خاص /  مهدي زلزلي - / لا ميديا -
إذا كان معظم العرب قد تأخروا في إنصاف اليمنيين وتقدير شجاعتهم ومروءتهم ونخوتهم حق قدرها، إلى حين معاينة الدور اليمنيّ العظيم في نصرة غزة وإسنادها في زمن التقاعس والتخاذل العربيين، فإن أهل المقاومة في لبنان من جنوبه إلى بقاعه والضاحية الجنوبية لعاصمته بيروت، بكروا في ذلك وسبقوا الجميع إليه، على نهج سيدهم الشهيد الذي ذكّر الجميع أن اليمن أصل العروبة ومبتدأها ومنتهاها حين حاول البعض نزع صفة العروبة عن اليمنيين وإسباغ طابع «العمل العربيّ المشترك» على العدوان الآثم عليهم وحصارهم وتجويعهم وقتلهم.
ولعل كثيرين لا يعرفون أن أهل «جنوب لبنان»، لا يحبّذون كثيرًا هذه التسمية الجغرافية البحتة لمسقط رؤوسهم ومهوى أفئدتهم، ويفضّلون عليها تسمية أخرى هي «جبل عامل» التي تذكّرهم وتذكّر سواهم بانتسابهم إلى قبيلة عاملة العربية اليمنية التي قدِمت بعد انهيار سدّ مأرب من «اليمن العزيز» الذي لا يرد في أدبياتهم إلا ملحوقًا بهذه الصفة، تيمّنًا بعزّة أهله ومعزّته في قلوب العامليين على السواء.
تبدو هذه المقدمة ضرورية قبل الحديث عما تفعله شخصية يمنية في مسرحية لبنانية عاشورائية عُرِضَت أخيرًا في غير منطقة من الجنوب، وحصدت اهتمامًا ونجاحًا ملحوظين.

رحلة في الزمان والمكان
المسرحية التي أنتجتها وقدّمتها «مفوّضية جبل عامل الثانية» (منطقة النبطية) في كشافة الإمام المهدي «عج»، جريًا على عادتها السنوية، وهي تحمل اسم «سَفَر»، وقد كتبها الشهيد المبدع أحمد بزّي أو «الفنان الرائد»، الذي ارتقى حاملًا بندقيته مدافعًا عن تراب «جبل عامل» أثناء العدوان «الإسرائيلي» الأخير على لبنان، تاركًا إرثًا كبيرًا من المسرحيات الهادفة والمميّزة.
وتدور المسرحية حول رحلة غريبة في المكان والزمان يجد الطفل «بلال» نفسه خائضًا غمارها، ليحل في الكوفة عام 60 للهجرة، قبل أن يعود إلى بلده في خضمّ العدوان الأخير حاملًا في جعبته الكثير من الدروس والعِبَر التي تعلمها أثناء مجاورته الفتى «أمين» الكاتب المفترض لرسائل الكوفيين للإمام الحسين (عليه السلام)، في تلك الحقبة.

دروس الفداء والتضحية
وفــي إشارةٍ غير مباشرة إلى ما أثبتته الأحداث منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 من أن اليمنيين واللبنانيين كانوا في طليعة الشعوب التي تعلمت دروس الفداء والشجاعة والتضحية من ملحمة كربلاء واستلهمت من الكوفة العِبَر حول عواقب التخاذل، لا يصل بلال إلى دار أمين في الكوفة إلا وقد غادرها للتوّ طفل يمنيّ سبقه في تعلم الدروس واستلهام العِبَر قبل أن يعود بدوره إلى بلاده وزمانه.
المشهد القصير الحافل بالدلالات للطفل اليمنيّ في مستهل المسرحية، حمل قدرًا أعلى من الرمزية مع انتقال المسرحية إلى مفوّضية جبل عامل الأولى (منطقة صور) مع فريقٍ جديدٍ من الممثلين، حيث وقع الاختيار بعد إجراء الاختبارات على الطفل مرتضى حمادي لأداء دور الطفل اليمني، وهو الآتي من بلدةٍ دفعت في حبّ المقاومة ثمنًا جعلها حاضرةً من حواضرها بعد مجزرتَين ضجّ بهما العالم في نيسان/ أبريل 1996 وتمّوز/ يوليو 2006، هي بلدة قانا، وهو أيضًا نجل الشهيد علي حمادي الذي ارتقى مقبلًا غير مدبرٍ في العدوان الأخير أيضًا.
ولا ينتهي عرضٌ من عروض المسرحية في محطتها «الصورية»، إلا وبلال (الذي لعب دوره الطفل صالح زلزلي) غارقٌ في بكاء مرير، هو امتدادٌ لبكائه في المسرحية ثلاث مرات: على مسلم بن عقيل، وعلى والده الشهيد، وعلى سيد المقاومة وشهيدها الأسمى.

تجاور «اليمني» و«العاملي» في حب فلسطين
وكي تكتمل لعبة الرمزية والدلالات، يترك مرتضى حمادي، نجل الشهيد الحقيقي، مكانه بين رفاقه المصطفين لتحية الجمهور في هذه اللحظة، ويركض نحو صالح زلزلي ليعانقه عناقًا مطوّلًا، من دون أن يطلب منه أحد ذلك، مواسيًا رفيقه في «فجيعته المسرحية» ومتجاوزًا «يتمه الحقيقي»، ليثبت أن المفتَقِد إلى الشيء يعطيه إن كان فاقده لا يفعل، فيعلو تصفيق الجمهور بينما تُسدَل الستارة على مشهدٍ غير مكتوب مسبقًا، لعله من أجمل مشاهد المسرحية.
ولا تعلم بينما تراقب مشهد الطفلين بعينين دامعتين، إن كانت جينات النخوة اليمنية قد انتقلت إلى مرتضى حمادي لمجرّد حمله في المسرحية صفةً تجاوزت كونها جنسية عادية كغيرها لتصبح مفخرةً لحاملها، أو أن روح والده الشهيد دفعته ليكون بلسمًا للقلوب، متفانيًا في سبيل الآخرين، أو لعلها خلطة فيها شيء من كل شيء جميل، يتجاور فيها «اليمنيّ» و«العامليّ» كما جمعهما من قبل حبّ فلسطين وإسناد أبنائها الشجعان بمعزل عن خطورة التحديات وعظمة التضحيات.

 صحافي وقاص لبناني