من القباب الحديدية إلى القبور الخرسانية.. اليمن يُجبر "إسرائيل" على حفر ملاجئ محصّنة في شوارع "إيلات" لأول مرة
- تم النشر بواسطة عادل عبده بشر / لا ميديا

عادل بشر / لا ميديا -
في مشهد غير مسبوق منذ احتلال فلسطين عام 1948، لجأ الكيان الصهيوني إلى حفر ملاجئ وغرف محصنة في الشواطئ والحدائق العامة بمدينة أم الرشراش "إيلات"، جنوبي فلسطين المحتلة، وهي المدينة التي لطالما رُوّج لها بوصفها "لؤلؤة البحر الأحمر" وواجهة السياحة "الإسرائيلية" المفتوحة على العالم.
غير أن تلك الصورة السياحية المشرقة تحولت خلال الأشهر الأخيرة إلى واجهة قلق وخوف دائم، بعد أن تمكنت الطائرات المسيّرة اليمنية من اختراق أعتى منظومات الدفاع الجوي "الإسرائيلي" وتحقيق إصابات مباشرة في قلب المدينة.
التحرك الأخير، الذي أقرّته الجبهة الداخلية "الإسرائيلية" وبدأت بلدية "إيلات" أمس الأول بتنفيذه، يقضي بنشر ملاجئ متنقلة على الشواطئ والملاعب والحدائق العامة، بارتفاع 2.40 مترا ومساحة خمسة أمتار مربعة للواحد، لتكون بمثابة "حل مؤقت وآمن" للمستوطنين والزوار عند إطلاق الصافرات إنذاراً بهجوم يمني بطائرات مسيّرة أو صواريخ باليستية، وفقاً للإعلام العبري.
لكن هذا "الحل المؤقت" لا يخفي حقيقة الفشل المزمن في منظومة الحماية الجوية التي كان الاحتلال يتباهى بها، من "القبة الحديدية" إلى "مقلاع داوود" و"ثاد الأمريكي". فحتى المنظومات المتطورة لم تفلح في اعتراض المسيّرات اليمنية التي باتت تخترق سماء فلسطين المحتلة بسهولة وتضرب عمقها الاقتصادي والسياحي.
ويشن اليمن هجمات ضد أهداف للعدو في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، وضد السفن المرتبطة بالعدو في البحرين الأحمر والعربي، وذلك تضامنا مع قطاع غزة، الذي يتعرض لعدوان "إسرائيلي" بدعم أمريكي منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023م.
اعترافات الإعلام العبري
صحيفة "ذا تايمز أوف إسرائيل" نشرت، أمس، تقريراً مطولاً، أفادت فيه أن "السلطات في إيلات نصبت ملاجئ على الشواطئ والأماكن العامة الأخرى الأحد، في ظل تعرض المدينة السياحية المطلة على البحر الأحمر لموجة من هجمات الطائرات المسيرة التي يشنها الحوثيون في اليمن"، مشيرة إلى أن هذا التحرك لإقامة المزيد من الملاجئ يأتي بعد نجاح طائرات مُسيّرة يمنية في "الإفلات من الدفاعات الجوية والانفجار في المدينة" الأمر الذي أدى في إحدى الهجمات إلى إصابة العشرات من المستوطنين.
من جهتها اعتبرت صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية بأن نشر الغرف المحصنة يأتي ضمن خطة دفاعية جديدة، بينما أفادت وسائل إعلام عبرية أخرى أن الاحتلال عزز دفاعاته الجوية بمنظومة ليزر خاصة بالطائرات المُسيّرة، ورغم كل تلك المنظومات لا تزال المُسيّرات اليمنية تثير الرعب لدى الاحتلال وبين المستوطنين، بحسب تعبير موقع "دافار" العبري الذي أشار في تقرير له، أمس، إلى أن "إيلات" عاشت، أمس الأول، في ذعر متواصل بدأ فجراً بإطلاق صافرات الإنذار جراء هجوم يمني بصاروخ باليستي، اتضح بعد ذلك أن الهدف كان في القدس المحتلة وليس في "أم الرشراش"، ومع حلول المساء دوّت صافرات الإنذار لأربع مرات متتالية، مثيرة للذعر بين المستوطنين في "إيلات" وشوهدت الصواريخ الاعتراضية وهي تُطلق إلى السماء بينما سُمع دوي انفجار في الأرجاء، ليخرج "جيش" الاحتلال ببيان زعم فيه الاعتراض لمسيّرة يمنية.
انكشاف الجبهة الجنوبية
قبل نحو عشرة أيام فقط، شهدت أم الرشراش هجوما نوعيا بطائرة مسيّرة يمنية انفجرت داخل المدينة، ما أسفر عن إصابة 22 مستوطناً على الأقل، بينهم حالات خطيرة، رغم تفعيل صفارات الإنذار ومحاولات فاشلة لاعتراضها بصاروخين من القبة الحديدية.
