خاص/ لندن/ سعيد محمد / لا ميديا -
على مدار عقود، ظل اليمن في نظر المخططين الاستراتيجيين «الإسرائيليين» مجرد نقطة بعيدة على خريطة الشرق الأوسط؛ دولة مضطربة وغارقة في صراعاتها الداخلية، لا تشكل تهديداً مباشراً وملموساً للأمن القومي «الإسرائيلي». 
كان الاهتمام بها يقتصر على أهميتها الجيوسياسية المتمثلة في مضيق باب المندب، شريان التجارة العالمي. لكن العقد الأخير شهد تحولاً جذرياً في هذه النظرة، حيث انتقل اليمن من هامش التفكير الاستراتيجي إلى مركز اهتمام متزايد، ليصبح اليوم جزءاً لا يتجزأ من عقيدة «الأمن الإسرائيلية» الأوسع، لا سيما في سياق الصراع الإقليمي مع ما يعرف بمحور المقاومة.
إن صعود جماعة أنصار الله وتحالفها الوثيق مع طهران، وما تلاه من هجمات مباشرة وغير مباشرة ضد أهداف «إسرائيلية» وبحرية دولية، قد فرض واقعاً جديداً حوّل اليمن من «تهديد محتمل» إلى «جبهة جنوبية متقدمة» في الحرب الباردة الدائرة بين «إسرائيل» والمحور.
تبحث هذه المقالة في أبعاد هذا التحول، وتستكشف كيف أعادت «إسرائيل» تقييم موقع اليمن في خريطتها الاستراتيجية، من خلال تحليل الأبعاد الجيوسياسية، والعسكرية، والتحالفات الإقليمية.

1. الحتمية الجيو-استراتيجية: عقدة باب المندب التاريخية
قبل ظهور تهديد أنصار الله، كان اهتمام «إسرائيل» باليمن يرتكز بشكل شبه كامل على الجغرافيا. يسيطر اليمن على الضفة الشرقية لمضيق باب المندب، وهو عنق الزجاجة البحري الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي. بالنسبة لـ«إسرائيل»، يمثل هذا المضيق شرياناً حيوياً لأسباب عدة:
- الأمن الاقتصادي والتجاري: يمر حوالي 30٪ من التجارة البحرية «الإسرائيلية» عبر البحر الأحمر، بما في ذلك واردات النفط الحيوية من دول الخليج والصادرات إلى الأسواق الآسيوية والأفريقية المزدهرة. ميناء «إيلات»، المنفذ الجنوبي الوحيد لـ»إسرائيل»، يعتمد كلياً على حرية الملاحة في هذا الممر. أي تعطيل أو إغلاق لمضيق باب المندب سيجبر السفن «الإسرائيلية» على اتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح الأطول والأكثر تكلفة، مما يشكل ضربة قاصمة للاقتصاد «الإسرائيلي».
- الذاكرة التاريخية للضعف: لم يكن هذا التهديد نظرياً أبداً. ففي حرب أكتوبر 1973، قامت مصر بالتعاون مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي آنذاك) بفرض حصار بحري على مضيق باب المندب، مما أدى إلى منع السفن المتجهة إلى «إسرائيل» من المرور. تركت هذه الحادثة أثراً عميقاً في الذاكرة الاستراتيجية «الإسرائيلية»، وأكدت أن السيطرة على هذا الممر المائي من قبل قوى معادية يمكن أن يخنق «إسرائيل» بحرياً.
- البعد العسكري: يستخدم سلاح البحرية «الإسرائيلي»، بما في ذلك غواصاته من طراز «دولفين» التي يعتقد أنها تمتلك قدرة على توجيه ضربة نووية، البحر الأحمر كمسرح عمليات حيوي للوصول إلى المحيط الهندي والاقتراب من إيران. وبالتالي، فإن حرية الحركة عبر باب المندب ليست مجرد ضرورة اقتصادية، بل هي أيضاً متطلب عسكري أساسي لعمق «إسرائيل» الاستراتيجي.
لذلك، كانت «العقيدة الإسرائيلية» التقليدية تجاه اليمن ترتكز على مراقبة الوضع وضمان عدم سيطرة أي قوة معادية كبرى على هذا المضيق، مع الاعتماد بشكل كبير على القوة البحرية الأمريكية والمصرية لتأمين الممر.

