تخضع بالكامل للسيطرة «الإسرائيلية» من حيث المعابر والجمارك. وبالتالي فإن التفسير الأكثر منطقية هو أن هذه الصادرات تستمر في خدمة السوق «الإسرائيلي» لكن على الطريقة الإسلامية الأردوغانية.
في 2023، كان الكيان الصهيوني هو أول وجهة لصادرات تركيا من الصلب بقيمة بلغت 717 مليون دولار. لكن في 2024، لم يعد ذلك الكيان مذكورا بالاسم ضمن قوائم «الدول» المستوردة للصلب التركي، وذلك ببساطة لأنه تم استبدال اسم الكيان باسم آخر هو «فلسطين»، فكان للأمر أن يستمر بوتيرة أكبر من خلال استخدام «المسار الفلسطيني» كقناة بديلة للتصدير إلى الكيان، في وقت تعلن فيه الحكومة الأردوغانية موقفاً معارضاً للعدوان الصهيوني على غزة.
في الربع الأول من 2024، حلّت الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية ومشتقاتها في المرتبة الأولى ضمن الصادرات التركية إلى الكيان الصهيوني عبر بوابة «فلسطين».
كما سجلت صادرات السجاد بدورها رقماً قياسياً جديداً. فقد ارتفعت من 13 ألفاً و670 دولاراً في مارس/ آذار 2023 إلى مليونين و180 ألفاً و430 دولاراً في الشهر نفسه من العام الجاري، بزيادة نسبتها 15,848.5%. وعلى مستوى الأشهر الثلاثة الأولى من السنة، قفزت قيمة صادرات السجاد من أرقام شبه رمزية في عام 2023 إلى 5 ملايين و39 ألفاً و670 دولاراً، ما يمثل ارتفاعاً نسبته 36,762 %.

تعاون عسكري مستمر ومرشح للتطور
أما في المجال العسكري، فإن العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني مهما بدت متوترة فإنها تزداد تعمقا. فعلى الرغم من محاولات دولة أردوغان إبداء مشهد من التوتر بينها وبين الكيان، إلا أن أردوغان نفسه يربط ذلك التوتر بشخص نتنياهو لا أكثر، فهو يريد أن يربط العدوان على غزة وكل الجرائم التي يرتكبها جيش الكيان الصهيوني هناك بنتنياهو فقط، كما لو كــــان يفصح عن مجرد عداء شخصي بينه وبين رئيس حكومة الكيان، فإذا جاء رئيس حكومة جديد فلا مشكلة إطلاقا بالنسبة له.
وباعتبار أن الجانبين يرتبطان ارتباطاً تاريخياً وثيقاً تؤكده مجريات العلاقة بينهما منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن، فإن المتوقع هو أن تشهد العلاقات العسكرية بينهما تطورا لافتا خلال السنوات القادمة. كما أن ما نجم عن الأحداث العاصفة التي وقعت في سوريا، منذ الإطاحة بالنظام السوري وصعود جماعات داعش الجولانية الأردوغانية، كشف بجلاء عن التعاون العسكري الوثيق بين تركيا والكيان الصهيوني، والتنسيق المشترك بينهما على كافة المستويات.
مؤخرا، كشفـــــت صحيفة «إسرائيل هيوم» العبرية عن «توصل تركيا وإسرائيل إلى اتفاق للتعاون العسكري في سوريا لمنع أي احتكاك بين الجانبين».
الصحيفة أكدت نقلا عن «مصدر إسرائيلي رسمي» أن «تل أبيب وأنقرة توصلتا إلى تفاهمات بشأن تنسيق أنشطتهما العسكرية في سوريا بهدف منع الاحتكاك بين القوات من الجانبين»، وأن «تل أبيب تمسكت بموقفها بأن جنوب سوريا سيبقى منزوع السلاح».
ووفقا لما نقلته صحيفة «معاريف» العبرية، فإن «مسؤولين إسرائيليين أكدوا أن من المهم تعزيز آلية بين أنقرة وتل أبيب من شأنها منع الصراع الذي لا يريده أي من الطرفين»، وأنه «رغم الخطاب العلني للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يحذر فيه إسرائيل من مواصلة نشاطها العسكري في سوريا، فإن الأتراك ينقلون في الغرف المغلقة رسالة مفادها أنهم غير مهتمين بالمواجهة مع إسرائيل».
وسائل إعلام عبرية أخرى ذكرت أن «اجتماعين اثنين عقدا بين ممثلين من إسرائيل وتركيا في أذربيجان، وكان الهدف الرئيسي للمحادثات هو منع تصعيد الأزمة الحالية بين تركيا وإسرائيل».

حقبة جديدة من العلاقات في عهد حزب العدالة
تاريخيا، عقب وصول حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى الحكم في انتخابات عام 2002، بدأت حقبة جديدة في العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني. فوصول حزب «إسلامي» إلى سدة الحكم في تركيا لم يمنعها من توقيع عدد كبير من الصفقات التسليحية مع الكيان الصهيوني، ففي نفس العام وقع الجانبان عقداً بقيمة 688 مليون دولار، تنفذ بموجبه الشركات «الإسرائيلية» عمليات تحديث لعدد 170 دبابة تركية من نوع «إم-60 أيه1»، بحيث تتم ترقيتها الى عيار «إم-60 صابرا» المعروف تركياً باسم «إم-60 تي»، وشملت هذه التحديثات تزويد الدبابات بمدافع جديد من عيار 120 مللم ودروع محسنة وأنظمة إدارة نيران جديدة.