تحقيق سلاح الجو لدى الكيان أقر صراحة بأن الطائرة اكتُشفت "متأخرا جدا"، وأن "إجراءات التصحيح" تم اتخاذها لاحقا. لكن الهجوم الذي تلاه بعد أيام، والذي نجحت خلاله مسيّرة أخرى في استهداف قلب المدينة، وقبل ذلك أيضاً، تمكنت قوات صنعاء من ضرب مطار رامون لمرتين متتاليتين بطائرتين مُسيرتين، كل ذلك أكد أن المشكلة ليست في الرادارات أو في الصواريخ، بل في العجز الاستراتيجي الكامل أمام سلاح منخفض الكلفة وعالي الفاعلية.
هذا التحول -وفقاً للإعلام العبري- أجبر المؤسسة الأمنية "الإسرائيلية" على إعادة النظر في توزيع منظومات الدفاع، بل واللجوء إلى حلول بدائية تشبه ما يحدث في مناطق النزاع المفتوحة، لا في "مدينة السلام والاصطياف" كما يطلق الاحتلال على "إيلات" في حملاته الترويجية السياحية.
الانعكاس الاقتصادي
في الجانب الاقتصادي، تُعد أم الرشراش أحد أهم شرايين الاقتصاد "الإسرائيلي"، إذ تعتمد بشكل رئيسي على السياحة البحرية والفنادق والميناء التجاري الذي يربط فلسطين المحتلة بآسيا وأفريقيا.
لكن الهجمات اليمنية المتكررة والمساندة لغزة أحدثت شللاً شبه تام في هذه المدينة، فقد تم إغلاق مطار رامون أكثر من مرة، وتوقفت الرحلات الجوية، وبدأ المستثمرون والسياح بمغادرتها. والفنادق التي كانت ممتلئة على مدار العام أصبحت تعاني من انخفاض الحجوزات، ووسائل الإعلام العبرية نفسها ومعها صرخات رئيس بلدية المدينة، تحذر من أن "إيلات" ستتحول إلى "مدينة أشباح" إذا استمر هذا الوضع.
الميناء الجنوبي، الذي كان يمثل نقطة بديلة لقناة السويس في نقل النفط والسيارات، تراجع نشاطه التجاري إلى أدنى المستويات ووصل في نهاية الأمر إلى إعلان افلاسه، نتيجة الضربات الجوية والحصار البحري الذي تفرضه صنعاء على الملاحة الصهيونية في البحر الأحمر.
وهذا ما اعتبره محللون اقتصاديون "إسرائيليون" بأنه "ضربة استراتيجية لاقتصاد الكيان"، لأن "إيلات" لم تعد فقط هدفا سياحيا، بل أصبحت نقطة ضعف أمنية واقتصادية مكشوفة بالكامل.
البعد النفسي والسياسي
من الناحية النفسية، يرى خبراء أن نصب الملاجئ على الشواطئ وفي الأماكن العامة، يُشكل صورة رمزية للانكسار "الإسرائيلي" أمام خصم لم يكن في الحسابات العسكرية التقليدية.
فـ"إيلات" أصبحت اليوم تُدار بذهنية الخوف.. صفارات إنذار كل بضعة أيام، أوامر عسكرية للمدنيين بالاستلقاء على الأرض، وتعليمات بانتظار عشر دقائق بعد كل إنذار، في مدينة كانت تُقدَّم على أنها الملاذ الآمن للمستوطنين من صواريخ غزة ولبنان.
سياسيا، هذا التطور يفضح محدودية الحماية الأمريكية للكيان، إذ إن المنظومات الأمريكية مثل "ثاد" و"الليزر الدفاعي" لم تغيّر الواقع الميداني، ما يعني أن "إسرائيل" باتت تواجه معادلة جديدة جسّدها اليمن عمليا عندما نقل المعركة إلى عمق البحر الأحمر، فأجبر الاحتلال على التراجع إلى الملاجئ بدلا من شواطئ الرفاهية.
من القباب الحديدية إلى القبور الخرسانية
في الخلاصة ووفقاً لخبراء فإن لجوء "إسرائيل" إلى نصب ملاجئ عامة في شوارع "إيلات" ليس إجراء تقنيا فحسب، بل علامة فارقة في مسار الصراع الإقليمي.
فهو يعني أن الكيان، الذي بُني على أسطورة "التفوق العسكري المطلق"، بدأ يعيش زمن الاحتماء بدل الهجوم، وأن الطائرات اليمنية الصغيرة، التي لا تتجاوز قيمتها آلاف الدولارات، استطاعت أن تهزّ ثقة "تل أبيب" بنفسها أكثر مما فعلت الجيوش الكبيرة.
أم الرشراش اليوم ليست مجرد مدينة ساحلية مضطربة، بل مرآة تعكس انكشاف "إسرائيل" أمام محور المقاومة، وتحوّل "القبة الحديدية" إلى شعار خاو أمام واقعٍ جديد تُفرض فيه المعادلات من صنعاء لا من "تل أبيب".
وهكذا، من بين أضواء المنتجعات المطفأة، وصوت صفارات الإنذار المتكررة، يلوح مشهد رمزي عميق "إسرائيل تختبئ تحت الأرض وفي الملاجئ، بينما اليمن يحلّق في السماء".
المصدر عادل عبده بشر / لا ميديا