2. المحور الإيراني: تحويل اليمن إلى منصة في «محور المقاومة»
كانت نقطة التحول الكبرى هي سيطرة أنصار الله على صنعاء في عام 2014، وتدخل التحالف بقيادة السعودية في عام 2015. من منظور «إسرائيلي»، لم يكن هذا مجرد صراع داخلي آخر، بل كان فصلاً جديداً في مشروع التوسع الإقليمي الإيراني. سرعان ما بدأت «إسرائيل» تنظر إلى أنصار الله ليس كجماعة محلية، بل كوكيل رئيسي في «محور المقاومة» الذي تقوده إيران، على غرار حزب الله في لبنان. 
هذا التحول في المنظور كان مدفوعاً بتقارير استخباراتية غربية و«إسرائيلية» متواترة تفيد بأن إيران تزود اليمنيين بترسانة متطورة من الأسلحة، بما في ذلك:
- الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز: صواريخ قادرة على الوصول إلى جنوب «إسرائيل»، بما في ذلك ميناء «إيلات» والمنشآت النووية في «ديمونا».
- الطائرات بدون طيار (المُسيّرات): طائرات انتحارية بعيدة المدى (مثل سلسلة «صماد» و«وعيد») يمكنها إرهاق أنظمة الدفاع الجوي «الإسرائيلية» وضرب أهداف استراتيجية.
- الأسلحة البحرية: ألغام بحرية، وزوارق سريعة مفخخة، وصواريخ مضادة للسفن، مما يمنح الجيش اليمني القدرة على تهديد الملاحة في البحر الأحمر بشكل مباشر.
من خلال تمكين أنصار الله، نجحت إيران في تحقيق هدف استراتيجي طالما سعت إليه: فتح جبهة جديدة ضد «إسرائيل» من الجنوب، مما يضعها تحت ضغط من اتجاهات متعددة. يُعرف هذا في الأدبيات الاستراتيجية «الإسرائيلية» باسم «استراتيجية الطوق» أو «حلقة النار» الإيرانية. فبينما يشكل حزب الله تهديداً من الشمال، وسوريا (سابقاً) من الشرق، أصبح أنصار الله يمثلون تهديداً من الجنوب، مما يعقد حسابات الدفاع «الإسرائيلية» ويشتت مواردها العسكرية والاستخباراتية.

3. من النظرية إلى التطبيق:هجمات ما بعد 7 أكتوبر 2023
ظلت المخاوف «الإسرائيلية» لفترة طويلة في الإطار النظري، ولكن بعد هجمات 7 أكتوبر 2023 والحرب التي تلتها في غزة، تحول التهديد اليمني إلى واقع ملموس بعدما أعلن الأنصار صراحة انضمامهم إلى المعركة «إسناداً لغزة»، وبدأوا في تنفيذ سلسلة من الهجمات التي غيرت قواعد اللعبة:
- هجمات مباشرة على «إسرائيل»: أطلق اليمنيون صواريخ باليستية وطائرات بدون طيار باتجاه مدينة «إيلات». وعلى الرغم من أن معظم هذه الهجمات تم اعتراضها بنجاح من قبل نظام الدفاع الجوي «الإسرائيلي» المعروف باسم «آرو» (السهم)، وأحياناً بواسطة سفن حربية أمريكية أو فرنسية، إلا أنها كانت المرة الأولى التي تتعرض فيها «إسرائيل» لهجوم مباشر من الأراضي اليمنية. وقد أثبت هذا صحة التقييمات «الإسرائيلية» بشأن قدرات أنصار الله ونواياهم.
- حصار البحر الأحمر: شن اليمنيون حملة منسقة من الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مستهدفين في البداية السفن التي لها صلة بـ«إسرائيل»، ثم وسعوا نطاق هجماتهم لتشمل السفن الأمريكية والبريطانية وأي سفينة تتجه إلى الموانئ «الإسرائيلية». أدت هذه الهجمات إلى تعطيل حركة الملاحة العالمية، وإجبار شركات الشحن الكبرى على تغيير مسارها حول أفريقيا، ورفع تكاليف التأمين والشحن بشكل كبير، مما أثر بشكل مباشر على ميناء «إيلات» الذي شهد انخفاضاً حاداً في نشاطه.
هذه الإجراءات لم تكن مجرد مناوشات رمزية، بل كانت تطبيقاً عملياً لاستراتيجية «خنق إسرائيل» بحرياً، وهو ما أجبر «إسرائيل» والمجتمع الدولي على الرد. قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً تحت اسم «عملية حارس الازدهار» لتأمين الملاحة، وقامت بشن غارات جوية على مواقع يمنية، لكن التهديد لم يتم القضاء عليه بالكامل.