وبالفعل تسلمت تركيا هذه الدبابات خلال الفترة بين عامي 2005 و2010. كما تسلمت خلال الفترة 2001 و2004 عدد 54 منظومة رادار للمراقبة الساحلية من نوع «أي إل/إم- 2023%، في صفقة بلغت قيمتها 700 مليون دولار تم توقيعها عام 1999. كما تسلم سلاح الجو التركي خلال الفترة ما بين عامي 1999 و2012 أعدادا كبيرة من الطائرات من دون طيار «إسرائيلية» الصنع، وتسلم خلال 2001 و2004 أكثر من مائة ذخيرة جوالة من نوع «هاربي»، بلغت قيمتها الإجمالية 76 مليون دولار، يضاف إليها أعداد محدودة من الطائرات من دون طيار من نوعي «سيرشر» و«آيروستار».
وفي مارس 2006 عقد الجانبان أيضاً صفقات عسكرية جانبية من بينها صفقتان تتعلقان بأجهزة الحرب الإلكترونية والرادار.
وما بين 2002 و2010 شهدت العلاقات تطورا ملحوظا في التعاون الاستخباراتي في عدة اتجاهات كان من أهمها النشاط الكردي في سوريا والعراق. فضلا عن اللقاءات والزيارات المشتركة لرؤساء أركان وضباط كبار التي ارتفع من خلالها معدل النشاط العسكري المشترك بنسبة 50 بالمائة.
في مايو 2005 توجه أردوغان كرئيس للحكومة التركية حينها إلى «إسرائيل»، في زيارة وصفت بالتاريخية، عاقدا برفقة وزير الدفاع محمد غونول سلسلة من المباحثات مع كل من رئيس حكومة الكيان أرييل شارون وموشيه كاتساف رئيس الكيان. وفي ديسمبر من نفس العام توجه رئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني دان حالوتس إلى أنقرة، وعقد مباحثات مع نظيره التركي حلمي أوزكوك اتفقا خلالها على استمرار عقد المناورات البحرية التي سميت «حورية البحار»، في نفس هذا الشهر زار «تل أبيب» قائد القوات الجوية التركية وأجرى مباحثات حول تحديث دفعة أخرى من مقاتلات الفانتوم التركية.
خلال تلك الفترة كان هناك زيارة لوزير الدفاع الصهيوني إيهود باراك الى أنقرة، وذلك في فبراير 2008، معلنا حينها أن «البلدين وقعا 15 اتفاقية أمنية وعسكرية، وأعادا إطلاق مباحثات حول شراء تركيا لأقمار صناعية خاصة بالتجسس».
عام 2009 حاولت أنقرة أن تقول بأن علاقاتها العسكرية مع الكيان شهدت تدهورا على خلفية العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وأنها قامت بتأجيل مناورات «نسر الأناضول» التي كانت مقررة في أكتوبر من نفس العام، وكانت «إسرائيل» من ضمن المشاركين فيها دورياً. إلا أنه سرعان ما هدأ ذلك «التوتر» عقب زيارة وزير الدفاع «الإسرائيلي» إيهود باراك إلى أنقرة عام 2010، وحينها تم التوقيع على صفقة خاصة بأنظمة الملاحة الجوية بقيمة 141 مليون دولار، وصرح الوفد المرافق له عن 60 معاهدة واتفاقية عسكرية بين الجانبين، تم الاتفاق خلال الزيارة على استمرار تفعيلها.
ثم جاءت أحداث «سفينة مرمرة» في مايو 2010، ليعود أردوغان إلى المزايدة بالقول إن بلاده ألغت نحو 12 مشروعا دفاعيا وصفقات تسليحية بقيمة تقترب من ملياري دولار مع «إسرائيل» بسبب هذه الأحداث. لكن الحقائق أثبتت أن اتفاقيات عسكرية أخرى بين الجانبين مازالت سارية ولم تلغ رسمياً، حيث تلقت تركيا في ما بعد 2010 أسلحة وأنظمة «إسرائيلية»، منها تسلمها نحو 470 مدرعة «إسرائيلية» من نوع «نافيجتور»، بموجب صفقة تم توقيعها عام 2009 بقيمة 250 مليون دولار، وكذا تسلمها عشر طائرات هجومية دون طيار من نوع «هيرون» بقيمة 193 مليون دولار. وفي فبراير عام 2013، تم تزويد طائرات الإنذار المبكر التابعة لسلاح الجو التركي، بأربع منظومات حرب إلكترونية من إنتاج شركة «أيلتا الإسرائيلية»، بقيمة 200 مليون دولار. وهكذا وهكذا، حيث لا تتوقف الاتفاقات على ما يتم إعلانه رسميا، بل يظل التعاون المتبادل حقيقة وجودية بين تركيا أردوغان والكيان الصهيوني، وعلى مختلف الأصعدة.