دمشق/ خاص / لا ميديا -
أخيراً، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في ضيافة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن، وعلى منبر الأمم المتحدة في نيويورك، وبعدها عاجلاً أو آجلاً مع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وهنا بيت القصيد.
هذه اللحظة هي التي تم العمل للوصول إليها خلال أربعة عشر عاماً من الحرب والحصار على سورية، والتي انتهت بإسقاطها (قبل إسقاط نظامها) أولاً من الداخل، ثم من الخارج، والهدف كله الوصول إلى مشهد واشنطن ونيويورك، والذي غيّر المنطقة وتوازنات القوى والقوة الإقليمية الدولية، كما لم تغيّره دولة أخرى في العالم.
بدايةً، من هو أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، حتى تعطى كل هذه الأهمية زيارته لواشنطن ونيويورك زيادة عن غيره من زعماء العالم، الذين اعتلوا منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة؟!
هو الذي يشغل اليوم، وفق البيان الدستوري الذي وضعته سلطته هو نفسه ووفق التوصيف القانوني الرسمي، منصب رئيس السلطة الانتقالية المؤقتة؛ لكنه وفق سلطة الأمر الواقع، يطلق عليه توصيف "رئيس الجمهورية العربية السورية".
لكن ما قبل ذلك هو الأهم، فهو "أبو محمد الجولاني"، رئيس "حركة تحرير الشام"، وهي التسمية المحسنة لـ"جبهة النصرة"، وهي بدورها التسمية المحسنة لـ"تنظيم القاعدة"، وهو رفيق الأردني "أبو مصعب الزرقاوي" زعيم "تنظيم القاعدة" الذي حارب الأمريكيين في العراق، ورفيق "أبو بكر البغدادي" زعيم "تنظيم داعش" الذي حارب الأمريكيين وكان سجينهم في العراق يوم كان الجنرال ديفيد بترايوس -الذي التقاه خلال هذه الزيارة لواشنطن- مديراً لوكالة المخابرات الأمريكية، وهو الذي كان وراء تخصيص عشرة ملايين دولار ثمناً لرأسه، ولم يكن ينقص كل هذه التوصيفات سوى أن يُقال أنه كان المخطط لهجمات الحادي عشر من أيلول عام 2000 في نيويورك وواشنطن بدلاً من ابن لادن.
توصيف هذه الصورة لا تحتمله المدارس السياسية والدبلوماسية والفكرية، المعروفة في العالم، اليوم وسابقاً، من شعرة معاوية الواقعية إلى السريالية إلى الماكافيللية إلى الشيوعية إلى الديمقراطية وغيرها، ولا بد من ابتكار تسمية وتوصيف لمدرسة سياسية جديدة نراها تتشكل اليوم، وهي التي حملت الجولاني من سجون الأمريكيين في العراق إلى قصر الرئاسة السورية، ثم إلى لقاء ترامب في السعودية، ثم إلى نيويورك لاعتلاء منبر الأمم المتحدة، ثم إلى واشنطن لعقد اللقاء الثاني مع الرئيس ترامب.
مع هذا المشهد، لا يمكن توصيف تفاصيل هذه المدرسة الجديدة في عالم السياسة والدبلوماسية، إلا بأنها بعيدة عن الأخلاق والقانون الدولي ومصالح وحقوق الشعوب وحقوق الضحايا، وهي لعبة مصالح، ومصالح فقط، حتى لو أن ضحيتها أنظمة وشعوب ودول.