4. بنية الأمن الجديدة في البحر الأحمر ودور «إسرائيل»
أدت التهديدات المتصاعدة من اليمن إلى تسريع تشكيل بنية أمنية إقليمية جديدة، لعبت فيها «اتفاقيات أبراهام» عام 2020، دوراً محورياً. لم تكن هذه الاتفاقيات مجرد معاهدات سلام، بل كانت أساساً لتحالف استراتيجي غير معلن بين «إسرائيل» ودول الخليج (الإمارات والبحرين، وبشكل غير مباشر السعودية) لمواجهة التهديد الإيراني المشترك. أصبح اليمن والبحر الأحمر مسرحاً رئيسياً لهذا التعاون:
- التعاون الاستخباراتي: تشير تقارير عديدة إلى وجود تنسيق استخباراتي وثيق بين «إسرائيل» والإمارات والسعودية فيما يتعلق برصد تحركات اليمنيين وشحنات الأسلحة الإيرانية. هذا التعاون يمنح «إسرائيل» «عيوناً وآذاناً» في منطقة كانت بعيدة عن متناولها المباشر.
- التنسيق العسكري: على الرغم من حساسيته، هناك تنسيق متزايد تحت مظلة القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، التي انضمت إليها «إسرائيل» رسمياً في عام 2021. هذا يسمح بتخطيط مشترك، ومناورات بحرية، وتطوير استراتيجيات دفاعية متكاملة لحماية الممرات المائية.
- الدور «الإسرائيلي» كـ«مزود أمن»: تسعى «إسرائيل» إلى تقديم نفسها كشريك أمني لا غنى عنه لدول الخليج، حيث تعرض خبراتها التكنولوجية والعسكرية (مثل أنظمة الدفاع الجوي والرادارات والمراقبة) للمساعدة في مواجهة التهديدات الصاروخية والطائرات بدون طيار القادمة من اليمن أو إيران.
من خلال هذه الشبكة من التحالفات، لم تعد «إسرائيل» تتعامل مع التهديد اليمني بمفردها، بل كجزء من جبهة إقليمية أوسع. الاستراتيجية «الإسرائيلية» هنا ليست التدخل المباشر في «الحرب الأهلية اليمنية»، وهو ما تعتبره «إسرائيل» «مستنقعاً» سعودياً وإماراتياً، بل هي استراتيجية «احتواء من بعيد» تقوم على الدفاع والردع وبناء التحالفات.

خاتمة: اليمن في الحسابات الاستراتيجية المستقبلية لـ«إسرائيل»
لقد قطع اليمن شوطاً طويلاً في سلم الأولويات الاستراتيجية «الإسرائيلية». لم يعد مجرد نقطة جغرافية نائية، بل أصبح لاعباً نشطاً ومؤثراً في أمن «إسرائيل القومي». إن التهديد الذي يمثله اليمنيون اليوم ليس مجرد تهديد عسكري مباشر، بل هو تهديد متعدد الأوجه: اقتصادي عبر تعطيل التجارة، واستراتيجي عبر استكمال «طوق النار» الإيراني، ونفسي عبر إثبات قدرة أعداء «إسرائيل» على ضربها من مسافات بعيدة.
الخطط «الإسرائيلية» المستقبلية للتعامل مع اليمن لا تتضمن على الأرجح تدخلاً عسكرياً برياً مباشراً، بل سترتكز على مسارات متعددة:
1. تعزيز الدفاعات: الاستثمار المستمر في أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي مثل «آرو» و«مقلاع داوود» و«القبة الحديدية البحرية»، وتكثيف الدوريات البحرية في جنوب البحر الأحمر.
2. العمل من خلال التحالفات: تعميق الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة ودول الخليج ومصر لإنشاء جدار دفاعي واستخباراتي مشترك في منطقة البحر الأحمر.
3. الضغط على إيران: مواصلة «الحرب بين الحروب» ضد إيران ولبنان وأماكن أخرى، بهدف تعطيل خطوط إمداد الأسلحة إلى اليمنيين وإضعاف قدراتهم.
4. الردع المباشر: الاستمرار بخيار توجيه ضربات دقيقة ومحدودة ضد أهداف يمنية استراتيجية إذا تجاوزت تهديداتها «الخطوط الحمراء» التي وضعتها «إسرائيل».
لقد فرض اليمن نفسه بقوة على طاولة صناع القرار في «تل أبيب». وطالما بقيت جماعة الأنصار قوة مسيطرة في اليمن، وطالما استمر تحالفها مع إيران، فإن الساحة اليمنية ستظل عنصراً دائماً وحيوياً في التفكير الاستراتيجي «الإسرائيلي»، كجبهة جنوبية تتطلب اليقظة الدائمة والتخطيط المعقد.