القصة لم تبدأ اليوم، ولم تنتهِ بعد. وفي كل ذلك، فتش عن "إسرائيل"، وهذا ما اتضح منذ لحظة سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، إذ كانت أول خطوة هي حل الجيش السوري والقوى الأمنية، ثم تدمير كل مقدرات الجيش السوري، من طائرات وآليات ومعدات ومقرات ومراكز أبحاث، بسلسلة غارات "إسرائيلية" تجاوزت الثلاثمئة غارة، وتلاها عشرات الغارات التي طالت حتى مواقع سيادية سورية، مثل القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، ثم نقل رفات جنود "إسرائيليين" كانوا مدفونين في مقبرة اليرموك في ضواحي دمشق، ثم تسليم "إسرائيل" ما تبقى من أغراض ومقتنيات الجاسوس "الإسرائيلي" إيلي كوهين، الذي أعدم في دمشق عام 1965، ثم سلسلة لقاءات للشرع مع مسؤولين سياسيين وعسكريين "إسرائيليين" في الإمارات وتركيا وأذربيجان، وبين مسؤولين سوريين و"إسرائيليين" في دمشق و"تل أبيب" وباريس وعمّان وعدة عواصم ومدن أخرى، وتدرجت هذه اللقاءات من السرية إلى المسكوت عنها، إلى الاعتراف غير المباشر ثم الاعتراف المباشر، والتي توجت بتوقيع اتفاق أمني في عمّان حول الجنوب السوري، والذي جعل للكيان "الإسرائيلي" اليد الطولى والمتحكمة في هذا الجنوب، وحتى على بعد أقل من 15 كيلومتراً عن دمشق جنوباً، وهي التي مهدت لإعطاء الضوء الأخضر للجولاني لزيارة واشنطن ونيويورك.
والقصة لم تنتهِ هنا، ولم تبلغ ذروتها بعد، وهو المتوقع أن يحدث آجلاً أو عاجلاً، عندما سيلتقي الجولاني مع رئيس الحكومة "الإسرائيلية" بنيامين نتنياهو، وهنا بيت القصيد، إذ أكدت وسائل الإعلام العبرية أن اتفاقاً أمنياً سيتم توقيعه خلال اللقاء، ونقلت عن نتنياهو تصريحات تلخص هذه الصورة، قال فيها: "حطمنا مواقع المحور الإيراني، وساعدنا على سقوط نظام الأسد"، و"عززنا قبضتنا، ليس فقط على هضبة الجولان، بل أيضاً ما وراء الجولان، وعلى قمة جبل الشيخ"، و"نناقش مع سورية شيئاً لم يكن حتى في الخيال، قبل انتصارنا الكبير على حزب الله"، و"نأتي لنناقش معهم ترتيباً أمنياً يتم فيه نزع السلاح في جنوب غرب سورية".
هذا يؤكد أن "إسرائيل" لن تكتفي بالاتفاق الأمني، وإنما ستدخل من هذه الأبواب لتتغلغل في كل النسيج السوري، ومنها إلى كل المنطقة، ومشروع "الشرق الأوسط الجديد" واضح ومعروف، وما تغير فيه بين نسخته القديمة أيام اليمين الأمريكي المحافظ بأن يكون بالطريقة العسكرية والتقسيم، ليصبح وفق الرؤية الترامبية على أساس الفيدراليات والهيمنة السياسية والاقتصادية، لكن الهدف لا يزال هو نفسه.
عندما قلنا بأن سورية هي مفتاح المنطقة وأحد أهم المفاتيح السياسية في العالم، كان البعض يتهمنا بالمبالغة. وها هو مشهد اليوم، الذي لم يكن يدور حتى في أحلام وأوهام أحد (بمن فيهم نتنياهو كما قال بنفسه)، نراه يتحقق اليوم، ليس فقط في سورية وحولها فقط، وإنما يدخل مفاهيم وأفكاراً وطرقاً جديدة في السياسة العالمية، ستكون هي سمة المرحلة المقبلة للمنطقة والعالم.
مع هذه التطورات، أصبحت كل الدلائل تؤكد أن سورية اليوم على أبواب مرحلة جديدة ستؤثر نتائجها وتداعياتها على المنطقة كلها. ولذلك، الجميع يراقب المشهد السوري، بعضه متوجس، وبعضه ينتظر توضيح الصورة، ليبدأ ترتيب أموره على أساسها. لكن ما يمكن تأكيده أن سورية ليست فقط هي التي تغيرت، وإنما ستتغير معها كل المنطقة. وما بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، يوم سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، لن يكون كما قبله بشيء، إذ تغيرت التوازنات الإقليمية والدولية وموازين القوى والقوة في العالم بناء على مؤشرات البوصلة السورية.